البحث في أروقة السياسة السودانية ومشاهدة الوضع السياسي السوداني المتأزم حاليًا يجعلك تفتش بعناية في التاريخ عن الأحوال السياسية لهذا البلد الذي يُعرف أهله بالولع الشديد بأمور السياسة والساسة، فضلاً عن كونه بلد له تأثير بارز في البعد الأفريقي كأحد أبرز الدول العربية المحتكة بسياسة القارة السمراء احتكاكًا مباشرًا بحكم الموقع الجغرافي.
عرفت السودان ثورة مبكرة على الحكم العثماني كانت قصيرة الأمد قادها “محمد المهدي” تحت اسم الثورة المهدية عام 1885، وكانت السودان لاتزال تحت الحكم المصري – الإنجليزي.
انطلقت السودان نحو الاستقلال والحكم الذاتي في عام 1953 بعد اتفاقية عقدت بالقاهرة حصلت السودان بمقتضاها على الحكم الذاتي، وقد كان افتتاح المجلس التشريعي السوداني الأول في نفس العام كأحد أدوات الحكم الحديث بالسودان مشكلاً من عدة ممثلين لأحزاب سودانية، كانت أغلبية هذا المجلس من حزب الاتحاد الوطني الذي كان يسعى للوحدة مع مصر بعد الحصول على الاستقلال وخروج الإنجليز نهائيًا من السودان، وقد ترأس “إسماعيل الأزهري” أول حكومة منتخبة في عهد السودان قامت على أمر الاستقلال؛ حتى نالته السودان بالفعل عام 1956، ومن هنا كانت الحياة السياسية السودانية نتاجًا لتنوع حزبي وتجربة سياسية ناشئة عقب إنهاء الاحتلال الإنجليزي.
فظهرت عدة أحزاب برؤى مختلفة وهو أمر يشير إلى صحية ديمقراطية، لكن الأمر في السودان مختلف إلى حد كبير، فالاختلافات الحزبية في السودان دائمًا ما تؤدي إلى وأد أي تجربة ديمقراطية حقيقية؛ ما أدى إلى قبوع البلاد تحت حكومات عسكرية مختلفة لمدة 39 عامًا من أصل 52 عامًا بعد نيل السودان لاستقلالها، وبروز دور الجيش السوداني كمتحكم في العملية السياسية السودانية لقدرته على حسم الخلافات السياسية بين الأحزاب التي دائمًا ما كانت تستدعي الجيش للاستقواء على بعضها البعض.
ففي عام 1958 صعد إلى سدة الحكم الفريق “إبراهيم عبود” بعد انقلاب عسكري ناعم، حيث استلم الجيش السلطة من الحزب المشكل للحكومة في هذا الوقت وهو حزب الأمة؛ وبهذا انتهت هذه الحقبة في السودان التي كانت تبحث البلاد فيها عن تأسيس ديمقراطي.
وخلال فترة حكم الفريق “إبراهيم عبود” عمد مجموعة من قيادات الجيش إلى القيام بأكثر من محاولة انقلاب إلا أن نظام إبراهيم عبود لم يكن يذهب إلى محاكمتهم بقدر ما كان يفضل احتواء الموقف بإدماجهم في الحكومة لاستراضائهم.
ظل الوضع على ما هو عليه حتى عام 1964، حينما قامت أول ثورة شعبية تعرفها الدول العربية والأفريقية بنسق حديث على نظام حكم عسكري، حيث خرجت جموع السودانيين إلى الشوارع مطالبة برحيل نظام المشير إبراهيم عبود آنذاك بقيادة طلاب جامعة الخرطوم؛ وهو ما استدعى الجيش للانحياز لمطالب الشعب وأُجريت انتخابات جديدة عام 1965 فاز بها حزب الأمة كحزب أول بالتشارك مع الحزب الوطني الاتحادي الذي حل في المرتبة الثانية، فيما عمدت الحكومة هذه المرة إلى إعداد مسودة للدستور الدائم للبلاد، لكن ثمة صراع أيديولجي بين الأحزاب الشمالية والجنوبية أفشل الأمر بسبب الصراع على الهوية، حيث تميل الأحزاب الشمالية الكبرى لاعتماد الهوية الإسلامية فيه، بينما أردات الأحزاب الجنوبية وضع دستور على النسق الغربي الذي لا يضع مكانًا للهوية في الدستور.
وقد دخل الصراع في السودان أثناء البحث عن تجربة حكم ديمقراطية إلى منطقة الهوية بين كلا الطرفين الإسلامي واليساري القومي الذي حسمه “جعفر النميري” بانقلاب في عام 1969 بمباركة الأحزاب الشيوعية واليسارية القومية في الخرطوم الذي حكم البلاد لأكثر من 16 عامًا.
ولكن ثمة عامل مهم في تحليل التجربة السودانية للحكم وهو عامل الجنوب الذي كان دائمًا ما يحط بأصدائه في الشمال، حيث إن أول انقلاب عسكري للفريق إبراهيم عبود أتى بعد صعوبات الوضع في الجنوب والمطالبات بالفيدرالية بعد تهميش أحزاب الجنوب، وهو ما يفيد أن الجنوب كان عاملاً مؤثرًا في جميع تجارب الحكم بالسودان.
