من الطبيعي جدًا أن نجد في ذهن البشر الكثير من الأسئلة عن الأخبار والأحداث المحيطة بهم، وذلك رغبة منهم في أن يعرفوا تفاصيل هذه الأحداث وإمكانية التنبؤ بما يمكن أن يحدث مستقبلاً، إن كثرة الأسئلة في ذهن الإنسان تجعله يبحث عمن يروي شغفه في الحصول على المعلومات والأجوبة التي يريدها، فيبحث عمن يعتقد أنهم أكثر منه علمًا ومعرفة.
إن هذا بالضبط ما يحدث مع المواطن العربي، فمع الأحداث الكبيرة التي يمر بها الوطن العربي وكثرة الأخبار التي تطل يوميًا من هذه البلاد عبر الشاشات والفضائيات؛ تجعل في ذهن الإنسان الكثير من الأسئلة عن تفاصيل هذه الأحداث، ولماذا يحدث هذا كله؟! وما هو المستقبل الذي ينتظر البلاد العربية؟!
إلى أين تتجه مصر؟ وما هو مصير الأزمة السورية؟ وما هو الهدف الأهم من التحالف الدولي؟ وماذا حدث للإسلاميين في تونس؟ ولماذا الخلاف الخليجي؟ وما السبيل لإيجاد نموذجًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا من خلال قراءة التجارب المحيطة بالبلاد العربية؟ وغيرها الكثير من الأسئلة الملحّة في أذهان المواطن العربي والتي تحتاج إلى إجابات واضحة أو تصرفات واضحة من القائمين على أمر هذه البلاد، إن كثرة الأسئلة لا تعني بالضرورة التمرد على الواقع، ولا تعني أبدًا بأن هناك مؤامرة تحاك على أصحاب القرار أو لإحداث “البلبلة” بين الناس، بل على العكس، كثرة الأسئلة والحاجة إلى الأجوبة تعني بالضرورة زيادة في وعي العامة ومؤشر على أنهم جديرون بالمسؤولية، إن الخطأ الجسيم الذي يمكن أن يقع به المسؤول في البلاد العربية هو ترك صاحب السؤال والاستفسار بلا توضيح أو إجابة حقيقية لما يحتاجه، هذا يعني أن يتركه فريسة الشائعات والأخبار الموجهّة، وأرضًا خصبة للآخرين ليملأوا فراغ فكره بما لا يحمد عقباه.
إن حب الحصول على المعلومة، والسبق في معرفة الأمور والأحداث، والرغبة في زيادة المخزون المعرفي من أولويات الأمور عند الإنسان، ففيها يثق الانسان بنفسه أكثر، ويستطيع أن يكون أكثر فائدة لنفسه ووطنه.
إن هذه الثقة أمر يجب تعزيزه، ولكن مع الحذر من أن تَبني هذه الثقة جدارًا حول نظر الإنسان، فيصبح لا يرى إلا ما يراه هو، ولا يسمع إلا ممن هم محيطين به، ولا ينطق إلا بما يمليه عليه غيره، وأن تصل بالإنسان إلى أن يتقوقع على نفسه دون النظر إلى اختلافات الأمور، ودون النظر إلى خبرات وتجارب الآخرين والتي ربما يكون فيها إجابة لكثير من أسئلته.
إن العلاقة بين المسؤول وبين من يحتاج إلى إجابة لاستفساراته علاقة متكاملة، ولكل منهم واجبات لابد عليهم من القيام بها، لذلك كان قول الله تعالى على لسان الرجل الصالح الخضر إلى نبي الله موسى عليهما السلام “وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا؟” عندما طلب موسى من الخضر أن يرافقه في رحلة لطلب العلم، لقد كان الخضر واعيًا ومدركًا لسمات الإنسان البشرية في حب الاطلاع على مجريات الأمور والأحداث والدوافع إليها، لقد كان مدركًا أيضًا أن الإنسان لا يشبع من مجرد معرفة الشيء، ولكنه يدور في رأسه الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة من المعلّم أو القائد أو المسؤول، كان يدرك أيضًا أن رحلة البحث عن الحقيقة وعن العلم والمعرفة ليست رحلة مفروشة بالورود، ولكنها رحلة صعبة وشاقة وفيها الكثير من التعب لذلك تحتاج إلى الصبر والتحمل، لذلك أخبره الخضر “وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا”.
