“كانت قرطبة في الدولة المروانية، قبة الإسلام ومجتمع علماء الأنام، بها استقر سرير الخلافة الأموية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، ولم تزل تملأ الصدور منها والحقائب، ويُباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب”.. هكذا وصف المؤرخ الجزائري أحمد بن محمد المقري التلمساني، مدينة قرطبة الأندلسية في كتابه اليانع الماتع “نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرّطيب“.
وأضاف “كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأم القرى، وقرارة أولي الفضل والتُّقى، ووطن أولي العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم، ومن أفقها طلعت نجوم الأرض، وأعلام العصر، وفرسان النَّظْم والنثر، وبها أنشئت التأليفات الرائعة، وصنِّفت التصنيفات الفائقة”.
وعنها قال أستاذ الغة الإسبانية الشهير في جامعة كامبريدج، John Brande Trend: “إن قُرْطُبَة التي فاقت كل حواضر أوربا مدنيةً أثناء القرن الرابع (الهجري) كانت في الحقيقة محطَّ إعجاب العالم ودهشته، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينَة التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمام عمومي؛ فإن أدركت الحاجة حُكَّام ليون، أو النافار، أو برشلونة إلى جرَّاحٍ، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتَّجهون بمطالبهم إلا إلى قُرْطُبَة”.
قبل ألف عام تقريبًا من الآن، كانت قرطبة، تلك المدينة التي تقع على نهر الوادي الكبير، في الجزء الجنوبي من إسبانيا، وفتحها القائد الإسلامي الشهير طارق بن زياد، عام 93هـ/711م، واحدةً من قلاع العلم والثقافة في العالم، حضارة تقارع عواصم الخلافة الإسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة، وتحولت في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات إلى منارة تهدي الحيارى وقبلة يقصدها العلماء والباحثون، وكانت أحد شظايا العلم التي أنارت أوروبا وزودتها بمداد النهضة والارتقاء لعقود طويلة.
هناك محطتان رئيسيتان عكستا مسار الانتقال من كونها مستوطنةً رومانيةً إلى مدينة إسلامية، وصولًا إلى حاضرة الخلافة ومنارة العلم ودرة تاج الدولة الإسلامية
وأصبحت قرطبة في القرن الثامن الميلادي في عهد عبد الرحمن الناصر – أول خليفة أموي في الأندلس – ومن بعده ابنه الحكم المستنصر، حاضرة العلم والعلماء ومعقل خزائن المعرفة في شتى المجالات، حتى باتت تجارة الكتب أنعش تجاراتها وأكثرها ثراءً ورواجًا، وبلغ العلماء بها مبلغًا لم تشهده حواضر الدولة الإسلامية من قبل، حتى إن المؤرخين عجزوا عن حصرهم بالكلية لكثرة عددهم وتشعب مدادهم.
في الحلقة الأولى من ملف “علماء قرطبة” نُلقي الضوء على تلك الحضارة الأندلسية الإسلامية العظيمة، التي شهد بها الجميع، الخصوم قبل الحلفاء، لنسلط الضوء على تلك المنارة الثقافية العلمية التي لا تزال تنهل منها أوروبا حتى اليوم، ثم نعرج سريعًا على أعلام تلك الحاضرة لنقف على إسهاماتهم في إثراء الحضارة الإنسانية.
قرطبة تحت الاستعمار الروماني
مرت قرطبة عبر تاريخها الممتد لمئات السنين بالعديد من المراحل والمحطات التاريخية التي أثرت في دورها الحضاري وقيمتها الإنسانية، إلا أن هناك محطتين رئيسيتين عكستا مسار الانتقال من كونها مستوطنةً رومانيةً إلى مدينة إسلامية، وصولًا إلى حاضرة الخلافة ومنارة العلم ودرة تاج الدولة الإسلامية.
قرطبة مستعمرة رومانية.. حين سيطر الرومان على قرطبة التي كانت على الجانب الشمالي لنهر بيتيس قديمًا (الوادي الكبير حاليًّا) عام 206 قبل الميلاد حولوها إلى مستوطنة وفرضوا الهيمنة الكاملة عليها، إذ كانت أرض رخاء ونماء زراعي واقتصادي، ثم صارت بعد ذلك عاصمة لإحدى الولايات التابعة للإمبراطورية الرومانية وكانت تسمى “بيتيكا” وتقع جنوب إسبانيا حاليًّا.
استمر حكم الرومان لقرطبة قرابة 700 عام، لكن الهيمنة الرومانية تلاشت بعد سقوط المدينة في أيدي قبائل البرابرة التي كانت تحكم قبضتها في ذلك الوقت على شبه الجزيرة الأيبيرية (البرتغال وإسبانيا) رفقة بعض القبائل الأخرى كالوندال، وظلت تحت سيطرتهم حتى احتلها البيزنطيون ومن بعدهم القوط الغربيين، حتى فتحها المسلمون في القرن الثامن الميلادي عام 711م.
