ترجمة: حفصة جودة
كتب إدوارد وونج وآنا سوانسون
تصطف السفن الضخمة التي تحمل القمح الأوكراني وحبوبًا أخرى على طول ميناء البسفور في إسطنبول بانتظار فحصها قبل أن تتحرك إلى موانئ أخرى حول العالم، تراجع عدد السفن التي كانت تبحر من هذا الممر المائي الضيق – الذي يربط موانئ البحر الأسود بالمياه الواسعة – عندما غزت روسيا أوكرانيا قبل 10 أشهر وفرضت حصارًا بحريًا.
تحت ضغوط دبلوماسية، بدأت موسكو بالسماح لبعض السفن بالمرور، لكنها واصلت فرض قيودها على معظم الشحنات من أوكرانيا، التي كانت تصدر مع روسيا من قبل ربع القمح العالمي.
وفي الموانئ الأوكرانية القليلة العاملة، تهاجم الصواريخ والدرونز الروسية شبكات الطاقة الأوكرانية بشكل متكرر، ما يعطل محطات الحبوب حيث يتم تحميل القمح والذرة على السفن.
أصبحت أزمة الغذاء العالمية المستمرة إحدى نتائج الحرب الروسية طويلة المدى، ما يساهم في انتشار الجوع والفقر والوفيات المبكرة.
تكافح الولايات المتحدة وحلفاؤها للحد من الخسائر، فالمسؤولون الأمريكيون ينظمون جهودهم لمساعدة المزارعين الأوكرانيين لإخراج الغذاء من البلاد عبر شبكات السكة الحديد والطرق التي تربطها بشرق أوروبا، ومن خلال السفن التي تسافر عبر نهر الدانوب.
لكن مع حلول الشتاء القارس والهجوم الروسي على البنية التحتية الأوكرانية، تزداد الأزمة سوءًا، فقد تفاقم نقص الغذاء بالفعل نتيجة الجفاف في القرن الإفريقي والمناخ القاسي غير المعتاد في أجزاء أخرى من العالم.
فرضت موسكو قيودًا على صادراتها الخاصة، ما تسبب في زيادة الأسعار في كل مكان، والأهم من ذلك أنها توقفت عن بيع الأسمدة التي يحتاجها المزارعون في جميع أنحاء العالم
يقدر برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة أن أكثر من 345 مليون شخص يعانون من خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد، بما يشكل أكثر من ضعف الرقم منذ 2019.
قال أنطوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكية في قمة الشهر الماضي مع قادة أفارقة في واشنطن: “إننا نتعامل الآن مع أزمة ضخمة لانعدام الأمن الغذائي، وهي نتاج عدة أشياء كما نعلم جميعًا، بما في ذلك العدوان الروسي على أوكرانيا”.
يسبب نقص الغذاء وارتفاع الأسعار عناءً شديدًا في إفريقيا وآسيا والأمريكتين، ويشعر المسؤولون الأمريكيون بالقلق بشأن أفغانستان واليمن خاصةً، فهما مدمرتان نتيجة الحرب، أما الدول الأخرى التي تستورد الغذاء بشكل كبير مثل مصر ولبنان فتواجه صعوبة في دفع ديونها وبقية النفقات بسبب ارتفاع الأسعار.
حتى في الدول الغنية مثل الولايات المتحادة وبريطانيا، ازداد التضخم جزئيًا نتيجة اضطرابات الحرب، ما أدى إلى ترك الناس الأكثر فقرًا دون طعام كاف.
تقول سامنثا باور مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID): “بمهاجمة أوكرانيا – سلة الغذاء العالمي – فإن بوتين يهاجم فقراء العالم ويزيد من الجوع العالمي، بينما يقف الناس بالفعل على شفا المجاعة”.
يشبه الأوكرانيون الأحداث بمجاعة “Holodomor“، عندما تسبب جوزيف ستالين بمجاعة في أوكرانيا السوفيتية قبل 90 عامًا، التي قتلت الملايين.
أعلن بلينكن يوم 20 ديسمبر/كانون الأول أن حكومة الولايات المتحدة ستبدأ في منح استثناءات ضخمة لبرنامج العقوبات الاقتصادية حول العالم لضمان استمرار تدفق المساعدات الغذائية وغيرها من المساعدات، يهدف هذا القرار إلى ضمان عدم تراجع الشركات والمنظمات عن تقديم المساعدات خوفًا من مخالفة العقوبات الأمريكية.
قال مسؤولو الخارجية الأمريكية إن هذا القرار يعد من أبرز التغييرات في سياسة العقوبات الأمريكية منذ سنوات، كما تبنت الأمم المتحدة قرارًا مماثلًا بشأن العقوبات الشهر الماضي، لكن التعطيل الروسي المتعمد لإمدادات الغذاء العالمية يفرض مشكلةً أخرى مختلفةً تمامًا.
فرضت موسكو قيودًا على صادراتها الخاصة، ما تسبب في زيادة الأسعار في كل مكان، والأهم من ذلك أنها توقفت عن بيع الأسمدة التي يحتاجها المزارعون في جميع أنحاء العالم، فقبل الحرب كانت موسكو أكبر مصدر للأسمدة.
