هذا ليس مقالًا علميًا وكاتبه أبعد ما يكون في لحظة كتابته عن رصانة التحليل العلمي البارد، هو جيشان مشاعر في مقتبل السنة التي نود ألا تكون حزينة، لكننا لا نفلح في بث الفرح في أسبوعها الأول، فعلينا أن نستعير وجه تمساح وقلب ضبع ربما لنكتب ما لا ترضاه الأخلاق والشرائع والقيم الديمقراطية.
في جملة مباشرة بلا حذلقة لغوية مطلوب منا قتل حزب النهضة ومحو أثره لتحل أزمات تونس دفعة واحدة، هكذا تريد فرنسا وصنائعها في الداخل، فقد حشروا البلد في زاوية ضيقة: لا حلول ديمقراطية ما دامت النهضة في المشهد السياسي التونسي، دون تقديم أي ضمانات على أن ستكون هناك سياسات ديمقراطية حال اختفاء النهضة من المشهد.
على علماء السياسة ذوي الأعصاب الباردة أن يعودوا إلى البدايات البعيدة ليفهموا لماذا تحارب فرنسا الإسلاميين، ولماذا تجد لها أزلامًا طيعين ينفذون برنامجها لتسعير حرب أهلية ضد مكون من مكونات الشعب التونسي يملك كل حقه في الحياة والمشاركة.
نحتاج لغة فاحشة لولا أخلاق الموقع الناشر
أفحش العرب في اللفظ في ساعات الغضب ولنا في شعرهم من غضبهم أثر بين، ونحن غاضبون ونحتفظ باحترامنا لموقع النشر، فعندما تختصر المقالات البحث في أسباب الأزمة نجد فرنسا وأزلامها أو صنائعها ومرتزقتها، وسبب غضبنا أن سبب أزمتنا خارجي أولًا وما أزلام فرنسا إلا أداة، لكن الأداة فعالة في التخريب وتجرنا إلى العنف وتختلق أسبابه، ونحن أبعد ما نكون عنه ولا نرضاه للبلد وللتاريخ، فللعنف بدايات يستلذها البعض لكن نتائجها وخيمة كالطاعون.
نحتاج أن نصرخ بطلب الحرية والاستقلال في معركة بناء الديمقراطية ومن لم يرفع الصوت بطلب الاستقلال سيظل يعالج العرض ولا يعالج المرض
ما يمكن توصيفه كحرب الدولة ضد الإسلاميين منذ العام ثمانين ليست حرب التونسيين ضد جزء من الشعب التونسي، لكنها حرب فرنسية موجهة ضد مكون الهوية الوطنية الأول، فقد أثارت حربًا ضد المكون المجاهد أول الدولة ممثلًا في الروح اليوسفية العروبية المسلمة التي جيشت من طلبة الزيتونة وخريجيها ومن ثوار الأرياف المفقرة ومنحت السلطة لصنيعتها وابن جامعتها، فلما استقر لها الأمر أو وهمت ذلك نبغ من الشعب تيار هوية آخر أشد بأسًا، فشنت عليه الحرب بأيدي تونسية لم تبذل فيها شروى نقير حتى اللحظة ومنعت بناء ديمقراطية سياسية يجد فيها هذا المكون صوتًا ومكانًا ودورًا.
حديث الاستقلال غائب في لغة الإسلاميين منذ البداية (وهذا عيب فيهم لا ينتبه له الكثيرون)، فتصورهم بدوره محدود لمعركة الديمقراطية (الديمقراطية تبنى في بلد حر ومستقل وله إرادة وطنية)، لكن فرنسا تقرأه بشكل مختلف وتوحي لصنائعها فينفذون بمهارة عالية ما ترغب فيه، وهنا تتضح معالم المعركة، كل من يذكّر الشعب بأنه شعب عربي أولًا ومسلم ثانيًا وحر ومستقل ثالثًا لا حق له في الوجود والمشاركة، غير مهم أن يرفع راية الإسلام أو العروبة أو رايات الحرية.
الانتحار الأخلاقي
هو أن نشارك في منع الإسلاميين من الحياة والمشاركة في إدارة البلد طبقًا لشروط صندوق انتخابي شفاف، مطلوب منا في الأزمة التي اختلقها الانقلاب وأزلام الاحتلال الفرنسي المتستر بشعارات التقدمية والتحديث أن نلعن وجود الإسلاميين وأن نشارك في عملية محوهم من المشهد.
