لم يعد الحشيش والكبتاغون محافظين على مكانتهما بين متعاطي المواد المخدرة شمال غرب سوريا، فقد غزا “اتش بوز” المنطقة وزاد الإقبال على تعاطيه وانتعشت تجارته والترويج له. يطلق على “اتش بوز” أسماء عدة، كـ”الطبشور والأيس والثلج وشبو وكريستال”، وهو عبارة عن حبيبات تشبه بلورات الثلج أو الكريستال، ويسبب الإدمان عليه من الجرعة الأولى بخلاف باقي المخدرات.
بحسب معهد فيريل الألماني للدراسات، فإنه يعد أخطر أنواع المخدرات المنتشرة في العالم حاليًّا، وتعتبر الهلوسات السمعية والبصرية والأوهام والانفصال عن الواقع والسلوك العدواني والهيجان، أهم أعراض جرعاته الأولى، ثم يؤدي إلى فقدان الذاكرة (الزهايمر) مع زيادة جرعاته، والشيخوخة المبكرة وفقدان الشهية وتلف خلايا الكبد والميل للعنف وارتكاب الجريمة، وأخيرًا التجلط الدماغي والموت.
“اتش بوز” قاتل بشع
من أشهر الجرائم التي اتضح أن سببها مخدر “اتش بوز” واقعة حدثت في بلدة الراعي بريف حلب، ديسمبر/كانون الأول الماضي، حين أقدم شخص على قتل أخيه وزوجته وأولاده الخمس، وإصابة أفراد آخرين في الأسرة، مستخدمًا ثلاثة أسلحة: رشاش كلاشنكوف ومسدس وسكين، وأشارت مواقع محلية حينها إلى أن القاتل قتل شقيقه بسبب قيام الأخير بسجنه مرات عدة لتعاطيه المخدرات.
في حادثة منفصلة، ألقت الشرطة العسكرية بمنطقة عفرين بريف حلب القبض على أب مدمن أقدم – تحت تأثير المخدرات – على اغتصاب ابنته القاصر بعدما قدمت الأم شكوى ضده قبل شهرين تقريبًا.
وفق إحصائية حصل عليها “نون بوست” من “المركز السوري لمحاربة المخدرات” (SCDC)، وهو مؤسسة مدنية متخصصة في محاربة المخدرات وعلاج الإدمان والتعاطي شمال سوريا، فإن ما يعادل 30% من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و30 يتعاطون المواد المخدرة بما فيهم طلاب مدارس، وأن 90% من متعاطي مادة “اتش بوز” يقعون في الإدمان من المرة الأولى لما لها من تأثير كبير على المخ.
يعد الفلتان الأمني وانعدام الرقابة أبرز أسباب انتشار المواد المخدرة، بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالعوامل النفسية التي خلفتها ظروف الحرب والنزوح والفقر والقتل، إذ يؤكد حسن جنيد مدير المركز، لـ “نون بوست” أن انتشار المخدرات كبير ومخيف شمال غرب سوريا، ويعد “اتش بوز” أو “الكريستال ميث”، أخطر أنواعه، مضيفًا “نسبة التعاطي تزداد في شمال غرب سوريا لعدة أسباب، أبرزها الافتقار للرعاية والخدمات والتوعية بآثار المخدرات وأضرارها، لا سيما في ظل غياب التعليم والمؤسسات الخدمية، إضافة إلى المشاكل الأسرية وغياب رقابة الوالدين اللتين تشكلان عاملًا مشتركًا في ازدياد الإدمان الذي ينتشر يومًا بعد يوم كالنار في الهشيم”.
حسب جنيد أيضًا فإن نسبة تعاطي “اتش بوز” تزداد بشكل كبير بين الشباب وبين صفوف المقاتلين في المنطقة، ما يؤدي إلى ارتكاب جرائم عدة، كالجريمة الأخيرة التي حصلت في بلدة الراعي ثم اتضح أن القاتل كان يتعاطى هذا المخدر، إضافة إلى تصاعد وتيرة العنف الأسري والمجتمعي، رغم ارتفاع سعره، فقد وصل سعر الغرام الواحد منه إلى 600 ليرة تركية (ما يعادل 33 دولارًا)، وهو سعر مرتفع مقارنة بالأوضاع المعيشية وارتفاع نسب البطالة، حيث يطلق عليه “مخدر الأغنياء”، وهو ما ينذر بزيادة حوادث السرقة والنصب والقتل بداعي الابتزاز.