كما أن أعمالها العدائية في أوكرانيا كان لها أثر هائل، فمن مارس/آذار إلى نوفمبر/تشرين الثاني صدرت أوكرانيا نحو 3.5 مليون طن متري من الحبوب والبذور الزيتية في الشهر، وهو انخفاض حاد من 5 إلى 7 ملايين طن متري كانت تصدرهم قبل بداية الحرب في فبراير/شباط الماضي، وذلك وفقًا لبيانات وزارة الزراعة والغذاء الأوكرانية.
كان هذا الرقم لينخفض أكثر من ذلك لو لم تُبرم الاتفاقية في يوليو/تموز الماضي من الأمم المتحدة وتركيا وروسيا وأوكرانيا التي سُميت “مبادرة حبوب البحر الأسود”، التي وافقت روسيا فيها على السماح بالتصدير من 3 موانئ أوكرانية.
قبل الحرب، كانت أسعار الغذاء قد ارتفعت بالفعل لأعلى مستوى لها منذ عقد بسبب تأثير الجائحة على سلاسل التوريد وانتشار الجفاف
واصلت روسيا إغلاق 7 من أصل 13 ميناءً تستخدمهم أوكرانيا (تمتلك أوكرانيا 18 ميناءً لكن 5 منهم في شبه جزيرة القرم التي احتلتها روسيا في 2014)، وبالإضافة إلى الـ3 موانئ في البحر الأسود، يعمل 3 آخرين في نهر الدانوب.
كانت الاتفاقية الأولية صالحة لمدة 4 أشهر فقط، لكن تم تمديدها في نوفمبر/تشرين الثاني لمدة 4 أشهر أخرى، وعندما هددت روسيا بالانسحاب في أكتوبر/تشرين الأول ارتفعت أسعار الغذاء العالمي ما بين 5 إلى 6%، وذلك وفقًا لإيزوبيل كولمان نائبة مدير “USAID“.
تقول كولمان: “آثار هذه الحرب مدمرة للغاية، إن بوتين يدفع الملايين من الناس نحو الفقر”، وبينما كان لارتفاع أسعار الغذاء العام الماضي تأثيرًا حادًا على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأمريكا الجنوبية، فلم تسلم أي منطقة من ذلك الأثر.
تقول سارا مينكر، المديرة التنفيذية لـ”Gro Intelligence” وهي منصة لبيانات المناخ والزراعة تتعقب أسعار الغذاء: “إننا نواجه زيادة في أسعار كل شيء بنسبة تبدأ من 60% في الولايات المتحدة إلى 1900% في السودان”.
قبل الحرب، كانت أسعار الغذاء قد ارتفعت بالفعل لأعلى مستوى لها منذ عقد بسبب تأثير الجائحة على سلاسل التوريد وانتشار الجفاف.
واجهت الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين – منتجو الحبوب الرئيسيون في العالم – 3 سنوات متتالية من الجفاف، فقد انخفض مستوى نهر المسيسبي كثيرًا، حتى إن السفن التي كانت تحمل الحبوب الأمريكية إلى الموانئ سويّت بالأرض مؤقتًا.
إضافة إلى ذلك، فقد أدى ضعف الكثير من العملات الأجنبية أمام الدولار الأمريكي إلى شراء الكثير من الدول غذاءً من السوق الدولي أقل مما كانت تشتري الأعوام الماضية.
تقول مينكر: “كان هناك الكثير من المشكلات الهيكلية، ثم جاءت الحرب فازداد الوضع سوءًا”، يقول المسؤولون الأمريكيون إن الجيش الروسي استهدف منشآت تخزين الحبوب في أوكرانيا عمدًا – الأمر الذي قد يعد جريمة حرب – ودمر مصانع معالجة القمح.
ذهب الكثير من مزارعي أوكرانيا إلى الحرب أو فرّوا من أراضيهم، وانهارت البنية التحتية التي كانت تعالج وتحمل القمح وزيت عباد الشمس إلى الأسواق الأجنبية.
في مزرعة تبعد 190 ميلًا جنوب كييف، تطوع 40 من أصل 350 موظفًا في الجيش، بينما تعاني المزرعة بسبب نواقص أخرى، يقول كييز هويزينجا – الشريك الهولندي – إن الهجمات الروسية على شبكة الطاقة أدت إلى إغلاق المصنع الذي يزود مزرعته والمزارع الأخرى بالأسمدة النيتروجينية.
اضطرت بقية مصانع الأسمدة في أوروبا إلى الإغلاق أو خفض إنتاجها العام الماضي بسبب ارتفاع أسعار الغاز نتيجة الحرب، يُعد الغاز الطبيعي عنصرًا رئيسيًا في إنتاج الأسمدة.
يقول هويزينجا: “بالتالي انخفض محصول هذا العام، وإذا واصلت روسيا ما تفعله فإن محصول العام العام سيكون أسوأ”، كما أضاف أن تكلفة النقل ارتفعت بشكل هائل على المزارعين في أوكرانيا.
