يمثل عدد من السياسيين اليوم وفي الأيام المقبلة، أمام قضاة التحقيق في تونس بتهم تتعلق أغلبها بالمس بالرئيس قيس سعيد، ما يؤكد مواصلة الأخير استهداف السياسيين بحجة حماية أمن البلاد، وتطويع القضاء خدمة لمصالحه الشخصية، بعيدًا عن تطلعات الشارع التونسي الذي يأمل تجاوز الأزمة الاقتصادية.
أزمة من شأنها أن تعمق التفاوت الطبقي في تونس وتزيد من حدة الاحتقان الاجتماعي، إذ تغيب عن الأسواق التونسية العديد من المواد الأساسية، فيما عرفت مواد أخرى ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار لم تشهده تونس من قبل.
البحيري والشابي وآخرون
في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن تسخّر مؤسسات الدولة كل جهودها لتجاوز أزمات تونس المتعددة التي مست كل القطاعات، ارتأى الرئيس سعيد التركيز فقط على مهاجمة السياسيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني ووصفهم بالخونة والمتآمرين على البلاد وغيرها من الأوصاف السلبية.
ليس هذا فحسب، إذ طوع القضاء لخدمة أهدافه، والبداية هذه السنة ستكون مع القيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري، الذي يمثل اليوم الأربعاء أمام قاضي التحقيق للرد على تهمة وجّهت له أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي في ملف انطلقت فيه الأبحاث بعد 25 يوليو/تموز 2021، وفق ما ذكره في تدوينة نشرها عبر صفحته الرسمية بموقع الفيسبوك.
أثبت سعيد في كل مرة إهماله للمسألة الاقتصادية والتركيز على الخصومات السياسية
تعرض البحيري سنة 2021، للاحتجاز في مكان سري، بعد القبض عليه يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 2021، بـ”شبهة إرهاب” ترتبط باستخراج وثائق سفر وجنسية تونسية لسوري وزوجته بـ”طريقة غير قانونية”، ليتم فيما بعد إطلاق سراحه لغياب أي دليل يدينه.
إلى جانب البحيري، من المرتقب أن يمثل أيضًا رئيس جبهة “الخلاص الوطني” المعارضة أحمد نجيب الشابي أمام القضاء صحبة 4 من أعضاء الجبهة هم: رضا بالحاج وجوهر بن مبارك وشيماء عيسى والرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، بتهم أبرزها الاعتداء على الأمن العام وإهانة الرئيس.
فضلًا عن أعضاء الجبهة الخمس، أعلن رئيس “الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية” (مستقلة) المحامي العياشي الهمامي، أول أمس الإثنين، أن وزيرة العدل أحالته إلى التحقيق بتهمة “استعمال أنظمة الاتصال لنشر إشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على الأمن العام”.
وسبق أن أصدر سعيّد مرسومًا في سبتمبر/أيلول الماضي، يتعلق بالجرائم المرتبطة بالاتصال وأنظمة المعلومات، يفرض عقوبات على مروّجي الإشاعات والأخبار الكاذبة، وذلك لملاحقة معارضيه ومنتقديه على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من قنوات التواصل.
تطويع القضاء خدمة لسعيد
وصف نجيب الشابي، ما يحصل بـ”المسرحية القضائية”، مؤكدًا أنه لن يستجيب لأي استدعاء قضائي، ولن يكون طرفًا في هذه “المسرحية”، وأضاف رئيس جبهة الخلاص الوطني في مؤتمر صحفي أمس الثلاثاء أن ما ارتكبته السلطة ضده لعبة سياسية لن تنطلي على أحد، مؤكدًا أن القضاة الذين سيحققون في قضيته لن يفلتوا من العقاب.
يؤكد كلام الشابي أن الرئيس التونسي طوّع القضاء خدمة لأجنداته السياسية، ونفهم ذلك أيضًا من كلام جمعية القضاة التونسيين التي دعت عموم القضاة إلى مواصلة التمسك باستقلالهم وحيادهم، وممارسة مسؤولياتهم القضائية بكامل النزاهة ودون الخضوع لأي ضغوط.
كما أدان المكتب التنفيذي لجمعية القضاة ما اعتبره خضوعًا من بعض القضاة في محكمة الاستئناف بالعاصمة تونس لأوامر وتعليمات وزيرة العدل بمتابعة المناضلين والنشطاء الحقوقيين، ما يعني أن سعيد تمكن من السيطرة على بعض القضاة.
ودأب سعيد منذ انقلابه على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية ليلة 25 يوليو/تموز 2021 على استغلال القضاء، لتمرير برامجه السياسية، رغم إدانته في السابق لما اعتبره تدخل القوى السياسية في القضاء التونسي.
يرى سعيد أن أفضل وأسرع طريق لتعبيد الطريق أمامه لتنزيل برنامج حكمه القائم على نظام الفرد الواحد، هو استغلال القضاء وتطويعه، كما كان عليه الوضع زمن الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة الذي عمل على إخضاع القضاء لسلطته بهدف الانفراد بالحكم وإضعاف خصومه الذين تعددت توجهاتهم، وكذلك الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي كرس القضاء لضرب خصومه السياسيين خاصة الإسلاميين.