لكننا لا نجد لذلك مسوّغًا ديمقراطيًا، إذ نؤمن بأن الحكم بين الناس في مسار بناء الديمقراطية هو الصندوق الانتخابي، ولقد اختبرنا نتائجه فكانت لغير صالح الإسلاميين انتخابيًا (وهذا مكسب)، لكنها بنت لبنات في جدار الديمقراطية (وهذا مكسب أكبر)، أي أن الغربال الانتخابي اشتغل بكفاءة، فحجم الإسلاميين غير الاستقلاليين وجعل خطاب الاستقلال أكبر منهم (وهنا المكسب).
يعود لنا السؤال ثانية: لماذا علينا أن نبني الديمقراطية على جثة الإسلاميين؟ هل يريد الشعب ذلك؟ لا أحد استشار الشعب في الواقع أو قدر مكاسبه إذا اندثر الإسلاميون، بل هي إسقاطات نخب تسترزق من الدعم الفرنسي وتجالس السفير الفرنسي فيملي عليها (ولدينا من نخب الإعلام من يعرف أن السفير الفرنسي غير مختون).
نعم السؤال لم يرم في وجوهنا بهذه الوقاحة، لكننا نقرأ الساحة بعقل بارد رغم الغضب، وهنا نختصر لقد صنع الانقلاب لتخريب الديمقراطية التي يشارك فيها الإسلاميون أولًا وبعد أن فقد الانقلاب أسباب البقاء تبين أن الإسلاميين لا يزالوا هنا وأنهم جزء محتمل من الحل، لذلك توضع العراقيل كلها في طرقات الحل ولو بالتضحية بالبلد والناس، فكل حل يعيد للإسلاميين بعض حقهم لا يسمح له (وهذه أجندة فرنسية لا تونسية)، وقد وصلت الوقاحة ببعض أنصار الانقلاب أن طلبوا حل الحزب وإعدام قادته حتى لا يشارك في أي حل، وما يجري من مطاردات إنما هي محاولات لتنفيذ هذا الإعدام المنهجي.
ندافع في الأخير عن حق البقاء بكرامة بعيدًا عن أجندات سفارة بلد الاحتلال التي نهبت البلد منذ قرنين أو يزيد
هل علينا المشاركة في السحل المنهجي؟ المكاسب المادية بيد أزلام فرنسا لكننا لم نترب على الطمع والظلم ودفاعنا عن الديمقراطية لم يكن من أجل مكاسب فردية كما لم يكن من أجل سواد عيون الإسلاميين، إنما هو المبدأ الأخلاقي: لا يمكن بناء الديمقراطية على الغدر (بالمناسبة الكيان الصهيوني ودولة الملالي تمنح أكثر مما تمنح السفارة الفرنسية للراغبين في بيع ضمائرهم وللمصادفة يوجد اتفاق فرنسي صهيوني شيعي إيراني ونفطي خليجي على سحل الإسلاميين).
لنغضب للديمقراطية
هذا مبرر غضب شرعي يجيز كل الفحش اللغوي، فالطرف المقابل لا يعاملنا بنفس التهذيب الأخلاقي ووجب أن نصرف له من لغته فهي لا تعجزنا.
ندافع عن حق الإسلاميين في الحياة أولًا وفي المشاركة السياسية ثانيًا، ولسنا منهم ولا نود وصالهم، فلنا عليهم مآخذ سيسمعونها في مناخ ديمقراطي غير استئصالي تقوده السفارة الفرنسية لصالح شركاتها.
ندافع عن ديمقراطية مسنودة بدستور محل إجماع وطني في لحظة استثنائية يعطي الجميع حقوقًا متساوية.
ندافع عن بلد يملك مقومات الاستقلال والسيادة ويستند إلى تاريخ سياسي متين ومؤثر في محيطه بقطع النظر عن الحجم الجغرافي والديموغرافي.
ندافع في الأخير عن حق البقاء بكرامة بعيدًا عن أجندات سفارة بلد الاحتلال التي نهبت البلد منذ قرنين أو يزيد.
هل أفحشنا في القول بودنا أن… لكننا ودعنا السلاح لصالح الديمقراطية والنضال السلمي ولن نضحي بأخلاقنا من أجل عيون السفير الفرنسي راعي مصالح الشركات الفرنسية.