لقد كان جواب موسى عليه السلام “ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرا”، وهنا يتبين أن موسى عليه السلام كان مدركًا أيضًا أن العلم بالتصبر ابتداءً وبالعمل الدؤوب ثانيًا هو أساس طلب العلم وهو أساس رحلة البحث، وكان يدرك أيضًا بأن المُعلّم ما هو إلا بشرًا، وهو في النهاية يؤدي مهمة معينة في زمن معين في مكان معين؛ لذلك من حق المعلّم على تلميذه أن يكن له الاحترام والسمَع في رحلة البحث هذه.
رحلة البحث عن الحقيقة، والتمتع بجمال المعلومات التي يحتاجها الإنسان لا بد لها أن تمر ببعض المراحل لكي يصل الإنسان إلى ما يريد، أو لنقل لكي ينجز الإنسان ما يطمح إليه:
الصبر على طلب الأمر
وهو أساس كل شيء في رحلة البحث، فالطريق طويل وشاق، والعقبات المحيطة بالإنسان كثيرة، والكسل والجمود يتربص بالإنسان وينتظر استغلال الفرصة للانقضاض عليه، والغموض في بعض مراحل رحلة البحث كثير، والتسرع والعجلة لحصد النجاح من الأمور التي يحبها الإنسان، لذلك كان الصبر علاج كل ذلك ومقومه.
الصبر على الفشل في مراحل الحياة، الصبر على البدء من جديد، الصبر على حصد الإنجاز، الصبر على الجهد والعناء المبذول، الصبر على سوء خلق المتربصين أعداء الإنجاز، الصبر والتحلم مع المرشد، الصبر أيضًا على كم الأسئلة الرهيب الذي يدور في رأس الإنسان، والصبر على قلة الحصول على إجابات تشفي فضول الباحث.
إن الصبر لم يكن في شيء إلا زانه، ذلك الصبر الواعي المبني على مزيد من تحمل عقبات الطريق، ومزيدًا من الإصرار على الإنجاز، ومزيدًا من الرغبة في الوصول إلى ما يريده الإنسان، إن من أدوات ذلك:
– أن يكون الإنسان قادرًا على تغيير أسلوب حياته وتعاطيه مع الأمور وفق ما تقتضيه مصلحة الوصول إلى ما يريد.
– أن يسعى إلى التوازن بين أمور حياته الشخصية ومتطلبات الحياة، وبين انهماكه في البحث عن إجابات أسئلته، فالأولى ضرورية لمواصلة الطريق.
– أن يتصبر بالآخرين، بمن تربطه بهم علاقات جيدة ليعينوه على طول الطريق.
– أن يجعل لنفسه قدوة يحب أن يحقق ما حققَته وزيادة.
ولا أعصي لكَ أمرا
وهنا يجب الإشارة إلى أنه من الضروري عند الخوض في رحلة البحث والرغبة في الحصول على إجابات لما يدور في رأس الإنسان أن يعي تمامًا بأنه لن يكون وحده من يسير في هذا الطريق، لذلك عليه في هذه الحالة أن يكون على قدر من الالتزام بما يتم تكليفه به من مشرفيه وقدواته، بحيث يستطيع أن يحصل على ما يريد من معرفة وعلم، ولكن يجب الحذر هنا من أن يقع في مشكلة التسليم التام لكل ما يُعرض عليه، فلكل إنسان عقل يفكر فيه، ولكل إنسان لسان يسأل به، ولكلٍ أذن تسمع، ولكلٍ عين ترى ما يدور حولها، لذلك على الإنسان أن يجتهد كثيرًا في إعطاء الاحترام لمعلميه وأن يكن ذا خلق كريم في طلب العلم والبحث، وأن يسأل ويتحدث عما يدور في رأسه.
على الإنسان أن يكن مثل موسى عليه السلام عندما قطع وعدًا ألا يعصي أمرًا لمعلمه، ولكنه عندما شاهد ما ظنّ أنه شرًا أو ظلمًا للغير، فإنه تحدث وسأل ولم يبقَ ساكنًا ساكتًا، لقد كان متفاعلاً مع محيطه وأحداثه ولكن بأدب المتعلم، فتجده يعتذر بقوله “لا تؤاخذني بما نسيت”، فلم تمنعه الأسئلة التي في رأسه عن الاعتذار، ولم تمنعه رغبته وشغفه في معرفة مجريات الأمور والأحداث إلى قطع رحلة البحث، فالفائدة التي يريدها والإنجاز الذي يريد تحقيقه لم يتحقق بعد، فكيف يقطع الرحلة؟
إن من أدوات ذلك:
– الاحترام المتبادل مع الآخرين ضروري لكي ينجز كل منهم ما يريد ويرغب.