إجراءات قاصرة
تعد سوريا اليوم على رأس قائمة الدول العربية المصنعة والمصدرة للمخدرات باختلاف أنواعها، ففي 19 سبتمبر/أيلول الماضي، قالت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية إن سوريا باتت أكبر منتج للكبتاغون في العالم، مشيرة إلى ضبط 250 مليون حبة منذ بداية عام 2022، وباتت تحوي معامل على امتداد جغرافيتها لأربعة أنواع تجارية معروفة وهي: الصفراء والبيضاء والكريستالية والسمراء، وفي كل مناطق أطراف النزاع، يأتي في المقدمة مناطق سيطرة قوات النظام التي تحوي معامل بإشراف ميليشيا حزب الله اللبناني، وتصنّع كميات كبيرة بمختلف الأنواع، إلا أن مادة “اتش بوز” تنقل مادتها الأساسية (كريستال ميث) من المصدر إيران عبر العراق وصولًا إلى مناطق شرق سوريا ثم إلى مناطق شمال غرب سوريا عبر المهربين وقياديين عسكريين من جميع الأطراف، لتبدأ بعدها عملية الترويج والبيع.
يقول مدير صحة إعزاز بريف حلب، الطبيب حسان إبراهيم: “اتش بوز هو المخدر الأكثر انتشارًا في مناطقنا، ويكفي الغرام الواحد منه لسبع أو ثماني جرعات، وله تأثير خطير ومباشر على العقل والجهاز العصبي، وقدرة تدميرية هائلة تستهدف خلايا الدماغ والجهاز المناعي، يؤخذ عن طريق الاستنشاق المباشر لدخانه بعد إحراقه ضمن سلوفان أو زجاج رقيق وتعريضه لمصدر حراري من الأسفل”.
اعراض اتش بوز
ولفت إبراهيم إلى أن العلامات الجسدية التي يعرف منها المتعاطي هي: العنف والعدوانية والميول الانتحارية وكثرة الحركة والكلام والشحوب، مضيفًا الإجراءات التي اتخذتها المديرية للحد من معدلات التعاطي والإدمان، ومن ضمنها: ضبط الوصفات الطبية للأدوية المخدرة والمسكنة، عبر تحذير الأطباء بمنع صرفها إلا للضرورة القصوى، وتحذير الصيادلة من صرف أي دواء إلا بموجب وصفات طبية صادرة عن الأطباء، وتحديد كمية الأدوية المخدرة والمسكنة في الصيدليات، والتشديد على الحواجز بالاتفاق مع الجهات الأمنية المختصة، وإطلاق عدة برامج توعية تستهدف شرائح مختلفة من المجتمع بين الحين والآخر، والعمل حاليًّا على إنشاء مصح لعلاج متعاطي المخدرات.
بالمقابل يعمل المركز السوري لمحاربة المخدرات عبر برنامج التوعية الرقمية، على استهداف الشباب السوري في منصات المواقع التواصل الاجتماعي من خلال بوسترات وكتيبات توعوية بمخاطر المخدرات وآثارها على كل من الأسرة والمجتمع، وحسب جنيد، فإنه مع بداية عام 2023 سيبدأ المركز السوري سلسلة من البرامج التوعوية مع مختصين وأطباء تشمل المخيمات والمدارس والجامعات ومعظم المناطق الواقعة في شمالي غربي سوريا، مضيفًا “المركز سيوسع نشاطاته وسيكون له فرعان شمال غرب سوريا لإعادة تأهيل المتعاطين واستقبالهم وعوائلهم ضمن برامج التمكين والتدريب والتأهيل التي يتضمنها المركز، كما سيقوم بتقديم جلسات إرشادية للمعلمين في المدارس والأسر بغية تعليمهم وإرشادهم للطرق المناسبة في التعامل مع الأبناء لا سيما المتعاطين منهم”.
القانون ونتائج عكسية
تتميز العقوبات الجنائية في قانون المخدرات السوري بطابع الشدة، وهي تندرج ضمن أربع فئات بحسب خطورة الفعل وقصد الجاني:
1- تطبق عقوبة الإعدام التي تم النص عليها في المادة 39 بالنسبة لأفعال تهريب المخدرات أو تصنيعها أو زراعة بعض النباتات المخدرة أو تهريبها أو تهريب بذورها.
2- عقوبة المؤبد والغرامة من مليون إلى خمسة ملايين ليرة سورية لمن يثبت بحقه حيازة أو إحراز مواد ونباتات مخدرة.
3- عقوبة الاعتقال المؤقت مدة لا تقل عن عشر سنوات وغرامة 500 ألف إلى مليون ليرة، لكل من يقدم مواد مخدرة للتعاطي أو يسهل تعاطيها من دون مقابل.
4- عقوبة الاعتقال المؤقت والغرامة من مئة ألف إلى خمسمئة ألف ليرة على من يحوز المخدرات بقصد التعاطي أو الاستعمال الشخصي.
أما من يثبت تعاطيه فقط فيحال إلى إحدى المصحات المختصة بمعالجة المدمنين، ولا يجوز أن تقل مدة بقاء المحكوم عليه عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على السنة، ويكون الإفراج عنه بعد شفائه بشروط ينظر فيها القاضي.
