صُنِعت الكثير من الأفلام الدعائية على مر التاريخ، وما زالت تصنع حتى الآن بأشكال وأنماط مختلفة تتناسب مع حقبتها بحيث تصبح أكثر مرونة في تمرير الفكرة ذاتها، بيد أننا حين نذكر مصطلح “سينما دعائية” هناك عدة أفلام تقفز إلى الذاكرة مباشرة دون تردد، وتأخذ مكانها على قمة المنتجات الإبداعية التي أثرت على السينما الدعائية من حيث الشكل والمضمون.
تستدعي تلك الأفلام المنتقاة أكثر من التقنيات الدعائية، وتشتبك مع ما يتجاوز المضمون الترويجي للأيدلوجية، وهذا ما يجعلها متفردة في بنيتها ولغتها البصرية التي يوظفها المخرج بشكل واعٍ ليخدم سردية واعية بالمضمون وملمة بأدواتها التعبيرية، لذا ساهمت بعض الأفلام الدعائية في تشكيل السينما كما نراها ونتعاطى معها الآن، ربما أكثر من أي منتج إبداعي آخر، والحق أن محاولة تفكيك تلك الأفلام بمعزل عن سياقها التاريخ ورواجها الدعائي، يبرز ملامحها المتفردة وثوريتها المجددة، فأفلام سيرجي آيزنشتاين لا تقتصر على كونها أفلامًا دعائيةً، ولا يمكن حصرها في صيغة بروباغندا حربية أو سرديات وطنية مستهلكة ومباشرة.
أفلام آيزنشتاين – خصوصًا فيلمه الأعظم “المدمرة بوتمكين” – تمثل بوضوح الثورة على الشكل والتجديد في الرؤية والتنفيذ ومحاولة التعاطي مع الفكرة بشكل يلتئم تحت مصطلح الوحدة والتماسك، وهكذا أيضًا فيلم “انتصار الإرادة” لمخرجته الألمانية ليني ريفنستال، الذي يمثل منهجية جديدة في التعاطي مع البروباغندا، لذا سنحاول عرض ثلاثة أفلام مهمة أثرت في تاريخ السينما بشكل عام، وفي حقبتها الدعائية بشكل خاص وملهم.
فيلم “المدمرة بوتمكين – Battleship Potemkin” عام 1925
يعتبر فيلم “المدمرة بوتمكين” للمخرج الروسي العظيم سيرجي آيزنشتاين، واحدًا من أعظم الأفلام على الإطلاق، ورغم تصنيفه كفيلم دعائي، فإنه بلا شك واحد من أعظم الأفلام الفارقة في تاريخ السينما، إذا لم يكن أهمها على الإطلاق، بناءً على الثورة التي أحدثها في فن المونتاج والنظريات التي وضعها ووظفها المخرج في فيلمه الذي اعتمد في تكوينه على المجموعة وما يسمى بالوحدة العضوية داخل السرد التي قسم على إثرها المخرج فيلمه إلى خمسة فصول.
يتقصى الفيلم تمرد البحارة الروس ضد رؤسائهم المستبدين على متن المدمرة الحربية بوتمكين خلال ثورة 1905، وخلال محاولاتهم لتهييج سكان أوديسا – تقع الآن في أوكرانيا – ودفعهم للانتفاض، يصل القوزاق ويعصفون بالمتمردين، ما سيؤدي لاحقًا إلى الحرب التي أدت في النهاية إلى صعود الشيوعية في ثورة 1917.
ما يميز الفيلم ويجعله في مرتبة تاريخية مرموقة هي الصورة والقدرة على توظيفها وتوليفها لرواية القصة، وهو ما حدث بشكل مذهل واستثنائي في الفصل الرابع، ليخلق آيزنشتاين أشهر تسلسل مشهدي في تاريخ السينما، ويفتح الباب للكثير من التنظيرات والتجريب والمحاولات لإدخال أنماط جديدة داخل الحيز السينمائي.
تعتبر لقطة تدحرج العربة أيقونة من أيقونات السينما، بكل ما تحمله من جودة بصرية، لقد حقق آيزنشتاين معجزةً سينمائيةً خصوصًا على المستوى التقني، حين نقل هذا العدد من المشاهد ذات النطاق المكاني الواسع، والعدد الكبير من الأشخاص، لقد حقق المخرج فيلمًا دعائيًا لا يبدو دعائيًا، لقد حقق فيلمًا تقنيًا جماليًا إنسانيًا.
فيلم “انتصار الإرادة – Triumph of the Will” عام 1935
يعتبر فيلم “انتصار الإرادة” للمخرجة الألمانية ليني ريفنستال أشهر فيلم دعائي على الإطلاق، لأنه لا يبني سرديته على قصة كلاسيكية وحبكة تقليدية، بل يؤرخ للنظام النازي بطريقة الفيلم التسجيلي، ويستعرض نفوذه برصد حقيقي وذكي للاندفاع الحربي والحشود الهائلة.