تحت الحكم الإسلامي
فتح المسلمون قرطبة على يد القائد طارق بن زياد وجيشه الجرار الذي استطاع السيطرة على تلك المدينة الحيوية بعد نزاع طويل مع الروم البيزنطيين، ومرت المدينة تحت الحكم الإسلامي الذي استمر قرابة 4 قرون كاملة بأربع مراحل، أولها: عصر الولاة.. فبعد فتح المسلمين لقرطبة وقتل ملكها “لذريق”، جعل الأمويون الأندلس ولايةً تابعةً لولاية المغرب، حتى جعلها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز تابعةً للعاصمة الأمورية في دمشق بشكل مباشر، فيما جعل الأمويون قرطبةً مقرًا لولايتهم في الأندلس وظلت تحت سيطرتهم حتى سقطت الدولة الأموية عام 750م على أيدي العباسيين.
ثانيًا: عصر الأمويين.. بعد سقوط الدولة الأموية في دمشق فر الأمير عبد الرحمن الداخل الملقب بـ”صقر قريش” إلى الأندلس على رأس جيش كبير وأحكم قبضته عليها عام 756م وجعل قرطبة عاصمةً له، وتحت ولاية الداخل شهدت المدينة أزهى عصورها على الإطلاق، فقد بدأ الأمير في وضع اللبنات الأولى لبناء عاصمة تليق بالخلافة الإسلامية، فبدأ في بناء جامع قرطبة الكبير كجامعة لتلقي العلوم ودخول المدينة عصر النهضة العلمية الشاملة، فكان يضم نحو 27 مدرسةً يدرس فيها أكثر من أربعة آلاف عالم وطالب علم.
معركة العقاب هي المعركة التي أنهت الحكم الإسلامي على قرطبة بشكل نهائي عام 1236م، لتتحول بعد ذلك إلى ولاية مسيحية خالصة حتى اليوم
ثالثًا: عصر المرابطين.. بعد سقوط الخلافة في الأندلس في العقدين 1020 و1030م بسبب ثورة البربر وتشرذم الحكام وضعف الأنظمة ونشوء ملوك الطوائف، تقسمت الأندلس إلى دويلات عدة، بعض المؤرخين يشير إلى 12 دويلةً، أشهرها غرناطة وإشبيلية وألمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين وبطليوس، فيما تنازع حكام تلك الولايات خاصة إشبيلية وطليطلة على قرطبة قرابة 40 عامًا، حتى سقطت في النهاية في أيدي ملك إشبيلية المعتمد بن عباد عام 1078م، وهنا كانت نقطة التحول في فقدان قرطبة قيمتها التاريخية والعلمية والحضارية لصالح إشبيلية.
شهدت قرطبة تحت حكم ملوك الطوائف انحدارًا كبيرًا على المستويات كافة، وهو ما دفع فقهاء المغرب والأندلس لتقديم فتاوى لزعيم دولة المرابطين في المغرب، يوسف بن تاشفين، بمحاربة الملوك واسترداد الأندلس منهم، وبالفعل اقتحم البلاد واستولى على الأندلس كاملة بما فيها قرطبة وذلك عام 1091م.
رابعًا: حركة الموحدين.. لم تقاوم دولة المرابطين كثيرًا، فضعف الحكام وتفتت اللُّحمة وتفشي روح الانهزامية بين المسلمين، ساهموا في سقوط الدولة على يد حركة الموحدين التي هيمنت على قرطبة وباقي الأندلس منتصف القرن الثاني عشر.
وتحت حكم الموحدين عادت لقرطبة بعض من قيمتها ومكانتها وذلك حين أعادوها عاصمة للأندلس مرة أخرى، لتبدأ في استعادة بريقها الثقافي والعلمي والحضاري ليظهر على الساحة أعلام الفقه والتجديد والرياضيات والطب على رأسهم الفيلسوف ابن رشد والعالم اليهودي ابن ميمون، أحد أشهر فلاسفة اليهودية في العصور الوسطى.
وفي عام 1212م انهزمت دولة الموحدين هزيمة قاسية أمام جيوش مملكة قشتالة المسيحية على أيدي فرناندو الثالث، في معركة العقاب، وهي المعركة التي أنهت الحكم الإسلامي على قرطبة بشكل نهائي عام 1236م، لتتحول بعد ذلك إلى ولاية مسيحية خالصة حتى اليوم.
حاضرة العلوم والثقافة
يجمع العلماء بأن الحركة العلمية التي احتضنتها قرطبة واحدة من أكبر الحركات العلمية في التاريخ إن لم تكن الأكبر على الإطلاق، تلك الحركة التي مثلها عشرات العلماء في شتى المجالات من أمثال ابن حزم وابن حيان وابن رشد وابن ميمون، والقاضي ابن العربي والطبيب أبو القاسم الزهراوي والفلكي الشهير المجريطي، وعلامة الجغرافيا الشريف الإدريسي، وغيرهم من العلماء الذين ما زالت تماثيلهم شاهدةً عليهم في وسط قرطبة منذ أواخر زمن الدولة الأموية بالأندلس.
