“في ختام هذا المقال، أقول إن التسوية التاريخية بين المحافظين وورثة النظام القديم قد تسقط من غرابيل التكتيك أو قد لا تستهوي المندفعين إلى الأمام دومًا دون أفق سياسي ملموس، لكن وجوبها إستراتيجيًا على المدى المتوسط والبعيد يُرى بالعين المجردة … خط الثورة كان سلميًا وقدر هذه الثورة أن تتقدم ببطء نحو تحقيق هدفها الأكبر من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية”.
بهذه الخلاصة انتهى الجزء الأول من مقال التسوية بين المحافظين وورثة النظام القديم، مقال عدد أوجه الضرورة التي تحملها هذه التسوية، ونتناول في هذا الجزء الثاني بالتحليل شروط قيامها والمصاعب أو المعوقات التي أقدر أنها ستواجهها ثم ننتهي بمحاولة استقراء مدى انعكاس الراهن السياسي على مستقبلها (التسوية).
شروط قيام التسوية
كأي تفاعل بين جسمين تفصلهما مسافة، تحتاج التسوية بين المحافظين وورثة النظام القديم تقدم كليهما نحو الآخر؛ تقدم لا يلغي بالضرورة مقومات الذات وهويتها بل يحاول إيجاد قناة تواصل هادئة تؤجل المختَلف فيه وتتخذ من المشتركات أرضية للالتقاء والبناء.
بالرجوع إلى الخطاب السياسي الذي تبناه كل طرف خلال الحملة الانتخابية (الانتخابات التشريعية)؛ نجد أن “حركة النهضة” وعلى نحو غريب اختارت حملة انتخابية لا تهاجم فيها أي طرف، حملة تنادي بالتوافق وبضرورة مُضي البلاد ونخبها نحو حكومة وحدة وطنية/ وفاق وطني، أي أن مُضيها في هذا النهج انبنى على قناعة وعلى رؤية سياسية ولم تفرضه نتائج الانتخابات التي حرمتها من مفاتيح تكوين الحكومة.
على نحو مغاير، بنى “نداء تونس” حملته الانتخابية ورسالته السياسية معتمدًا على التهجم المنظم على منظومة 23 أكتوبر 2011 – التي أفرزت الترويكا الحاكمة ما قبل الانتخابات الأخيرة – ومستثمرًا الصعوبات التي واجهت البلاد في عهدها ودفع الاستقطاب التنائي نحو الأقصى محذرًا التونسيين بأن عدم انتخابه – أي النداء – يصب في مصلحة حركة النهضة المسؤولة عن انفراط عقد الإرهاب وتدهور الوضع الاقتصادي؛ أي أن النداء بنى مبررات وجوده على نقيض حركة النهضة.
هذا التباين على مستوى الخطاب أثناء الحملة الانتخابية يحتاج مراجعة في حال أردنا المضي في تسوية تحمي المسار الديمقراطي من الهزات العنيفة، خاصة من طرف نداء تونس، وهو ما انطلق فعليًا مند مدة، ولئن أرجعه محللون لدواعٍ انتخابية بحتة باعتبار أن رئيسه مترشح للرئاسة، إلا أن السياق الصعب الذي تمر به البلاد يحتاج تهدئة دائمة وليست ظرفية وأعتقد بأن قيادات الحزب الفائز واعون بهذا.
عقلنة الخطاب الرسمي للأحزاب يحتاج أن يكون مقرونًا بعزل للأصوات المتطرفة – سياسيًا – من الجهتين، وهو ما لامسناه من خلال السياسة الإعلامية لحركة النهضة التي باتت تعتمد على الوجوه التوافقية لتنطق بلسان الحزب في البرامج الإعلامية أو من خلال اختيار السيد “نور الدين البحيري” رئيسًا لكتلته في مجلس نواب الشعب، وهو أيضًا مسار يجب أن يمضي فيه نداء تونس الذي تحوي تركيبته السياسية رافدًا يساريًا متطرفًا قد يعسر عليه تجاوز عقده الأيديولوجية من أجل تثبيت هذه التسوية.
ضمن نفس الإطار، تجدر الإشارة إلى أن فكرة التعايش أو التسوية والتفاعل الإيجابي بين القطبين موضوع الحديث لا تجد الرواج الكافي لدى قواعد كلا الحزبين، وهو ما يحيلنا إلى ضرورة الاهتمام بجانب تمليك الفكرة والرؤية الإستراتيجية للقواعد حتى ينعكس الخطاب الرسمي في الممارسة اليومية على الأرض.
المعوقات والصعوبات المنتظرة
التسوية في تونس ارتبطت وترتبط أساسًا بشخصية الأستاذ “راشد الغنوشي” رئيس حركة النهضة، والأستاذ “الباجي قائد السبسي” رئيس حركة نداء تونس.
ارتباط هذا المسار بهاتين الشخصيتين المحوريتين خطير باعتبار أن غياب أحدهما عن مركز القرار في حزبه قد يدفع نحو النكوص عن هذا التمشي؛ الأستاذ راشد الغنوشي مثلاً، سبق وأن عبر عن رغبته في التخلي عن رئاسة الحركة والسياسة للتفرغ للفكر والبحث الأكاديمي، من الجهة الأخرى، الباجي قائد السبسي بحكم تقدمه في السن (88 سنة) وبحكم إمكانية استقالته من حزبه في حال تم انتخابه رئيسًا للجمهورية، قد يسلم مقاليد تسيير حزب نداء تونس – طوعًا أو كراهية والأعمار بيد الله – لخليفة قد ينقلب على الرؤية الحالية.
