نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، اتفقت دول الاتحاد الأوروبي على وضع حد أقصى لأسعار الغاز، بعد أن ناقشت لأشهر مدى جدوى الإجراء في دعم جهود أوروبا للتعامل مع أزمة الطاقة، وحماية الشركات الأوروبية، فضلًا عن الأسر من ارتفاع أسعار الغاز منذ بدء الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
ومن المرتقب أن يبدأ تطبيق سقف الأسعار بداية من 15 فبراير/شباط 2023 إذا تجاوزت الأسعار 180 يورو لكل ميغاوات/ساعة لمدة 3 أيام، لكن هذا الاتفاق يواجه معارضة كبيرة من دول داخل الاتحاد وأيضًا من كبار منتجي الغاز في العالم على غرار الجزائر.
رفض جزائري
بعد يوم فقط من قرار المجموعة الأوروبية تسقيف أسعار الغاز الطبيعي في السوق الطاقية، أبدت الجزائر – أحد أهم مصدري الغاز في العالم – موقفها الرسمي “الرافض” للقرار، محذرة من أن تكون الخطوة “أحادية الجانب” قنبلة جديدة تزيد في إشعال أسواق النفط الملتهبة.
هذا الرفض جاء على لسان وزير الطاقة والمناجم الجزائري محمد عرقاب، ففي كلمة له خلال مؤتمر صحفي مشترك مع كاتبة الدولة البرلمانية والوزيرة المنتدبة بوزارة الاقتصاد وحماية المناخ الألمانية، فرانزيسكا برانتنر، أعلن عرقاب عدم دعم بلاده للقرار الأوروبي.
بالموازنة مع ذلك، قدم الوزير الجزائري لمحةً قصيرةً عن دوافع بلاده لهذا الرفض، منها أن تسقيف الأسعار يؤثر مباشرة على الاستثمارات في المنبع، وطالب بإبقاء الأسواق حرة لمواصلة الاستثمارات والإنجازات في المنبع.
حققت صادرات الجزائر من الغاز السنة الماضية مستويات قياسية بلغت 56 مليار متر مكعب
فضلًا عن ذلك، أكد عرقاب أن أسواق الغاز المفتوحة والشفافة وغير المقيدة هي أكثر من مجرد ضرورة، مضيفًا أن ذلك يعتمد على تطوير الاستثمارات على أطر قانونية شفافة مدعومة بسياسات طاقية مالية وبيئية واضحة في البلدان المستهلكة للغاز وبلدان العبور.
يُفهم الرفض الجزائري للخطوة الأوروبية أيضًا، في دعوة الرئيس عبد المجيد تبون وزيره للطاقة إلى الشروع في العمل على زيادة إنتاج الغاز بغرض المحافظة على معدل الاستهلاك الوطني من جهة، وتقوية التصدير من جهة أخرى تنفيذًا لالتزامات الجزائر مع شركائها الأجانب من جانب آخر، أي أنه تجاهل تمامًا القرار الأوروبي لتسقيف أسعار الغاز.
مخاوف كبيرة
ترتبط قواعد السوق بالعرض والطلب، لكن القرار الأوروبي يلغي هذه القواعد ويسقف الأسعار، وهو ما تخشاه الجزائر، فتسقيف الأسعار إن تم سيؤدي إلى خفضها، ما من شأنه أن ينعكس سلبًا على الدول المنتجة بالدرجة الأولى، وبالأخص الجزائر التي يعتمد اقتصادها على صادرات المحروقات بشكل أساسي.
صحيح أن القرار الأوروبي فُرض أساسًا على روسيا التي قلّصت شحنات الغاز إلى أوروبا بعد حربها على أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية ونقص الإمدادات، إلا أن المتأثرين بالقرار كُثر.
يُحاول الأوروبيون من وراء هذا القرار الحد من تأثير ارتفاع أسعار الغاز، إلا أن عواقبه ستكون وخيمة على الدول المنتجة والمصدرة للغاز، خاصة تلك التي تعتمد على هذه المادة في تمويل موازنتها العامة، وعلى رأسهم الجزائر.
تخشى الجزائر من تأثر خططها الاستثمارية لمضاعفة إنتاجها من الغاز المُصدر، في الوقت الذي تبحث فيه زيادة حصتها في السوق الأوروبية بحكم قربها الجغرافي وتعويض الغاز الروسي الذي تراجعت إمداداته نحو أوروبا مباشرة بعد الحرب على أوكرانيا.
تبحث الجزائر، زيادة الإنتاج لدعم اقتصادها، ففي 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، كشف الرئيس عبد المجيد تبون خطط بلاده لعام 2023 لإنتاج 100 مليار متر مكعب من الغاز للتصدير فقط، ما يعني مضاعفة الإنتاج وإيجاد أسواق جديدة.
