في نهايات القرن العاشر الميلادي، كانت أوروبا غارقة في وحل الفقر الطبي، وكانت الممارسات الطبية في ذلك الوقت عبارة عن خليط من الأفكار الموجودة من العصور القديمة والتأثيرات الروحية، حتى المتقدم منها استمد مرجعيته في الأساس من قدماء المصريين واليونان.
في تلك الأثناء ظهر في مدينة الزهراء بالقرب من قرطبة بالأندلس عالم من طراز فريد، كان أحد أعظم الجراحين الذين ظهروا في العصور الوسطى، وصفه العلماء والمؤرخون بـ”أبي الجراحة الحديثة”، وظلت مؤلفاته التي ترجمت لأكثر من لغة المرجع الأساسي للأطباء في أوروبا لمدة 500 عام على الأقل.
قال عنه الطبيب الفرنسي الشهير غوستاف لوبون: “الزهراوي أشهر جراحي العرب، وصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص، فعُدّت من اختراعات العصر الحاضر على غير حق”، فيما عدّه بعض المؤرخين الباب الكبير الذي دخلت منه أوروبا نحو عالم الطب والجراحة، فعرفت من خلاله عشرات الاكتشافات الخاصة بالجراحات الداخلية وخيوط الجراحة والتطورات التي شهدتها الولادات القيصرية وطب العيون، فاستحق عن جدارة أن يكون ضمن قائمة الشرف التاريخية إلى جوار الرازي وابن النفيس والبغدادي وابن رشد ومسكويه.
هو أبو القَاسِم خَلَف بن عَبَّاس الزَّهْرَاوِيّ المعروف لدى أوروبا بـ”Abulcasis”، أحد أعلام الطب في الأندلس، وصاحب الموسوعة الشهيرة “التصريف لمن عجز عن التأليف”، المكونة من 30 مجلدًا، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة طب الجراحة في أوروبا والعالم العربي والإسلامي، لما تضمنته من اختراعات واكتشافات حديثة عهد بالعالم آنذاك.. فماذا قدم الزهراني للبشرية حتى تربع على عرش الخلود التأريخي كل تلك السنوات؟
نشأة فقيرة وبيئة غنية
ولد أبو القاسم في الزهراء عام 936 ميلادية لأسرة فقيرة، فنشأ في كنف العوز ولم يكن مترفًا كما أشار بعض المؤرخين، حيث عمل منذ الصغر في الحرف اليدوية والزراعة التي كان يعمل بها أغلب سكان مدينته في ذلك الوقت من أجل مساعدة أسرته والإنفاق على نفسه، وقد أثر ذلك على شخصيته التي اتسمت بالجدية والاستقلالية.
تعاني سيرة الزهراوي كغيره من أعلام قرطبة والأندلس من تغافل المؤرخين وتجاهل الكتابات التي تؤرخ لتلك الحقبة المضيئة في مسيرة الحضارة الإسلامية، غير أن جل ما وصل عنه كان بعد رحيله وفي أواخر حياته بعدما تحول إلى نابغة الطب والجراحة وأصبحت اكتشافاته واختراعاته مرجعية الطب في العالم.
كان أبو القاسم مولعًا بالعلم وتلقي علومه الشاملة، فدرس الشريعة والفقه، لكنه اختار الطب تحديدًا خدمة لأهل مدينته من الفقراء غير القادرين على التطبب، وحرص منذ صغره أن يكون لهم معينًا وناصرًا في مواجهة مصاعب الحياة، لذا لُقب بـ”طبيب الفقراء” حيث كان يعالجهم مجانًا وبأسعار زهيدة، وفيه قال المؤرخ أبو عبد الله الحميدي في كتابه “جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس” إن أبا القاسم الزهراوي “كانَ من أهل الفضل والدِّينِ والعلم، وكان يخصص نصف نهاره لمعالجة المرضى مجانًا قربة لله عز وجل”.