حزب نداء تونس حزب جديد لم ينجز مؤتمره التأسيسي ولم يحدد هويته السياسية ولم تتوضح التوازنات داخله بعد؛ وهو ما ينبئ بعدم استقرار للتمشي السياسي لهذا الحزب الذي يبقى رهينة موازين القوى داخله، الشيء الذي قد يعرض مسار التسوية للخطر في حال اختلت هذه التوازنات لفائدة التطرف اليساري داخله.
من بين الملفات التي قد تعصف بمسار التسوية أيضًا، نذكر ملف العدالة الانتقالية الذي يشمل عددًا كبيرًا من قيادات وقواعد النداء ممن تورطوا في انتهاكات زمن الدكتاتورية، من الطبيعي والمنتظر أن يضع الحزب الفائز في الانتخابات هذا الملف على الطاولة من أجل التفاوض مع المتضرر الأول من حقبة الاستبداد والمعني الأول بتفعيل مسار العدالة الانتقالية علها تنجح ولو نسبيًا في جبر ضرر السنون التي حطمت جيلًا بأكمله، في هذا الموضوع أقول بأن قيادات حركة النهضة لا يمكنها أن تقبل التفاوض في هذا الملف لأن المتضررين أفراد لم يفوضوها للتنازل عن حقوقهم، كما أن المتضررين ليسوا نهضويين فقط وبالتالي ليس من السليم أخلاقيًا أن تفاوض على ما لا تملك .. من الجهة الأخرى يجب أن تعي قيادات نداء تونس بأن العدالة الانتقالية هي السبيل الأقوم للبناء على أسس سليمة خالية من الأحقاد، وفي انتظار اعتذار ممن أذنبوا في حق شريحة واسعة من التونسيين وفي حق تونس، يجب أن يقتنع الجميع بأن تسوية كريهة على حساب مسار العدالة الانتقالية هي تسوية هشة لا أفق لها.
أيضًا، من المعلوم أن قوى داخلية وخارجية، انخرطت منذ مدة في محاولات لعزل وإنهاء تواجد التيار المحافظ في تونس والمنطقة تحت عنوان القضاء على تيار الإسلام السياسي؛ انخراطها الجدي والسخي في هذا السياق سيسلط ضغطًا كبيرًا على كل من يريد أن ينأى بتونس عن التجاذبات الحادة التي قد تهدم البيت على ساكنيه، هذه الضغوط الداخلية والخارجية تمثل تهديدًا حقيقيًا لمسار التسوية في تونس وتستوجب عقلاً راجحًا حتى يحسن امتصاصها.
انعكاسات الراهن السياسي على فكرة التسوية
سبّب تصويت الكتلة الانتخابية النهضوية للمترشح “المنصف المرزوقي” – رغم خيار الحياد المعلن من مؤسسات حركة النهضة – توترًا بين الكتلتين موضوع الحديث، إذ اتهمت قيادات نداء تونس نظرائهم في حركة النهضة بازدواجية الخطاب وبدعم المرزوقي خلسة، رغم أني أقدر بأن أغلب أنصار حركة النهضة تعاطفوا وسيتعاطفون مع المرزوقي لأنه كان شريكًا لهم في تحمل وتقبل الهرسلة التي تعرضوا إليها من الإعلام والدولة العميقة فهم في لاوعيهم ينتصرون لأنفسهم من خلال شخص المرزوقي، زميل المحنة، وهذا الانتصار اللاوعي لا يمكن لقيادات حركة النهضة أن تسيطر عليه، وهذا التوتر طرح سؤالًا حول انعكاسات الراهن السياسي الآني على مسار التسوية الماضي في الزمن.
في هذه النقطة أقول بأن التسوية كمرغوب مشترك لا يجب أن يتحول لابتزاز سياسي أو بيع مشروط، ليس من حق قيادات نداء تونس أن تُملي على حركة النهضة أو على قواعدها خيارهم في الرئاسية، وعلى حركة النهضة أن تمايز بين ما تفرضه التسوية من اقتراب نحو الآخر، وبين سيادتها وحرية اختياراتها، لأن رضوخًا كالذي يبحث عنه النداء سيلغيها سياسيًا وسيحولها إلى زائدة حزبية للحزب الفائز عوض أن تثبت مكانها كرقم صعب في الساحة السياسية.
تصريحات الباجي وقيادات نداء تونس تندرج في إطار الضغط على النهضة حتى يحيدوا منها ما استطاعوا في سباق الرئاسية، ولا أعتقد أنه سيتجاوز في تأثيره (الراهن السياسي) فترة الانتخابات .. فالفكرة أعمق من التفاصيل.
التسوية في تونس ضرورية لتخفيف الاحتقان في البلاد .. قد تعترضها صعوبات لكنها لن تكون بوزن الضرورة، من المهم جدًا أن يدفع العقلاء نحوها بقدر أهمية حمايتها كي لا تتحول من طرح سياسي إستراتيجي إلى مسعى ابتزازي مقايضاتي.