بعد أيام من انتشار دعوات مكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي لمكافحة المخدرات تحت وسوم عديدة، أطلق رئيس الحكم العسكري الجنرال عبد الفتاح البرهان حملةً وطنيةً في 3 يناير/كانون الثاني الحاليّ تستمر إلى نهاية العام، يتخوف أن يستخدمها لقمع الحركة الاحتجاجية.
ما يعزز هذه المخاوف، ابتكار السلطة العسكرية في كل فترة سلاح جديد ضد الاحتجاجات من قبيل سلاح الخرطوش الذي يُطلق مقذوفات متناثرة ومسدسات تعمل بالليرز، مسببة كسور في الأيادي وحشو قاذف إطلاق الغاز المسيل للدموع بالحجارة، ما يؤكد عدم امتلاكها سقفًا أخلاقيًا للعنف.
فشلت محاولات سابقة، غير منظمة، من مؤيدي الحكم العسكري في إقناع الرأي العام بأن ثبات المحتجين لساعات طوالٍ أمام قمع الشرطة سببه تعاطيهم المخدرات خاصة الآيس بمترافادته العديدة مثل الشبو والكريستال ميث، ويتوقع أن تأتي الاتهامات هذه المرة من السلطة خلال الأسابيع والأشهر المُقبلة.
لا يكترث الجنرال البرهان بالسودان، والشواهد على ذلك كثيرة وأبرزها تنفيذه انقلابًا عسكريًا في 25 أكتوبر/تشرين الثاني 2021، قاطعًا طريق الانتقال إلى الديمقراطية بعد اقتراب موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين الذين كان يتقاسم معهم الحكم، ما يثير سؤال: لماذا يهتم بإطلاق حملة لمكافحة المخدرات؟
في إعلان الحملة، تجاوز البرهان الأسباب التي تدفع الشباب إلى تعاطي المخدرات وقفز إلى توزيع اتهامات بتسرب أموال المنظمات الدولية التي قدمتها لتنظيمات شبابية بغرض دعم قضايا الانتقال إلى ترويج وتعاطي المخدرات.
تظل الاحتجاجات قلق البرهان الأوحد
يتوقع المتظاهر التاج علي استغلال الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش، حملة مكافحة المخدرات في تجريم الحركة الاحتجاجية، عبر شن موجة من الاعتقالات في أوساط قادة الاحتجاجات وربطها بمخالفات جنائية لتحجيم دور الشباب في الحراك.
ويشير في حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن الاستخبارات العسكرية تملك معلومات كافية عن مُروجي وتجار المخدرات وتستطيع تجفيف منابعها دون ضجة إعلامية، لكن يبدو أن الجيش يرغب في تغيير منهج إخماد الاحتجاجات إلى تجريمها مع استمرار القمع، ويضيف “تحدث البرهان عن أموال دخلت البلاد لدعم الانتقال جرى استخدامها في المخدرات، وهذا يؤكد أن الجيش يمتلك معلومات كافية عن تسرب أموال لصالح تجارة المخدرات، إذًا لماذا لا يقوم بإيقاف وكشف هوية الشخصيات والمراكز التي تستوردها وتروجها؟”.
تعاطي المخدرات في السابق كان من أجل تجربة شيء مُختلف وعادة ما يقلع عنه الشاب قبل أن يصل إلى مرحلة الإدمان، لكن في الوقت الحاليّ الدافع الأول هو القمع الذي يحدث من الدولة، وهذا ما ترتب عليه إحباط عام مصوب بتردي اقتصادي وفقدان الأمل بمستقبل مُشرق.
تُعتبر الحركة الاحتجاجية أكبر مُهدد لاستمرار حكم البرهان العسكري أو بقائه في منصب قائد الجيش بعد تشكيل حكومة مدنية بناءً على التفاهمات والاتفاق الإطاري الذي وقعه مع قوى سياسية ومهنية في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022، فهي تحمله الانتهاكات التي وقعت في صفوفها ومحصلتها النهائية 122 قتيلًا وآلاف المصابين.
ويستطيع البرهان الإفلات من العقاب عبر تحميل الجنود مسؤولية الانتهاكات، لكنه لا يقدر على إنهاء طموح الشباب في تجريد الجيش من شركاته التجارية التي تعمل في مجالات مدنية حيوية، إضافة إلى خضوعه للسلطة المدنية وتفكيك الجماعات المسلحة.
يعتقد الكاتب طه النعمان أن حملة مكافحة المخدرات الغرض منها إخفاء الحقيقة والجرائم الكبرى التي تنشط في الظلام، ولاتهام المحتجين بالتظاهر تحت تأثير المخدرات، ويقول: “من المعلوم أن مُتعاطِي المخدرات لا يهتم في العادة بالشأن العام وقضايا الوطن، ولا يكون لديه حتى القدرة على بذل النشاط البدني المطلوب للقيام بأي تحركات مرهقة كالجري في الشوارع والتظاهر طوال ساعات النهار تحت الهجير ومواجهة البمبان والاشتباك مع القوات النظامية.. بل هؤلاء المتعاطون يميلون دائمًا للعزلة والانطواء على الذات بعيدًا عن أي مشاركة اجتماعية حتى على مستوى الأسرة”.
