تجاوز النوعية Genre أصبح خاصية شائعة في أفلام الرعب، فالقالب السائد الموجه نحو تيمة بعينها، أضحى نموذجًا قديمًا بالنسبة للسينمائيين الجدد، يصلح للتوظيف داخل إطار الإشارات والتلميحات كتحية لصورٍ كلاسيكية شاركت في خلق إرث سينمائي وساهمت فيما نحن عليه الآن، لذا من الطبيعي أن تأخذ سينما الرعب نمطًا دراميًا وميلودراميًا يجعل البعض يتردد في توصيفها بالرعب.
لقد تهاوى اليقين الكلاسيكي للنوعية، وتقلصت المساحة بين حدود الأجناس السينمائية، سواء الرئيسية أم الفرعية، لتنزع السينما نحو مساحة أكبر من الارتباك، كتأثير ما بعد حداثي، يضيف أكثر للسينما من الناحية الإبداعية ويوفر مساحة أكبر للتجريب دون تعيين معايير صارمة أو نمط نموذجي للمنتج الإبداعي، ما يبرر تحقيق أفلام رعب تميل لاستحداث الرؤى واستكشاف مساحات جديدة.
طفل شرير
فيلم “الأبرياء” لإسكيل فوجت، الذي يؤسس لنموذج طفل شرير داخل حيز خوارقي، وفيلم “رجال ـ Men” لأليكس غارلاند، وفيلم “مراقب” لكلوي أوكونو، وثنائية المخرج تاي ويست: “أكس” و”بيرل ـ Pearl” آخر إصداراته الفنية – عرض خارج المسابقة الرسمية في مهرجان البندقية السينمائي -، كلها أفلام تنشد التجديد في شتى صوره، شكلًا وموضوعًا، حتى على مستوى التقنية الحكائية، فإدماج الثقل الدرامي يمنح التجربة القدرة على تجاوز النوعية.
بعد فيلمه الأول في ثلاثية الرعب “أكس” ـ المخطط إتمامها قريبًا جدًا ـ يعود المخرج تاي ويست بفيلمه الثاني الذي يمثل بادئة Prequel الثلاثية، يتدفق زمنيًا من حقبة تقليدية ومحافظة في نمطها الاجتماعي خصوصًا الريفي، نظرًا لأسباب عديدة تتعلق بالحرب العالمية الأولى وافتقاد الأطراف المتعاركة للنظام الاجتماعي الصحي لخسارة قدر كبير من الأيادي العاملة في الحرب، بالإضافة إلى انخفاض جودة الحياة وهشاشة الحالة الاقتصادية في الولايات المتحدة، واجتياح الإنفلونزا الإسبانية للعالم في ذلك الوقت.
تنطلق السردية من حضورها الزماني، عام 1918، وتكتسي بظروفٍ تاريخية تمنحها قيمة اجتماعية وتطبع شخصياتها بمسحة كلاسيكية واضحة، تتأرج بين بلاهة الريف المحببة كما في شخصية بيرل (ميا غوث)، وفظاظة حرب مزعجة، مشربة بقسوة الواقع السياسي والاجتماعي كما في شخصية الأم روث (تاندي رايت)، وعلى الرغم من صخب وعشوائية الحقبة الزمنية، كمساحة مجمعة لعدة وقائع عالمية جسيمة تتسم بالاضطراب والفوضى، يأتي فيلم “بيرل” أكثر سكونًا ورتابة، لانحصار السردية على حيز مكاني محدود، يؤطر الشخصية الرئيسية من منظور ضيق، ولا يحاول فتح خطوط سردية جانبية بحيث تخلق مجالًا للتقاطع في نقاط لاحقة من القصة، بل يركز على نموذج فردي داخل مساحة اجتماعية ضئيلة، ويحاول التعاطي معه في ظل العوامل والخواص البيئية والاجتماعية للحقبة التاريخية، يطور لدى الشخصية هوسًا بالفرار، الانعتاق من السلسلة السائدة من العادات والروتين اليومي والسعي للانفلات من نماذج الشخصيات المتاحة في المكان.