– السمَع للمعلم لا يعني بالضرورة أن يبقى الإنسان ساكتًا عما يدور في رأسه من أسئلة تحتاج إلى الإجابة عليها، ولكن عليه أن يسأل بلطف، وأن يتعلم بلطف، وألا يقلل الاحترام، فهو يريد التعلم!!
– يوجد مع الإنسان في طريق البحث الكثير من الآخرين، ولكلٍ هدف، فليسع كل واحد منهم إلى ما يريد تحقيقه دون أن يكون حاكمًا على أهداف الآخرين.
– على الإنسان أن يتعرف على ما يحيط به من أحداث، وأن يطلع عليها، ويحاول التفكير بها، ومن ثم عدم الخجل من طرح الأسئلة.
لا تستعجل النتائج
وكم من مشروع، وكم من سؤال، وكم من معرفة ضاعت وتاهت مع كثرة الأحداث التي تمر على الإنسان فقط بسبب استعجال النتائج وحصد الثمار، وكم من حدث وطريق انتهى بمجرد أن حصل الإنسان على شيء مما يفكر فيه، دون الوصول إلى الغاية المرجوّة!! ألم نقل أن طريق البحث طويل؟ وأن حصد الثمار والنتائج لا بد وأن يكون بعد صبر وتحمل؟ ألم تلاحظ أن الثمرة التي يتم قطفها قبل موعدها تبقى بلا طعم، وربما تسبّب الكثير من المشاكل والآلام، بينما الثمرة التي تم قطفها في الموعد المحدد والوقت المناسب طعمها حلو لذيذ؟
إن الانجاز كذلك، لا يحدث إلا إذا كان في موعده ووقته المناسب، وبعد جهد وتعب مقبول، وسعي دؤوب، وقد أدرك ذلك موسى عليه السلام عندما طلب منه الخضر الصبر على النتائج فقال له “فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لكَ منه ذكرا”.
تقبل ذلك موسى عليه السلام، ولأن الخضر يعلم بأن الإنسان لا يطيق أن يصبر على حصد النتائج طويلاً، فلم يُطل على موسى طريق البحث، فجعلها ثلاثًا حتى بدأ الخضر في شرح ما قام به لموسى وإعطائِه العلم والخبر.
– إن الانسان لا يستطيع التحمل فترة طويلة لحصد الإنجاز، لذلك على المعلّم والمرشد ألا يُبقى المواطنين لفترات طويلة دون الإجابة على أسئلتهم التي تدور في فكرهم.
– قد يعتقد الإنسان أن الوقت قد حان لحصد الإنجاز، وهذا من حقه، ولكن ليجعل لنفسه قدرًا كافيًا من التفكير بخطوة قطع رحلة الإنجاز والاكتفاء بما توصل إليه.
همسة في أذن القدوة
لا تترك من يريد إجابة لأسئلته واستفساراته دون إفادة حقيقة، فطالب المعرفة لم يختارك إلا لأنه رأى فيك مقدرة على مساعدته، لذلك كن كالخضر عندما همّ في ترك موسى عليه السلام فأخبره عن تأويل الأحداث التي مروا بها وأجابه عن أسئلته التي علقت في رأسه فقال له “هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا”، فتركُ الإنسان في حيرة من أمره للأسئلة التي تدور في رأسه أمر يهدر طاقته، ويبدد تفكيره، ويجعله شاكًا في كل ما يحيط به، ويطور عنده عدم الثقة في من هم على مسؤولية بمجتمعاتهم.
تخيّل لو أن الخضر لم يُطلع موسى عليهما السلام على تفسير الأحداث التي رآها! كيف يمكن أن ينظر موسى عليه السلام إلى المجتمعات، وإلى رجال العلم والقدوات!! وتخيل كم من الفرص تضيع في البلاد العربية لإشراك المجتمع في صناعة القرار بحجة أنها معلومات سرّية! أو بحجة أنه لا حاجة لإجابة استفسارات الناس فأكثرهم من العامة والمعلومة يجب أن تكون مقتصرة على النخبة!! وتخيل أيضًا كم من الأحداث ضاعت بسبب استعجال نتائجها واستعجال قطف ثمارها! وكم من القدرات ضاعت بسبب إهمالها وعدم تلبية شغفها في الحصول على المعلومات!!
نحن بحاجة إلى نموذج الخضر بيننا، ونحتاج إلى نموذج موسى بيننا، نموذج القدوة المسؤولة، ونموذج طالب المعرفة المؤدب والذكي.