ورغم الأجواء المادية الصعبة التي عاشها الزهراوي ومعاناته من الفقر، من حسن حظه أنه نشأ في عصر الأندلس الذهبي علمًا، حيث كانت قرطبة في أوج ازدهارها ورونقها الحضاري حين كانت قبلة العلماء والباحثين، وكانت حاضنة الأطباء وأولي العلم وطلابه، وكانت تحتوي المدينة حينها على 50 مستشفى وأكثر من 70 مكتبة عامة، فيما كانت تجارة الكتب هي التجارة الرائجة في ذلك الوقت.
وعن هذا المناخ الملهم يقول أستاذ تاريخ العلوم الطبية في جامعة دمشق الدكتور يحيى خراط “من حسن حظ الزهراوي أنه عاش في بيئة علمية جيدة، فعبد الرحمن الناصر (خليفة أموي بالأندلس) بنى مدينة الزهراء وجعلها مقصدًا للعلماء والدارسين، ووفر لكل عالم ما يلزمه من كتب ومقالات وقاعات مطالعة وكل ما يلزم للتجريب”.
لم يكن أبو القاسم من نوعية العلماء المحظيين بالتقرب من الحكام وأهل السلطة كغيره، وما كان يحب هذا النوع من التملق الذي يدفع صاحبه لأن يتوسل على موائد الحاكم وأعوانه للوصول إلى مبتغاه، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية وراء تجاهله لسنوات طويلة وتجاهل أخباره وسيره التي فرضت نفسها على الجميع لاحقًا بعد الإسهامات العظيمة التي قدمها للعلوم الطبية بصفة عامة.
أبو الجراحة الحديثة
لم يكن لقب “أبي الجراحة الحديثة” الذي لقب به الزهراوي من فراغ، فكان نتاجًا لمسيرة طويلة من الجد والكد والتعب وطرق أبواب التعلم هنا وهناك، حيث كان يؤمن الطبيب القرطبي أن شمولية العلم أحد أسباب نجاح الطبيب وأن تلقي القدر الكافي من العلوم عامة مع التركيز على تخصص بعينه، الدرب الأيسر نحو بلوغ الغاية وتحقيق الأهداف المنشودة، لذا خصص سنوات طوال من عمره في دراسة علوم الجراحة بشكل عام، لكنه أفرد الجزء الأكبر منها لدراسة علم التشريح وهو ما وضعه في منزلة مختلفة تمامًا عن أقرانه من أطباء الأندلس في ذلك الوقت.
الغريب بحسب المؤرخين أن علم التشريح كان من العلوم التي وصفت بـ”المُحتقرة” ودونية المكانة لدى أطباء الأندلس آنذاك، وكان يوكل إليها للعبيد والإماء، أما الأطباء المهرة فلا يجرون جراحة بأيديهم مطلقًا، لكن مع قدوم أبو القاسم تغيرت النظرة تمامًا وتحول التشريح من علم العبيد إلى رأس هرم المهرة والمتفوقين من الأطباء.
وخلال مسيرة ممتدة لأكثر من خمسة عقود كاملة نجح الزهراوي في إثراء الطب والجراحة بعشرات الاكتشافات والاختراعات التي لم يسبقه إليها أحد، فهو أول من أقر ضرورة ربط الشرايين قبل إجراء أي عمليات جراحية كالبتر وغيرها وذلك منعًا لحدوث النزيف، كما أنه أول من أدخل القطن في الاستخدامات الطبية.
شرح علمَ الجراحة، وابتكر طرقًا جديدة لها، امتدَّ نجاحُها فيما وراء حدود #إسبانيا بكثير.. ماذا تعرف عن أعظم جراحي الحضارة الإسلامية؟#الأوائل pic.twitter.com/0rFcatgIXZ
— نون بوست (@NoonPost) April 29, 2022
ويُنسب له استخدام خيوط (CAT GUT) في الجراحة، وهي الخيوط التي تستعمل اليوم في العمليات الجراحية وثبت فاعليتها بشكل كبير خاصة في الجراحات الداخلية لامتصاص الجسم لها، وكان الزهراوي يصنع تلك الخيوط من أمعاء القطط والكلاب ويستخدمها في جروح الأمعاء والمعدة.