فالمزرعة وحقبة الحرب تستدعي وجود شخصيات ذات أدوار روتينية لا تقبل التغيير للحفاظ على النمط الاجتماعي والاقتصادي الذي بالكاد يكفي المنظومة متناهية الصغر، إذًا فالمكان بمفهومه الجامع يمثل سجنًا للتطلعات المستقبلية، لأنه في عمومية وجوده الكلي يشمل داخله نظامًا اجتماعيًا مرسخًا لا يملك مقومات تحقيق طموحات بيرل، فيتحول النمط الاجتماعي والخاصية المكانية تدريجيًا إلى الخصم الأول في القصة، الغريم الأساسي التي تسعى الشخصية لهزيمته والتحرر من محدوديته.
في فيلمه الثاني، يتعرض المخرج لشبيبة “بيرل”، في طورٍ ينزع لعنفوانٍ وجموحٍ فكري وجنسي مقارنة بالحقبة الزمنية، يصور تاي شخصيته الرئيسية في وضعية حالمة، متمردة داخليًا، لكنها مقيدة بالجو العام والحالة الحرجة للمزرعة والأسرة، عليها أن تتعاطي – قسرًا – مع مأساة اجتماعية وأسرية حادة، فوالدها قعيد (ماثيو سندرلاند) لا يقدر على الحركة، ووالدتها تجبرها على رعايته لأنها تعتني بالمنزل والمزرعة.
لا تشعر بيرل بالترابط الأسري المقدس، تفتقد للإلحاح الداخلي الذي يولد شعورًا بالواجب يلزم الفرد بمساعدة الأسرة، بل ترى الموضوع من منظور متناقض، ترى أن النسق الاجتماعي يحبسها داخل فروض الولاء لمنظومة لا تتسق مع أحلامها بالرقص داخل الأفلام، بالإضافة إلى توجه زوجها هاورد (أليستير سيويل) إلى الحرب منذ سنوات، ما يحرك الحاجة الجنسية في أطر متطرفة اجتماعيًا ونفسيًا.
كل هذه العوامل تشكل وعي بيرل بعالمها، وتدفعها إلى محاولات للفرار من عالمها الضيق إلى عالم أكثر إشعاعًا، حيث تراقبهن يرقصن في الغرفة المظلمة، بحركات منتظمة على إيقاع موسيقي يضبط الأيادي والأرجل، يثير دبيب أقدامهن في نفسها الأحلام الوردية، التي تتبدى من بعيد غير منطقية وكاذبة، بيد أنها في حضرة الأفلام الاستعراضية، تتشبع بأشباح الحلم الهلامية، إذًا فما يرسخه المجتمع، تزيحه السينما بخيوط الضوء السحرية، إنها المادة الخام لبناء وتغذية الأحلام.
يوسع تاي ويست عالمه عن طريق خلق امتدادات تجمع بين عالميه: الأول والثاني، فالشخصية الرئيسية في الفيلم الثاني “بيرل”، هي العجوز المضادة/الشريرة في الفيلم الأول “أكس”، لكن في طور الشباب، والحقيقة أن الفيلم مرهون بالشخصية الرئيسية، كدراسة حالة، تلتصق الكاميرا بجسد الممثلة، ولا تتحرك السردية إلا بفعلٍ ترتكبه بيرل، لا يجد المشاهد أمامه إلا التعاطي مع البطلة وربما التوحد معها.
شخصيات الفيلم
لكن انحصار الفيلم على شخصية واحدة، أضعف السردية وجعلها أكثر هشاشة، حتى مع المحاكاة الكلاسيكية والأداء المميز الذي قدمته ميا غوث، لم تقدر على رفع النسق بمفردها، فحضورها الطاغي لم يشفع للمخرج صنعه لشخصياتٍ مجوفة، بلا تاريخ ولا حاضر، حتى إن عامل العرض في السينما The Projectionist (ديفيد كورينسويت) يعرف بمهنته، لا يساهم إلا في مهمة محددة، ما يحول الشخصيات إلى نماذج كاريكاتورية في بعض أوقات الفيلم.