بالفعل انطلقت محاولات تحقيق هذا الهدف، إذ قررت شركة سوناطراك الحكومية إطلاق استثمارات بقيمة 40 مليار دولار تمتد حتى 2026، لتنفيذ مشاريعها واستكشافاتها المتوقفة في السنتين الأخيرتين جراء وباء كورونا، واستطاعت سوناطراك في الأشهر الأخيرة بالتعاون مع شركائها وكذا بمفردها استكشاف آبار نفطية جديدة سترفع من إنتاج البلاد في مجال النفط والغاز.
يأمل هذا البلد العربي الذي كان عملاؤه الأوروبيون مقتصرين على إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال بدرجة أقل في توسيع مبيعاته الطاقوية وتنويعها في السنوات القادمة ضمن هدف ومبتغى أساسي يتمثل في الترويج للجزائر أنها بلد مصدر للطاقة موثوق به.
تأثيرات محتملة على الاقتصاد
حقق الاقتصاد الجزائري سنة 2022 قفزة نوعية، بعد سنوات من التعثر انطلقت تحديدًا صيف 2014، إذ استفادت الجزائر من الحرب الروسية ضد أوكرانية وتراجع إمدادات الغاز الروسي نحو دول أوروبا التي اصطفت إلى جانب كييف.
السنة الماضية، كانت بمثابة السنة الذهبية للغاز الجزائري، فقد حققت صادرات البلاد منه مستويات قياسية بلغت 56 مليار متر مكعب، ما ساهم في زيادة مداخيل الجزائر منه ومن النفط، لتبلغ نحو 50 مليار دولار في 2022.
يعود هذا الأمر إلى تمكن الجزائر من إيجاد أسواق جديدة وزيادة صادراتها، مثلًا مع إيطاليا التي وقعت معها عقودًا لزيادة حجم الصادرات من 21 مليار متر مكعب إلى 25 مليار متر مكعب في 2022، لتبلغ 30 مليار متر مكعب سنويًا ما بين 2023 و2024، وأيضًا إلى مراجعة عقودها مع عملائها الرئيسيين مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، بشكل وفر لها مداخيل إضافية تتراوح بين 4 و5 مليارات دولار.
تخشى الجزائر أن تتراجع عائدات الغاز، ما سيؤثر على خطط نظام تبون لتطوير الاقتصاد الوطني
مثلت الجزائر خلال السنة الماضية، قبلة العديد من المسؤولين الأوروبيين الباحثين عن تأمين الطاقة لبلدانهم، مستفيدة من قربها الجغرافي لأوروبا وتوافرها على خطوط أنابيب لا تملكها أي دولة عربية وتوجيه معظم صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الأسواق الأوروبية بدلًا من الآسيوية.
يذكر أن الجزائر تمتلك ثلاثة أنابيب للغاز لتزويد القارة الأوروبية: الأول هو خط الأنابيب عبر المتوسط (TransMed) الذي يربط الجزائر بإيطاليا، أما الثاني فهو خط أنبوب “ميد غاز” الذي يربط ميناء بني صاف غرب الجزائر بألميريا الإسبانية، الذي تم تشغيله في 2010، ويتمثل الثالث في خط أنبوب المغرب العربي المار من الجزائر نحو إسبانيا عبر المغرب، لكن هذا الأنبوب أُغلق قبل سنة من الآن.
وفي نوفمبر/تشرين الأول الماضي، انضمت سلوفينيا إلى قائمة الدول الأوروبية التي حولت وجهتها نحو الجزائر لتأمين احتياجاتها من الغاز، فقد وقعت شركة النفط والغاز الجزائرية سوناطراك عقدًا لشراء الغاز الطبيعي وبيعه مع شركة جيوبلن السلوفينية، لتزويد سلوفينيا بالغاز عبر خط الأنابيب الذي يربط الجزائر بإيطاليا، لمدة 3 سنوات، بدءًا من شهر يناير/كانون الثاني 2023.
في نفس السياق من المهم التذكير بأن احتياطات الجزائر المثبتة من الغاز الطبيعي تبلغ نحو 4.505 مليار متر مكعب، وهو رقم ضخم، وتعتبر هذه الدولة العربية عاشر أكبر منتج للغاز في العالم، كما أنها تحتل المرتبة الثانية بين مصدري الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، وتؤمن نحو 11% من حاجيات الأوروبيين في الغاز.
تخشى الجزائر أن تتراجع عائدات الغاز، وهو ما سيؤثر على خطط نظام تبون لتطوير الاقتصاد الوطني، فالنظام يأمل أن تساهم العائدات المتأتية من صادرات الغاز والنفط في دفع اقتصاد البلاد وتنويعه واقتحام مجالات أخرى تدر المال للخزينة العامة للدولة.
نحو شهر و10 أيام تفصلنا عن الموعد المقرر لانطلاق العمل بالقرار الأوروبي القاضي بتسقيف أسعار الغاز، لكن من غير المؤكد إلى الآن قدرة الأوروبيين على تنفيذ القرار، خاصة أن المعارضة شديدة ليس من الجزائر فقط وإنما من روسيا والعديد من المنظمات والبورصات المالية الأوروبية والعالمية أيضًا.