بدايةً قف نتذكر ما يحيط بنا..
في العراق: داعش، بقايا أمريكا، إن لم يكونا لفظين لمسمى واحد! قتل وطائفية دامية وسيارات مفخخة تأتي على الأخضر واليابس.
في سوريا: طاغية يُقتّل شعبه وأيادٍ خارجية تدير المسرحية التي تداخلت أحداثها وتعددت شخصياتها حتى ما عدنا نفهمها، وحده لون الدماء والجثث المتناثرة يفجعنا في اليوم الواحد عديد المرات!
في اليمن “السعيد”: لا سعادة بسبب تشرذم القوى الوطنية والثورة التي خبت نارها قبل أن تنير واقعًا دامسًا بالظلم والفقر.
في مصر: عسكر خائن يدمر البلاد بغباء، في مصر وُئِدت الثورة، لكنّ الأحرار لم يكفوا عن الانتفاض رجاءً في ثورة أخرى تولد من لدنهم!
وفي ليبيا – الشقيقة الجارة -: للثورة بقية حديث، لكن صداه الرصاص والقنابل! وهل لأهل البلد أن ينصتوا لبعضهم البعض وسط ضوضاء السلاح؟! وهل تسلم ليبيا من الغرباء وسط هذه الفوضى أم أنها ستكون – من حيث لا تدري – وكرًا للإرهابيين المجرمين الذين يهددون أمنها وأمن جيرانها؟!
وأوضاع دولية أخرى أكثر تعقيدًا، وتحالفات إستراتيجية دولية لم تعلم بلد الثورة تونس أين تموقعها فيها.
بعد هذه الوقفة السريعة، التي وإن أغفلت كثيرًا من التفاصيل، فهي لم تُسفِر عن مشهد بسيط يُمْكِنُ للتحرّكات أن تكون فيه تلقائية تُمليها “الثورجية” الحالمة!
اليوم طيف واسع من أصحاب هذه “الثورجية” يلومون بل يُخَوِّنون حركة النهضة لتعاملها مع وجوه النظام السابق (البورقيبي والنوفمبري)، لكن هل حركة النهضة من أتت بهؤلاء ليكونوا الطرف الأول في المشهد السياسي التونسي أم أن صناديق الاقتراع أتت بهم لتصدح برغبة شعبية لا يمكن أن تُصمّ عليها الآذان رغم كل المؤاخذات على العملية الانتخابية.
إن حركة النهضة اليوم في وقفة تاريخية حاسمة وفي موقع لا أظنها تُحسد عليه، هذه الحركة التي طال أبناءها – قيادات وقواعد – النصيب الأوفر من ضيم النظام السابق وبطشه، تجد نفسها اليوم جنبًا إلى جنب مع رموز هذا النظام في سدة الحكم ويد في اليد لترجمة الإرادة الشعبية لبناء هذا الوطن، إن المتفرج الطُوباويّ لا يتقن غير التنظير لغد مزهر، لكن بأي آليات سنُدركه؟ هل بالتقوقع على الذات والتمسك برُؤى لا تمت لتاريخنا وزماننا بصلة؟!
الإلحاح على الخيبة التي لحقت بنا – نحن من علقوا على الثورة آمالهم – وأن لا أمل في واقعنا المُضْني، ضرب من ضروب اليأس، هذا التنظير للخيبة يدفع الكثيرين اليوم إلى تخوين من شدّوا على جراحهم ولم يجدوا غير التعامل مع الواقع – بكل تفاصيله المربكة والمؤلمة – سبيلاً للارتقاء والبحث عن سبل النجاة وسط هذا الضباب!
اليوم تونس – وسائر البلدان العربية – ليست بحاجة للمتعنّتين لمواقفهم والداعين للتخلص من الآخر الذي يختلف معهم، ليست بحاجة لغلٍّ يعمي البصائر عن مصلحة مشتركة؛ مصلحة هذا الوطن الذي إن دُمّر سنُشرّد جَمْعًا.
تونس اليوم بحاجة لعقول تفكر كيف ستخرج بنا من أوحال الأيدولوجيا المقيتة إلى سباق نظرائنا في هذا الكوكب في ميادين العلم والقضاء العادل ومؤسسات وطنية تحترم المواطنين وتعاملهم سواسيَ، واقعنا اليوم ليس هينًا، ونحن كأبناءٍ لهذا الوطن بأيدينا أن ندفع إلى تيسير هذه التحدّيات بالفهم والعمل على نشر الوعي بالكد والمثابرة والنأي عن السجال الطوباوي الذي يتركنا لقمة سائغة لأصحاب المصالح الدولية الفاجرة.
تونس – والأوطان العربية كافة – اليوم بحاجة لثوار لا “ثورجيين”! ثوار لا يعرفون اليأس ولا يُنَظِّرون للخيبة التي تحاصر إرادتهم، ثوار لا يتعلقون بأضغاث أحلام يستدعونها من الماضي، بل يستوعبون الظرف التاريخي الذي هم فيه ويبحثون في متطلباته، ثوار تمتلئ بالفكرة عقولهم قبل هدير حناجرهم، ثوار لا يندفعون بل يسددون أهدافهم برصانة وحكمة.