جدير بالذكر أن تطويع القضاء أو لنقل جزء منه، لم يكن سهلًا، إذ اعتمد سعيد سياسة التنكيل والتشويه، كما اعتمد على زوجته إشراف شبيل وبعض المؤمنين بفكرة الهدم للسيطرة على القضاء، فأسند لها مهمة صناعة أذرع داخل القضاء باعتبارها قاضية.
وتستعين شبيل في هذه المهمة بالقاضية ليلى جفال التي تقلدت منصب وزيرة أملاك الدولة في مرحلة أولى ثم وزيرة للعدل في حكومة نجلاء بودن، فاستغلتا بعض الملفات التي بحوزتهن وتورط بعض القضاة الفاسدين بهدف ابتزازهم.
إهمال المسألة الاقتصادية والتركيز على الخصومات السياسية
أثبت سعيد في كل مرة إهماله للمسألة الاقتصادية والتركيز على الخصومات السياسية، رغم أن كل المؤشرات تؤكد أن تونس تعيش أزمة اقتصادية لم تعرفها في السنوات الأخيرة، ومن المرجح أن تزداد حدتها في قادم الأيام، خاصة بعد تأجيل صندوق النقد منح تونس قرضًا لتمويل موازنة الدولة.
بدءًا بنسبة التضخم التي عرفت ارتفاعًا “غير مسبوق” وصل إلى 9.8%، خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وهي أعلى نسبة تسجلها تونس منذ تسعينيات القرن الماضي، وندرة المواد الأساسية، ما جعل أغلب المساحات الكبرى والمتاجر تحدد لزبائنها كمية الشراء لبعض المنتجات، على غرار الحليب والزيت والدقيق والبيض والقهوة والزبدة.
فضلًا عن ارتفاع أسعار العديد من المواد، أبرزها المحروقات، حيث رفعت تونس سنة 2022 أسعار الوقود في خمس مناسبات، الأولى كانت مطلع فبراير/شباط، والثانية في مارس/آذار، والثالثة في 14 أبريل/نيسان، فيما كانت الرابعة منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، أما الخامسة فكانت خلال 24 ديسمبر/ كانون أول، وفي كل مرة تتم الزيادة ما بين 50 و100 مليم،
تؤكد العديد من المؤشرات أن تونس قادمة على أيام أشد ظلمة مما هي عليه الآن إن لم يتم تدارك الأمر واللجوء إلى الحوار
وصولًا إلى تواصل عجز موازنة الدولة، خاصة مع صعوبة خروج تونس للأسواق الخارجية بحثًا عن تمويلات واقتراض، ما يفرض على الحكومة اتباع إجراءات تقشف وإثقال كاهل المواطن بمزيد من الضرائب، وتحتاج تونس قروضًا خارجية بمقدار 12.6 مليار دينار (4.05 مليارات دولار) لتعبئة عجز ميزانية 2022، مقارنة بـ12.1 مليار دينار (3.89 مليارات دولار) في قانون المالية التكميلي لعام 2021.
دفع هذا الوضع حكومة بودن إلى تبني ميزانية تقوم بصفة أساسية ورئيسية على الجباية الوطنية كمصدر لتعبئة موارد الدولة مقابل التغافل عن مقدرة التونسي وظروفه الاقتصادية والاجتماعية وتجاهل سلطة الأمر الواقع، وانعكاسات ذلك على مختلف الأصعدة.
تؤكد كل هذه المؤشرات السلبية، إهمال سعيد الجانب الاقتصادي، إذ لم نره يجتمع بالوزراء المعنيين بهذا المجال لبحث الحلول الكفيلة لتجاوز الأزمة، وإنما كانت أغلب اجتماعاته مع وزراء العدل والداخلية لمتابعة سير ملاحقة السياسيين.
احتقان اجتماعي
يؤكد المحلل السياسي التونسي سليم الهمامي أن “إمعان الرئيس سعيد وجوقته من المطبلين في استهداف السياسيين طوال عام ونصف، لم يؤدّ إلا إلى مزيد من تأزيم الوضع الوطني على مختلف الأصعدة، وتراجع صورة تونس خارجيًا”.
يرى الهمامي في حديثه ل”نون بوست”، أن اتباع سعيد سياسة “التشفي من خصوم وهميين أو تلبيس معارضيه بتهم ليس لها من الصحة أساس وإهمال الجانب الاقتصادي من شأنه أن يزيد من متاعب التونسيين ويثقل كاهلهم، وقد تم معاينة ذلك في الشوارع”.
وأضاف محدثنا أن “ما يحصل من تضيييقات وخنق لكل صوت مقاوم، ولئن لاقى قبولًا من بعض الأفراد فإن عموم التونسيين لا يرون في ذلك فائدة ولا جدوى ولا يلقي بالًا إلا إلى المنجز الذي لا يزال غائبًا، غياب يجعل من الأوضاع الاجتماعية تعرف في الرداءة وتزيد تعفنا، مما سيؤدي حتمًا ومما لا يترك مجالًا للشك إلى انفجار مجتمعي وشيك”.
بالمحصلة، تؤكد العديد من المؤشرات أن تونس قادمة على أيام أشد ظلمة مما هي عليه الآن إن لم يتم تدارك الأمر واللجوء إلى الحوار لتجاوز الأزمات التي تعرفها البلاد في الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكن إن استمر سعيد على ما هو عليه فالانفجار قادم لا محالة.