ظل نظام “النميري” في المشهد حتى تحرك الشعب السوداني مرة أخرى في العام 1985 بعد فشل الإطاحة بالنميري عن طريق الانقلابات العسكرية الفاشلة التي كان أبرزها انقلاب 1971 الذي نجح لمدة ثلاثة أيام وعاد بعدها النميري إلى السلطة بقوة ليبية؛ أُعدم على إثرها قادة الانقلاب “علي النميري” الذي لم يستطع الصمود أمام انتفاضة أبريل عام 1985، ولم يشفع له تحوله الأيدولوجي إلى الناحية الإسلامية بإعلان تطبيق الشريعة الإسلامية قبلها بعامين؛ ما اضطر الجيش إلى عزله وتشكيل مجلس عسكري مؤقت للحكم برئاسة الفريق سوار الذهب.
لم يختفي العامل الجنوبي هذه المرة أيضًا حيث نشبت الحرب الأهلية في الجنوب قبيل انتفاضة أبريل بعد هدنة طويلة بين القوات الحكومية وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان إثر قرار النميري بتقسيم الجنوب إلى ثلاثة ولايات؛ ما أشعل الحرب في الجنوب على نظام النميري.
وما لبثت المحاولات السودانية لإنشاء حكم ديمقراطي أن عادت بعد فوز حزب الأمة بالانتخابات عام 1986 بزعامة “الصادق المهدي” بالمشاركة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي، لكن ظلت التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان رهينة تجاذبات سياسية وتفتقد إلى شرعية الإنجاز بعد تراكم المشاكل الاقتصادية والأمنية في البلاد، وهي الأزمة ذاتها التي تعاني منها الديمقراطية في البلاد العربية، حيث إن الحكومات الديمقراطية تعاني من الضعف أمام الشعب بعد إجراء الانتخابات لعدة عوامل قد تكون خارج الإرادة أو بسبب ضعف الخبرات بسبب عصور الديكتاتورية والاستبداد التي تظهر الديمقراطية كنتيجة وقتية لها ولكن ما تلبث أن تحدث الانتكاسة.
وهو ما حدث بالفعل في السودان بعد أن استولى الجيش على الحكم فيما عرف باسم “ثورة الإنقاذ الوطني” عام 1989 بقيادة إسلامية هذه المرة وهو العميد “عمر حسن البشير” الذي ترأس الجمهورية فيما بعد إلى الآن في ظل حكم لحزب واحد هو حزب المؤتمر الوطني الحاكم، الذي انبثق عنه حزب المؤتمر الشعبي تحت قيادة الإسلامي المعروف “حسن الترابي” بعد خلاقات حادة مع نظام البشير الذي أعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية بالبلاد.
حدثت عدة صراعات سياسية مع قيادات الإنقاذ لم تنته إلى الآن، حيث دخلت السودان في عهد عسكري لم تخرج منه حتى الآن وإن كان بمباركات مدنية كالعادة، لكن مازال السودان يبحث عن التجربة الديمقراطية الحقيقية التي لم تتحقق بعد.
وبالتدقيق في الحالة السودانية نجد أن العسكرية السودانية حاضرة في المشهد السياسي للبلاد وبقوة، وأنها أتت على كافة التجارب الديمقراطية في البلاد ويعزى ذلك إلى ضعف البنية التكوينية لهذه التجارب كذلك ضعف الخبرة لقياداتها، وهو ما أساء لسمعة الحكومات المنتخبة أمام العامة؛ ما فتح الباب على مصرعيه لتنصيب الجيش السوداني نفسه كحجر زواية لصناعة السياسة في السودان.
ومن العوامل أيضًا التي حالت دون تحقيق حكم سياسي ديمقراطي حقيقي بالسودان مشكلة الجنوب التي أثرت على الحياة السودانية لعقود من الزمن ثم انتهت بالانفصال، فالدخول في حرب أهلية داخل دولة مثل السودان يؤدي إلى ارتفاع الأصوات السعكرية دائمًا على الأصوات المدنية؛ وهو ما انعكس على الحكومات المتعاقبة، حيث اعتقد الجيش دائمًا أنه قادر على حل أزمات البلاد أثناء حالة الحرب هو ما لم يحدث.
فلم تكن تجارب السودان الديمقراطية ناجحة بالقدر الكافي، ولم تكن التجارب العسكرية ناجحة أيضًا كمحاولات للتغيير، إذ تم استبدال الحكومة العسكرية بأخرى على مر تاريخ الانقلابات في السودان، ولم يتم حل المشكلة في ظل تناحر سياسي بين الأحزاب المعارضة للنظام؛ ما دعى المراقبون للجزم بأن النظام الديمقراطي في السودان ليس هو المشكلة في ذاته، ولكن ليس هناك مؤسسات تتعامل بهذه الديمقراطية وأنه ليس حلاً بأي حال من الأحوال أن يستدعي أحد المؤسسة العسكرية للحكم إذا ما فشلت الحكومة المدنية المختلفة إذ إن أخطاء الديمقراطية لا تعالج بالعسكرية، هذا وتظل السودان نموذجًا عربيًا لتدخل المؤسسة العسكرية في الحكم لوأد التجارب الديمقراطية في الحكم حتى انتهى الحال لتجريف السودان من كفاءته السياسية ولم يعد سوى بعض المتناحرين مع النظام دون إيجاد بديل شعبي للتغيير.
هذا المقال يُنشر ضمن ملف “السودان من الداخل”