ويرجع المؤرخون لأبي القاسم أنه صاحب إسهامات عظيمة في فن جراحات التجميل فهو أول من استخدم الخياطة التجميلية تحت الجلد، وأول من استخدم خيوط الحرير في ربط الشرايين بعد الجراحة، وأدخل أوتار العود فيها، وابتكر الخياطة المثمنة، كما أنه أول من استعمل الخياطة بإبرتين وخيط واحد.
التصريف.. الموسوعة الخالدة
تعد موسوعة “التصريف لمن عجز عن التأليف” التي ألفها الزهراوي عام 1000م واحدة من أعلام موسوعات الطب في العالم، وأكثرها انتشارًا، وأقدمها تأليفًا، وأنفذها تأثيرًا، وأبقاها أثرًا وتفسيرًا وحضورًا على موائد الطب والأطباء والباحثين على مدار أكثر من ألف عام مضت، فهي العنوان الأبرز للعالم الأندلسي وأحد ركائز إسهاماته وإنجازاته الطبية التي كانت وستظل نقلة نوعية في علوم الجراحة.
الكتاب يتألف من 3 أبواب، وينقسم كل باب إلى 20 فصلًا فرعيًا، ويغطي معظم مجالات الطب والصيدلة، بل يعد هذا المؤلف اللبنة الأولى لفنيات استخدام المستلزمات الطبية التي عرفها العالم بعد عشرات السنين من وفاته، وسجلت باسمه حتى نهاية التاريخ.
ويستهل الزهراوي موسوعته بمقدمة تطرق فيها إلى علم التشريح الذي يراه النواة الأولى لبناء طبيب ماهر، ولا يمكن لأي طبيب أن يمتهن الطب دون دراسته، وفي هذا يقول في مقدمة الكتاب: “والسبب الذي لا يوجد صانع محس بيده في زماننا هذا، لأن صناعة الطب طويلة وينبغي لصاحبها أن يرتاض قبل ذلك في علم التشريح”.
كما وجه العالم الأندلسي في مقدمة موسوعته خطابًا للأطباء قال فيه: “وهذا كتاب ألفته لكم، وجعلته مقصورًا عليكم، ولم أعدل به إلى سواكم، عظيم الفائدة، قريب المنفعة، وسميته كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف، وذلك لكثرة تصرفه بين يدي الطبيب، وكثرة حاجته إليه في كل الأوقات، وليجد فيه من جميع الصفات ما يغنيه عن التأليف، فضمنت كتابي هذا كل ما جربته واستحسنته في طول عمري منذ 60 سنة”.
الباب الأول.. خصص الطبيب الأندلسي باب موسوعته الأول لـ”الكي” بوصفه أحد ركائز طب الجراحات، وهو الباب الأكبر في المؤلف، حيث هيأ له وحده 56 فصلًا، وفيه قال: “ألا أنه لا ينبغي أن يتصور على ذلك الأمر الأمن قد ارتاض ودرب في باب الكي دربه شديدة ووقف على اختلاف مزاجات الناس، وحال الأمراض في أنفسها وأسبابها وأعراضها ومدة زمانها”.
الباب تطرق إلى عشرات الاستخدامات للكي في العمليات الجراحية، ولكل استخدام طريقة مختلفة وعلاج خاص به، ومن الاستخدامات التي لا تزال حاضرة حتى اليوم في الكي وتستند في تفاصيلها إلى ما تناوله هذا الكتاب، استخدام الكي لعلاج الناصور وفي التعقيم وفي وقف النزيف.
الباب الثاني.. وفيه تطرق الزهراني تفصيلًا إلى الشق والبط وغيرها من الأدوات العلاجية المستخدمة في الجراحات، كما خصص فصولًا بأكملها لجراحة الأسنان واستخدام الفضة والذهب في تثبيتها، كذلك جراحات اللثة والفكين، وتحدث بشكل مفصل عن علاج الأورام بالجراحة والعيوب الخلقية وحقن المثانة بالزراقات وإخراج الحصاة من المثانة، وتطرق إلى إخراجها عند النساء تحديدًا لما لذلك من أهمية في ذلك الوقت حيث كن يعانين من آلام المثانة في ظل تراجع هذا النوع من الجراحات.