يقول المحامي محمد خيرالله الحلبي، المقيم في الشمال السوري، لموقع “نون بوست”، إن هناك الكثير من القضايا المتعلقة بالمخدرات سواء بالتعاطي أم الاتجار، خاصة مادة “اتش بوز” في المحاكم، مضيفًا “وفقًا للقانون المعمول به حاليًا في محاكم الشمال السوري، فإن عقوبة المتعاطي السجن من سنة إلى ثلاث سنوات وغرامة قد تصل إلى ثلاثة آلاف دولار، أما بالنسبة للإتجار فتتراوح العقوبة بالسجن من 3 إلى 12 سنة وغرامة تقدر بـ30 ألف ليرة تركية”.
وحسب الحلبي، يُترك للقاضي فرض الغرامات المالية وفق تقديره لأسبقيات الإتجار والكمية، مؤكدًا أن العلاج وتوفير مصحات لتخليص المتعاطين من سموم المخدرات في الشمال هو أفضل ما يقدم لهم، خاصة أن ذلك يضمن لهم بنص القانون الخصوصية وإعادة تأهيلهم مجددًا.
المصحات غائبة
تعد الوقاية والرقابة الأسرية والتوعية المدرسية خير علاج لهذه المواد المخدرة ومنها “اتش بوز”، إلا أنه ومع تزايد أعداد المدمنين باتت الحاجة ملحة لوجود مراكز ومصحات خاصة لعلاج الإدمان من المخدرات “اتش بوز” شمال سوريا، فيما تقتصر المعالجة عن طريق حبس المتعاطي من الجهات الأمنية كعقوبة له على تعاطيه ووجود مواد مخدرة معه، متذرعةً بأن السجن سيمنع وصول المادة المخدرة إليه، وبالتالي تخليص جسمه منها، إلا أن الحبوب والمواد المخدرة مثل “اتش بوز” تدخل إلى السجن وبأسعار باهظة، فضلًا عن أن السجن يؤثر بشكل سلبي على المتعاطي، فعلاج الإدمان يعتمد بالدرجة الأولى على الخصوصية والعيش بجو هادئ مبتعد عن الاختلاط بأصحاب الجنايات والجرائم، وهو ما يفسر عودة المتعاطي إلى المخدرات بعد خروجه من السجن.
يرى براء الجمعة، مختص في الصحة النفسية، في حديثه لـ “نون بوست”، أن علاج المدمنين على المخدرات، يمر بعدة مراحل، بعيدًا عن السجن وضمن مصح علاجي فقط، فالمرحلة الأولى تبدأ بالعلاج الدوائي للتخلص من السموم، ثم التأهيل النفسي، ثم مرحلة التأهيل العلمي والاجتماعي باستعادة المدمن لقدراته وفعاليته في مجال عمله وإعادة دمجه في الأسرة والمجتمع، وأخيرًا الوقاية من الانتكاس.
تعد مواجهة مروجي وتجار المخدرات أهم مطالبات الشارع المدني في الشمال السوري، والاهتمام بملاحقتهم بشكل حقيقي وفرض عقوبات قاسية عليهم لتكون رادعًا لهم
استعرض الجمعة جملة من العلامات النفسية للشخص المدمن، يجب على الأسرة ملاحظتها فورًا على أفرادها حال التعاطي، إذ تظهر العلامات مباشرة على شكل تغير مفاجئ في نمط الحياة كالغياب المتكرر والانقطاع عن العمل أو الدراسة، وتدني المستوى الدراسي أو تدني أدائه في العمل، والخروج من البيت لفترات طويلة والتأخر خارج البيت ليلًا، إضافة للتعامل بسرية فيما يتعلق بخصوصياته، واللامبالاة والإسراف وزيادة الطلب على النقود، والأهم تغيير مجموعة الأصدقاء والانضمام إلى “شلة” جديدة.
تعد مواجهة مروجي وتجار المخدرات أهم مطالبات الشارع المدني في الشمال السوري، والاهتمام بملاحقتهم بشكل حقيقي وفرض عقوبات قاسية عليهم لتكون رادعًا لهم، لا ملاحقة المتعاطين فقط والاكتفاء بسجنهم لفترة محدودة دون إيجاد حلول علاجية لهم، ففي الوقت الذي تطلق فيه الفصائل العسكرية بين الحين والآخر حملات أمنية تركز على الرؤوس الكبيرة المشتركة في تجارة المخدرات وتستهدف معامل التصنيع، تأتي النتائج معاكسة لذلك بانتشارٍ أكبر لأنواع المخدرات، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى حالة الفساد التي تنخر المؤسسة القضائية، وغياب دورها بشكل يضع حدًا لهؤلاء المروجين والتجار، ويوقف انتشار هذا السم بين الشباب.