تجاوز المزارعون ارتفاع التكلفة برفع أسعار المنتجات الغذائية، بينما استخدم آخرون أسمدة أقل في مزارعهم، سيؤدي ذلك إلى انخفاض المحاصيل في المواسم القادمة، ما يرفع أسعار الغذاء بشكل أكبر
قبل الحرب، كان المزارعون يشحنون 95% من صادرات القمح والحبوب في البلاد عن طريق البحر الأسود، كانت مزرعة هويزينجا تدفع ما بين 23 إلى 24 دولارًا في الطن لنقل منتجاتها إلى الموانئ والسفن، والآن ارتفع السعر أكثر من الضعف، بينما تكلف الطرق البديلة بالشاحنات عبر رومانيا 85 دولارًا للطن.
قال هويزينجا إن الاتفاقية مع روسيا بشأن شحنات البحر الأسود قد ساعدتهم، لكنه يشك في أن روسيا تعيق الأمر من خلال إبطاء عمليات التفتيش.
وفقًا للاتفاقية، فإن كل سفينة تغادر أيًا من الموانئ الأوكرانية الثلاث على البحر الأسود، يجب أن تخضع لتفتيش فريق مشترك من موظفين أوكرانيين وروس وأتراك ومن الأمم المتحدة بمجرد وصول السفينة إلى إسطنبول.
تقول إسميني بالا، المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة المشرف على البرنامج، إن الفرق تبحث عن أي بضائع أو أفراد غير مصرح لهم، كما أن السفن العائدة إلى أوكرانيا يجب أن تكون خالية من البضائع.
كشفت بيانات الأمم المتحدة أن معدل عمليات التفتيش انخفض في الأسابيع الأخيرة، فقد وافقت الأطراف المشاركة على نشر 3 فرق كل يوم، لكن الأمم المتحدة طلبت المزيد.
تقول بالا: “نأمل أن يتغير الوضع قريبًا، حتى تعمل الموانئ الأوكرانية مرة أخرى بطاقة أعلى، فالصادرات الأوكرانية ما زالت عنصرًا حيويًا لمكافحة انعدام الأمن الغذائي العالمي”، أضافت بالا أن قرار الأطراف المشاركة بتمديد الاتفاقية ساهم في انخفاض أسعار القمح عالميًا بنسبة 2.8%.
في الـ6 أشهر الأخيرة، تراجعت أسعار الغذاء عن الأسعار المرتفعة التي وصلت إليها في الربيع وفقًا لمؤشر جمعته الأمم المتحدة، لكن الأسعار ما زالت أعلى من السنوات السابقة، لكن المزارعين يتخوفون هذا الشتاء من ارتفاع أسعار الأسمدة التي تمثل واحدةً من أكبر تكاليفهم.
تجاوز المزارعون ارتفاع التكلفة برفع أسعار المنتجات الغذائية، بينما استخدم آخرون أسمدة أقل في مزارعهم، ما سيؤدي إلى انخفاض المحاصيل في المواسم القادمة، وارتفاع أسعار الغذاء بشكل أكبر، وتقول كولمان إن مزارع الكفاف – التي تنتج نحو ثلث الغذاء العالمي – تضررت بشكل أكبر.
في بيانهم الرسمي الصادر في نهاية قمتهم بمدينة بالي في إندونيسيا في نوفمبر/تشرين الثاني، قال قادة مجموعة الـ20 إنهم يشعرون بقلق شديد بسبب تحديات الأمن الغذائي العالمي ويتعهدون بدعم الجهود الدولية للحفاظ على عمل سلاسل التوريد الغذائية.
قالت نجوزي أوكونجو إيويالا، المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، في القمة: “إننا بحاجة لتعزيز التعاون التجاري وليس إضعافه”.
تنفق حكومة الولايات المتحدة نحو ملياري دولار في العام على الأمن الغذائي العالمي، وقد بدأت برنامجًا يُسمى “Feed the Future” بعد آخر أزمة غذائية كبيرة في 2010، يضم الآن 20 دولة.
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 11 مليار دولار لمعالجة أزمة الغذاء، يتضمن ذلك برنامجًا قيمته 100 مليون دولار يُسمى “AGRI-Ukraine” الذي ساعد نحو 13 ألف مزارع في أوكرانيا – بنسبة 27% من مجموع المزارعين – في الوصول إلى التمويل والتكنولوجيا ووسائل النقل والبذور والأسمدة والأكياس ووحدات التخزين المتنقلة، وفقًا لما قالته كولمان.
هذه الجهود قد تساعد في إعادة بناء البلاد، بالإضافة إلى التخفيف من أزمة الغذاء العالمية – يعتمد خُمس الاقتصاد الأوكراني على الزراعة كما أن خُمس القوة العاملة في البلاد مرتبطة بها، تقول كولمان: “هذا الأمر مهم جدًا للاقتصاد الأوكراني ونجاته”.
المصدر: نيويورك تايمز