وتناول أورام السرطانات وأمراض النساء والولادة وكيفية إخراج الجنين، وينسب له اختراع الملقط لإخراج رأس الجنين من الرحم، كما تحدث عما سمي بـ”العلاج العام” ويقصد به فنيات جراحة البطن والأمعاء وخياطتها وأدوات الخياطة المستخدمة، وفي هذا قال في كتابه: “وقد يمكن أن يخاط المعاء أيضًا بالخيط الرقيق الذي يسل من مصران الحيوان اللاصق به”.
الباب الثالث.. وتطرق فيه إلى علم التجبير، وقسمه إلى فصلين كبيرين: الأول يتكلم عن الكسور، تشخيصها وعلاجها، مفصلة من الرأس إلى القدمين وعن المدة التي يحتاجها كل كسر على حدة، أما الثاني فعن كسور الرأس تحديدًا، وقد وصف الزهراني في هذا الباب مفهوم “التربنة” قائلًا: “أما كيفية الثقب حول العظم المكسور فهو أن تجعل المثقب على العظم وتديره بأصابعك حتى تعلم أن العظم قد نفذ، ثم تنقل المثقب إلى موضع آخر وتجعل بعد ما بين كل ثقب قدر غلظ المرور أو نحوه، ثم تقطع بالمقاطع ما بين كل ثقبين وتفعل ذلك بغاية ما تستطيع عليه من الرفق كما قلنا حتى تقلع العظم إما بيدك أو بشيء آخر من بعض الآلات التي أعددتها لذلك مثل الخفق والكلاليب اللطاف، وينبغي أن تحذر كل الحذر أن يمس المثقب أوالمقطع شيء من الصفاق”.
حققت تلك الموسوعة شهرة طبقت الآفاق، حتى تحولت إلى المرجعية الأساسية لأطباء أوروبا في القرون السابقة، خاصة في علوم الجراحة والتشريح وجراحات التجميل والاستخدامات المتشعبة للأدوات العلاجية الطبية، وقد أثنى الكثير من المؤرخين والعلماء على هذا المؤلف الثمين الذي قال عنه العلامة ابن حزم الأندلسي: “وكتاب التصريف لأبي القاسم خلف بن عباس الزهراوي، وقد أدركناه وشاهدناه، ولئن قلنا إنه لم يؤلَّف في الطب أجمع منه، ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنُصدّقن”.
لم يكن “التصريف لمن عجز عن التأليف” هو الإسهام التأليفي الوحيد للزهراوي في مجالات الطب المختلفة، فله عشرات المؤلفات والرسائل الأخرى في مجالات العيون والرشاقة والسمنة، أبرزهم: كتاب “نور العين” و”تفسير الأكيال والأوزان” و”المقالة في عمل اليد”، ومع ذلك ظلت موسوعته الخالدة هي الإنجاز الأكبر في مسيرته الممتدة قرابة 6 عقود.
حقق الزهراوي شهرة فائقة بعد رحيله فاقت تلك التي حققها وهو على قيد الحياة، فبعد خروج موسوعته وبقية مؤلفاته للنور، وأضافت للطب ما أضافت له، تحول إلى علم ينشده الجميع ومرجعية يقصدها كل طالب علم في مجالات الجراحات المختلفة، وفيه قال مؤرخ الأطباء الشهيرة ابن أبي أصيبعة: “خلف بن عباس الزهراوي كان طبيبًا فاضلًا خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه المعروف بالزهراوي، وله من الكتب “كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف”، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تام في معناه”.
وبعد نضال في محراب العلم دام لسنوات طوال، أثرى فيها الزهراوي مكتبة العلوم الطبية العالمية بمداد لا يتوقف، لقي ربه عام 404 للهجرة (1013 للميلاد)، ليتحول من ذلك الطبيب المجهل، نصير الفقراء والبعيد تمامًا عن بلاط الحكام، إلى قبلة العلماء والباحثين ومرجعية أوروبا لعقود طويلة، تاركًا خلفه إرثًا علميًا لا ينكره أحد، مسطرًا اسمه بأحرف من نور في سجلات عظماء الإنسانية الخالدين.