كان يمكن للبرهان أن يوجه الشرطة بتكثيف نشاطها في مكافحة المخدرات، بدلًا من إطلاق حملة يشرك فيها عناصر الجيش في أعمال مدنية، فقوات الشرطة تعلن بصورة شبه يومية ضبط شبكات تروج لمخدر القنب المزروع محليًا والمعروف شعبيًا بـ”البنقو”.
يمكن تفسير النجاح الكبير في ضبط هذه الشبكات إلى معرفة الشرطة بطرق تفكير المروجين، خاصة أن مصدر مخدرات القنب معروف، لكن ثمة مخدرات مثل الآيس والكريستال انتشرت بسرعة كبيرة إلى أن أصبحت هاجسًا مجتمعيًا جرى ترجمته في مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم: “الحق ولدك”، بعد أن بدا لمعظم السودانيين أن الدولة لا تعمل على محاربته بصورة جادة، ما ساهم في انتشاره.
في الطريق لصناعة ضمير شعبي
بعد أن راج وسم “الحق ولدك” الذي يعني بالعامية السودانية الإسراع إلى إنقاذ ابنك، أُلحق به وسم آخر بعنوان: “الحق ولدك وبنتك”، فالاثنان معنيان بمكافحة مخدرات الآيس الذي يؤكد القلق المجتمعي أنه بات ذا انتشار واسع.
تحدث بعض المتعاطين في مواقع التواصل الاجتماعي عن قصص تعافيهم من الإدمان، والبعض الآخر عن بدايات تناولهم مخدر الآيس، فيما طالب كُثر بتضييق الخناق على المروجين باعتبار أن جرعة واحدة كافية لإدمانه.
نجح الهاشتاغ في إثارة مخاطر انتشار مخدرات الآيس على الملأ، لكن مُعالج الإدمان محمد إبراهيم يهدف إلى طموح أكبر، فيقول: “الترند موضة لا تستمر طويلًا، نحتاج إلى منظمات مجتمع مدني تعمل على الأرض لتوضيح مخاطر الإدمان على الفئات الشبابية”، ويضيف خلال حديثه لـ”نون بوست”: “نحتاج أيضًا إلى حملات شرطية مكثفة للقضاء على المروجين بالتزامن مع توعية شاملة في جميع وسائل الإعلام”.
يُفكر إبراهيم في وسائل لاستمرار الضغط في وسائل التواصل الاجتماعي أطول فترة ممكنة، وبالفعل شرع في تكوين خلية صغيرة يأمل أن ينضم إليها متطوعون لحث الآخرين على مزيد من التغريد عن الإدمان، وبدا المعالج متفقًا مع رأي الصحفي هيثم الطيب الذي يقول إن محاصرة المخدرات تُجرى عبر صناعة صوت شعبي كامل، ويقترح تحويل الهشتاغ إلى “نلحق أولادنا وبناتنا”.
يعتقد الطيب أن سبب انتشار المخدرات هو ضعف المجتمع والدولة في حماية الشباب ببرامج ورؤية إنسانية للحياة، لكن أستاذ علم الاجتماع في الجامعات السودانية عباس طه يقول إن الإحباط هو الدافع الأول لتعاطي المخدرات، ويفسر قائلًا: “يحاول المتعاطي الهروب من واقعه الحاليّ من خلال صناعة واقع وهمي آخر”، ويشير إلى أن النزاعات والمؤسسات الهشة والأزمات السياسية والاجتماعية تجذب الجريمة المنظمة التي تُدر ربحًا سريعًا مثل ترويج المخدرات.
أنواع المخدرات في السودان
لا توجد إحصائية متفق عليها بشأن أعلى نسبة انتشار لمخدر بعينه في السودان، لكن المتفق عليه أن المنتشر هو القنب والآيس، لكن ما يثير قلق السودانيين أن الأطفال أصبحوا من الفئات التي تتعاطى المخدرات، وذلك خلاف السابق حيث كان التعاطي منحصرًا على الفئات الشبابية.
الآيس، الشبو، الكريستال ميث، إنها مترادفات لمخدر خطير يمكن أن يؤدي إلى الوفاة، ويُصنع من عنصر الميثامفيتامين المستمد من مادة الأمفيتامين التي تساعد على دعم فعالية الأعضاء العصبية، كما أنها تحتوي على عنصر إيفيدرين وسودو إيفيدرين، لكن الأخطر هو لجوء الأشخاص الذين يبيعون مخدر الآيس إلى إضافة بعض العناصر السامة إليه من أجل زيادة تأثيره، وهذه المواد هي: بروبانون وحمض الكلوريدريك والفوسفور والكبريت وكبريتات النحاس والليثيوم.