يختتم ويست فيلمه بمنولوج طويل، كاشف ومباشر، يعدد الأسباب التي حولت بيرل من شخصية ساذجة تتعاطى مع الحياة من منطق حالم يبتعد عن الواقع بمسافة
لا تتوقف عملية الربط على الشخصية الرئيسية التي تأخذ مكانًا مختلفًا داخل كل منتج بصري على حدة، بل تمتد إلى الفضاء البيئي، متغلغلة في الهوية والإدراك المكاني، فالمزرعة الريفية التي كانت موقعًا للأحداث في فيلم “أكس” هي نفسها التي تشهد تحول شخصية “بيرل” من فتاة ريفية ساذجة إلى امرأة مضطربة نفسيًا واجتماعيًا، مهووسة بذاتها، تتعاطى مع الأفراد حولها بمنطقٍ متوجس.
فالمكان وقيمته الاجتماعية يحيل الفيلم إلى طبقة أعلى، ربما يظهر بيرل بمظهر الضحية في بعض الأحيان، حين تتوحد في عين المشاهد قيمتان مختلفتان لهما وقع اجتماعي مختلف، فيوازي بين المكان كصورة والسجن كقيمة ومفهوم مترسخ داخل النظام المكاني، إنما – على الجانب الآخر – يلمح المكان باضطراب بيرل منذ البداية، علاقتها بالتمساح في النهر، قتلها للإوزة في البداية دون سبب واضح، يخلق نوعًا من المحاكاة في ذهن المشاهد، فقتلها للإوزة عندما ضلت الطريق إلى الحظيرة، يكافئ قتلها لجميع أبطال القصة، فسبب الموت مبطن وغامض، ودافع القتل ملتبس وغير مفهوم.
هناك بعض الأسباب التي تشحن بيرل ضد شخصيات الحكاية، إلا أنها ليست كافية للقتل، ويمكن تبرير الوقائع بوضعها داخل حيز أفلام الرعب، فالنموذج المتناول ذاته لا يأخذ من المنطق بقدر ما يحمل من العوامل والخواص الأخرى، لكن من منظور بيرل، فالنمط الاجتماعي شر مطلق، والحقيقة أن بيرل تنطلق من الحلم، وتنخرط في تصديق نفسها بشكلٍ كلي، هذا ما يثبت عليها فكرة الهوس والاضطراب، فهي لا تمنح مساحة لرؤية مغايرة داخل عقلها، ومن منطقة الحلم تنتقل إلى صفة الجنس والشهوة، حيث تعضض الخاصية من الكبت والانغلاق أكثر على الذات، خصوصًا أنها تحمل هوسًا بالجنس، ومن ثم يأتي الجنون كتابع ونتيجة للمقدمات الاجتماعية والذاتية.
يختتم ويست فيلمه بمنولوج طويل، كاشف ومباشر، يعدد الأسباب التي حولت بيرل من شخصية ساذجة تتعاطى مع الحياة من منطق حالم يبتعد عن الواقع بمسافة، فزوجها الغائب وأمها القاسية ووالدها القعيد كلها مقدمات لفشل اجتماعي وتطرف في الأفعال، لكن بغض النظر عن قوة الأداء وكثافة المونولوج وقوته، فهو على المستوى البصري لم يكن ذا قيمة، ويمكن حذفه دون ضياع المعنى العام أو إفشال السردية.
فضل ويست أن يصنع ذروة أدبية، مكاشفة كلامية تفقد السردية الكثير من تماسكها، لأنها تتعاطى مع المشاهد مباشرة، كالأطعمة الجاهزة، لا تحتاج مجهودًا لصناعتها، فهي تأتي معلبة ومهيأة للأكل، بخلاف ذلك فقط نجح المخرج في خلق مناخ من التوجس، وتصوير عدة مشاهد تقطيع مميزة، إلى جانب ميله للدراما أكثر من مشاهد الرعب العمياء، بالإضافة إلى مجهود الممثلة في ارتداء الشخصية بمنهجية كلاسيكية، سواء في حركتها أم في طريقة كلامها، حتى في أسلوب رقصها أمام اللجنة في الكنيسة، هذه الأشياء تجعل الفيلم مقبولًا، لكنه بالطبع أقل من “أكس” الفيلم الأول في السلسلة.
الجدير بالذكر أن كلا الفيلمين صور في مزرعة داخل نيوزلندا خلال جائحة كورونا، صور “أكس” أولًا، وعندما وجد الطاقم نفسه ملزمًا بالمكوث، قرروا تصوير الفيلم الثاني “بيرل” كبادئة ومكمل للفيلم الأول.