بلغت قرطبة في عهد أبو المُطرّف عبد الرحمن الناصر لدين الله (860 – 961م)، ثامن حكام الدولة الأموية في الأندلس وأول خلفاء قرطبة، أوج قمتها وازدهارها، وكان الأوروبيون يطلقون عليها “جوهرة العالم” حيث نافست في قيمتها العلمية والثقافية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية غربًا، القسطنطينية، وعاصمة العباسيين شرقًا، بغداد، كما ناطحت القاهرة والقيروان إفريقيًا.
لم يدخر الأمويون مالًا ولا جهدًا لتحويل قرطبة إلى عاصمة للثقافة والعلوم، فبرعوا في كل شيء: الزراعة والتجارة والصناعة، واستخدموا أحدث الأساليب الزراعية من شق الترع وحفر القنوات وإقامة المصارف، كما حولوا الأندلس بصفة عامة إلى بستان كبير، ولم يغفلوا الصناعات التسليحية فأبدعوا في بناء الحصون وصناعة العديد من الأسلحة.
لا تزال حتى اليوم عشرات المعالم المعمارية الحاضرة في قرطبة شاهدةً على حجم تلك الحضارة والدور الذي أدته في إثراء المسيرة الإنسانية
انتقلت قرطبة في مسارها العلمي إلى مرحلة جديدة خلال الخمسين عامًا من 1031 – 1086م، حيث العناية بالعلوم الدقيقة والدعم الذي وجهه ملوك الطائف للعلماء وطلبة العلم والباحثين، فحلقت بعيدًا في مجال الطب والعلوم الطبيعية والنباتات، وكان من نخبة علماء ذلك العصر أبو القاسم الزهراوي المعروف عند الغرب باسم “الزهرافيوس أو البوقاسيس”، وأبو مروان بن زهر، وسيتم إلقاء الضوء عليهم تفصيلًا لاحقًا.
كما نجح علماء قرطبة في تقديم العديد من الإسهامات في مجال علوم الفلك، فوضعوا تقويمات إسلامية بدلًا من التقويمات التي كان معمولًا بها، كما أسسوا بعض المفاهيم الفلكية والنظريات وحددوا أوقات الصلاة، وكان من أشهرهم أبو القاسم المجريطي وابن حزم الأندلسي وأبو إسحاق ابن الزرقاني.
ومن الفلك إلى الجغرافيا حيث تجاوز علماء قرطبة إسهامات علماء اليونان والرومان، ووضعوا نظرياتهم الخاصة التي نُسبت إليهم حتى اليوم، ومن أشهرهم الشريف الإدريسي وأبو عبيد البكري صاحب الكتاب الشهير “المسالك والممالك” الصادر عام 1068م، الذي ضم الكثير من المعلومات عن غانا وسلالة المرابطين وطرق التجارة من خلال الصحراء.
ولعلماء قرطبة باع طويل في الهندسة المعمارية والرياضيات، وعلى رأسهم أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح، المعروف باسم “المهندس” الذي وضع العديد من النظريات وحل المعادلات التربيعية والتكعيبية، وكل ما يتعلق بالخطوط المنحنية والمستقيمة، وعالم الطيران المعروف عباس بن فرناس، صاحب الإسهامات الجليلة في مجال الفلك والكيمياء والشعر والفلسفة (كان يلقب بحكيم الأندلس) ولعل إنجازه الأشهر والمرتبط به حتى اليوم في ذهن أطفال وشباب المسلمين كان في مجال الطيران، عندما أقدم على القفز من برج مسجد قرطبة، مستخدمًا المظلة التي صنعها بنفسه.
لا تزال حتى اليوم عشرات المعالم المعمارية الحاضرة في قرطبة شاهدةً على حجم تلك الحضارة والدور الذي لعبته في إثراء المسيرة الإنسانية ومنها مسجد قرطبة الذي كان جامعًا وجامعةً، وهو قلعة معمارية لا يمكن مضاهاتها وعلامة فارقة في تاريخ الفنون الهندسية من الصعب تكرارها، كذلك قنطرة قرطبة المعروفة بـ”الجسر” التي تقع على نهر الوادي الكبير، ويبلغ طولها 37 مترًا تقريبًا، وعرضها 80 ذراعًا، وارتفاعها 60 ذراعًا (الذراع يساوي 46.2 سنتيمتر).
هناك أيضًا قصور الروضة والرصافة ومدينة الزهراء التاريخية وجامع طليطلة الصغير والحمامات الشهيرة التي تعود إلى القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، فضلًا عن عشرات القلاع الدفاعية وأبرزها قلعة مريدا Merida التي أنشئت في عهد عبد الرحمن الثاني سنة 220هـ/835م، وتشبه القلاع البيزنطية في عمارتها حيث السور المربع المبني من الحجر المنحوت والأبراج المستطيلة والمربعة والباب المخفي عن الأنظار.