يتفق الكثيرون على أن مخدر الآيس يُسبب الإدمان من أول جرعة، وتتمثل أعراضه في: الاكتئاب والإحباط والقلق والإرهاق والضعف البدني والانفعال والارتياب والعنف، ويستخدم المخدر بطرق عديدة من بينها: التدخين والاستنشاق وذلك بطحن حبيبات الآيس وتحويلها إلى بودرة ناعمة، إضافة إلى الحقن الوريدي بتحليل المخدر في الماء المقطر.
تعاطي المخدرات في السابق كان من أجل تجربة شيء مُختلف وعادة ما يقلع عنه الشاب قبل أن يصل إلى مرحلة الإدمان، لكن في الوقت الحاليّ الدافع الأول هو القمع الذي يحدث من الدولة
تقول الطبيبة النفسية هاجر عبد الله: “تعاطي المخدرات في السابق كان من أجل تجربة شيء مُختلف، وعادة ما يقلع عنه الشاب قبل أن يصل إلى مرحلة الإدمان، لكن في الوقت الحاليّ الدافع الأول هو القمع الذي يحدث من الدولة، وهذا ما ترتب عليه إحباط عام مصوب بتردي اقتصادي وفقدان الأمل بمستقبل مُشرق”.
ولا تُرجح هاجر أن يزيد تعاطي 25% من مجموع عدد شباب السودان للمخدرات، لكنها تشير إلى أن الخطر يكمن في الإدمان الذي يؤدي إلى ارتكاب الجرائم أو الانتحار، وترى خلال حديثها لـ”نون بوست”، أن السلطة مسؤولة بصورة مباشرة عن اتجاه الفتيات والشباب في السودان إلى تناول المخدرات الحديثة مثل الآيس، لسهولة الوصول إليه وصعوبة توقيف المروجين، علاوة على أن قوات الشرطة مهتمة بتفريق الاحتجاجات أكثر من اهتمامها بمحاربة انتشار مخدر الآيس.
معقل زراعة البنقو
قد يكون حديث الطبيبة صحيحًا إلى حد كبير، إذ تقمع الشرطة الحركة الاحتجاجية المُنادية بالحكم المدني والديمقراطية، ما أدى إلى مقتل 122 متظاهرًا في غضون 14 شهرًا، ومع ذلك نجدها تعمل على مكافحة تجارة المخدرات التقليدية إن صح الاسم.
يُزرع القنب أو البنقو في منطقة الردوم الواقعة في ولاية جنوب دارفور، وهي تحازي دولتي إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، ورغم حملات الشرطة المُكثفة لإبادة المزروع، فإن المنطقة تنتج 335 ألف طن من المخدرات سنويًا.
يرجع هذا الإنتاج الكبير إلى خصوبة الأراضي في المنطقة واستمرار فصل الخريف لفترة طويلة تصل إلى 9 أشهر، ما يعيق تحرك الآليات العسكرية، إضافة إلى أنها منطقة شبة مغلقة تنتشر فيها العصابات المسلحة التي غالبًا ما تمول زراعة المخدرات، ومع ذلك تعمل الشرطة على محاربة زراعته.
في 30 يناير/كانون الثاني 2022، تحدث مدير عام قوات الشرطة عنان حامد إلى قوة نفذت حملة في منطقة الردوم أبادت فيها 200 طن من نبات القنب، لكن عادة ما يؤكد السودانيون أن المُباد والمضبوط من المخدرات لا يتعدى الـ10% من الحجم الكلي المتداول.
يقول عنان حامد إن الشرطة تعمل على حماية عقول الشباب من خطر المخدرات عبر إبادة الزراعات الموسمية لنبات القنب بمحمية الردوم التي تواجه فيها عصابات ومجرمين يعملون على تدمير المجتمع ببث سموم المخدرات وغسل الأموال وتهريب البشر والسلاح.
ظل بعض السودانيين يتهمون السلطة بالعمل في تجارة المخدرات، وتعززت هذه الاتهامات بمعلومات نشرتها صحيفة محلية في 23 يونيو/حزيران 2019، تفيد بضبط شحنة مخدرات وصلت إلى السودان بطائرة شحن تحمل 17 طنًا من الحشيش اللبناني والحبوب المخدرة في المدرج الخاص بمجمع الصافات لصناعة الطائرات التابع للجيش.
عرفتو المخدرات بتجى بى وين وبجيبها منو
يونيو ٢٠١٩#الحق_ولدك pic.twitter.com/hqXBCS5s7k
— T. Alicheaheamer (@alicheaheamer) December 29, 2022
وتقول الصحيفة إن الشحنة التي جرى تفريقها بواسطة جنود إلى سيارات شحن، تتبع لشبكة تهريب دولية اتخذت السودان ممرًا لتهريب المخدرات إلى دولتين مجاورتين له، ومع وسم “الحق ولدك وبنتك”، نشر العديد من الأشخاص نسخة من الخبر الذي أوردته الصحيفة، ليكون السؤال: كيف تُحارب الدولة انتشار المخدرات وهي متهمة بالترويج لها؟