لقد رسخت المخرجة للفكر النازي وأتباعه من خلال الصورة واللغة البصرية المبهرة على مستوى التسجيل والتوثيق، فرصدت المخرجة تجمع مئات الآلاف من أعضاء وقوات وأنصار الحزب النازي في سبتمبر/أيلول 1934 في نورمبرج، ليراها القائد أدولف هتلر.
على تلك الشاكلة يسير الفيلم نحو الأمام، متواليات وتسلسلات طويلة من تشكيلات حاشدة للمشاة وسلاح الفرسان ومجموعات المدفعية وحتى العمال الذين يحملون مجارفهم مثل البنادق، يسيرون في تشكيل مثالي صارم، يرفعون أذرعهم اليمنى في التحية، فيما يفتتح الفيلم ويختتم بخطابات هتلر للعامة والتجمعات التي تفرض العنف والقسوة والخوف على المشاهد بالأشكال الخارجية فقط، والتجمعات التي تخلق أنماطًا آليةً ومثاليةً، كل شيء محسوب بدقة تحيل المشاهد للدخول داخل الفلسفة النازية المتطرفة، لتصدر صورة عظيمة ومثالية للعرق النازي الذي يطيح بأي خروج عن النص المألوف والمتفق عليه.
افتقد الفيلم النزعة الفردية والتركيز الذاتي على الأفعال العارضة واليومية التي تتجاوز المنطق الحسابي الدقيق والأشكال المثالية، لم تحاول ليني ريفنستال الاشتباك مع الإنساني، وربما هذا ما منح الفيلم شكلًا دعائيًا حربيًا، فالاندماج الكامل مع الأنماط المرصودة لا يمنح مجالًا للشك والالتباس، بل يجذب المشاهد نحو الصرامة واليقين الكلي.
فيلم “ولادة أمة – The Birth of a Nation” عام 1915
يدخل الفيلم الأمريكي ضمن السينما الدعائية ويصنف كواحد من أفضل الأفلام الأمريكية على الإطلاق، رغم حملات المنع والرفض التي تعرض لها في السنوات الأخيرة من دوائر ومؤسسات الصوابية السياسية التي تمارس ضغطًا جماعيًا على القديم بما يحمل من أفكار عنصرية وأصولية، بيد أن الفيلم في عرف السينما، تحفة فنية رصعت عصر السينما الصامتة، كونه أدخل تقنيات سينمائية جديدة في عمليات السرد، إلى جانب موسيقى الأوركسترا الرائعة، والتعاطي مع القصة بلقطات لم تستخدم من قبل، وبتوليف جديد من حيث ظهور المشهد واختفائه تدريجيًا، إلى جانب طوله الزمني الممتد لثلاث ساعات، وضخامة إنتاجه ونطاقه الواسع في التصوير، إلا أن الفيلم لا ينتمي للبروباغندا السياسية بقدر ما ينتمي للترويج لفكر معين وإبرازه بشكل واضح كانتصار، والإشارة إلى أشياء معينة ووصمها بالخطيئة والذنب.
الحقيقة أن الفيلم فنيًا مهم داخل التاريخ السينمائي، لا يمكن تهميشه أو إقصاءه بشكل عام، بيد أن سمة الفن أنه يتجاوز الشكل والقالب، إلى حيث يوجد الإنسان وتتراكم أفكاره، فالفيلم يروج بشكل عام لجماعة الـ”كو كلوكس كلان ــ Ku Klux Klan” ويؤسس لولادتها، وهي منظمة أخوية عنصرية تؤمن بالتفوق الأبيض ومعاداة السامية والعنصرية ومعاداة الكاثوليكية.
تعمد هذه المنظمات عمومًا إلى استخدام العنف والكراهية ضد الأمريكيين الأفارقة بشكل عام، وفي الوقت ذاته تروج لفكرة أن المجتمع الأمريكي لا يحتمل الأمريكيين الأفارقة داخله، ويصور خطة إعادة البناء بعد الحرب الأهلية على أنها فاشلة، لذلك فقدرة الفيلم الدعائية في حقبته كان لها تأثير على تكوين الرأي العام، وترسيخ أفكار معنية داخل السياق الاجتماعي، خصوصًا أن المجتمع الأمريكي لم يكن بنفس الوعي الذي يمتلكه الآن، ولم تملك أي مؤسسة أخرى حق صنع فيلم مماثل عن ذوي البشرة السوداء، لذلك فالفيلم كان تأثيره مضاعفًا داخل حقبته الزمنية.