استيقظ المصريون صبيحة الأربعاء 4 يناير/كانون الثاني الحاليّ بتحريك واضح في سعر الدولار أمام العملة المحلية (الجنيه) التي فقدت قرابة 8% من قيمتها في غضون ساعات معدودة، فقد تراجعت من 24.6 جنيه إلى 27.1 جنيه للدولار الواحد، وسط توقعات باستمرار التراجع خلال الأيام المقبلة، فيما أشار الخبراء إلى أن ما حدث هو “تعويم ثالث” للجنيه في أقل من عام.
وكان البنك المركزي المصري في 21 مارس/آذار الماضي قد قرر تعويم الجنيه ليفقد أكثر من 15% من قيمته، وفي أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام كان التحريك الثاني، حين فقدت العملة المحلية قرابة 60% من قيمتها ليأتي هذا التعويم الثالث في غضون 10 أشهر فقط ليواصل الجنيه نزيفه، فاقدًا قرابة 70% من قيمته التي كان عليها بداية العام الماضي.
3 صدمات متتالية تلقتها العملة المحلية المصرية في أقل من عام، في أجواء تتشابه في تأثيرها السوقي مع التعويم الأول الذي حدث في 2016 وكان نقطة التحول الكبيرة في مسار حياة المصريين المعيشية نحو التدني والانهيار، حيث زُج بالملايين من الشعب المصري جراء تلك الإجراءات إلى مستنقعات الفقر والعجز.
لم ينتظر سوق السلع كثيرًا للتعاطي مع تلك المستجدات، فعلى الفور شهد قفزات جنونية في الأسعار تأرجحت بين 10 -25% من أسعار السلع والخدمات التي لم تعد وبشكل رسمي في متناول متوسطي ومحدودي الدخل وهم السواد الأعظم من الشعب المصري الذي يتجاوز تعداده 100 مليون مواطن.
حالة من الصدمة تخيم على الشارع المصري، تمتمات وأحاديث جانبية وهمهمات ترسم ملامحها المتجعدة على وجوه المصريين في الشوارع والأسواق، أجواء من عدم تصديق ما يحدث، رعب وقلق مما هو قادم، افتراش الطرق والميادين بالمتسولين، هزة عنيفة في عادات المصريين الغذائية، موجات تقشف عاتية تفرض نفسها على الجميع دون استثناء، وسط تساؤل فلسفي جدلي لا يمكن لأي أحد مهما أوتي من العلم أن يعرف إجابته: إلى متى؟
لأول مرة.. #الدولار يسجل أرقامًا قياسية أمام #الجنيه_المصري#تعويم_الجنيه #البنك_المركزي_المصري #أخبار_الآن
للمزيد: https://t.co/sY2pJseBSv pic.twitter.com/KoiSsBaEQP
— Akhbar Al Aan أخبار الآن (@akhbar) January 4, 2023
الأوجاع تتزايد
بداية وقبل كل شيء فإن قرار التعويم وما صاحبه من طرح بنكي “مصر”و “الأهلي” شهادات بفائدة سنوية 25% في محاولة لجمع السيولة النقدية من أيدي الشعب، سيرافقه تبعات قاسية على رجل الشارع العادي، قفزات في أسعار السلع ومعدلات التضخم وتآكل القيمة الشرائية للجنيه ومن ثم قيمة أجور ودخول المواطنين، وزيادة معدلات الجوع والبطالة، فضلًا عن تفاقم معدلات الدين والضغط على العملة المحلية، وما لذلك من ارتدادات خاصة بزيادة الضرائب والرسوم.
“والله بقينا بناكل طقة (وجبة) واحدة في اليوم حتى لا نضطر للتسول من جيراننا”.. بهذه الكلمات استهلت “أم محمد” (أرملة ولديها 3 بنات) واصفة الوضع الصعب الذي باتت عليه، لافتة أن الأسعار تحولت إلى ما أشبه بالبورصة، فكل ساعة بسعر مختلف، وزيادات جنونية لا تكتفي بالجنيه أو الاثنين في السلعة الواحدة.
“مضطرين نقلل نفقاتنا شوية، فكرنا في ترشيد وجباتنا اليومية إلى وجبة أو وجبتين، مع قصر ذهاب البنتين للجامعة على يوم واحد فقط في الأسبوع، والبحث عن عمل إضافي لهما من المنزل.. ماهو لو معملناش كده هنجوع وهنشحت في الشارع… والموت عندي أرحم من كده”.. سيدة مصرية تصف معاناتها بسبب ارتفاع الأسعار
وأشارت الستينية المصرية في حديثها لـ”نون بوست” أن معاشها الشهري من زوجها المتوفي الذي كان يعمل محاسبًا في إحدى شركات القطاع الخاص لا يتجاوز 3000 جنيه (111 دولارًا) ، وأن لديها ابنتين في الجامعة والثالثة لا تزال في الثانوية العامة، متسائلة: كيف لنا أن نعيش بهذا المعاش؟
وفي حسبة بسيطة أجرتها “أم محمد” للحد الأدنى من نفقاتها توصلت إلى أنها بحاجة إلى أكثر 5000 جنيه نظير تناول 3 وجبات يوميًا، منها مرتان فقط لحوم شهريًا، مع استبعاد زيارات الطبيب والأدوية والعلاج وأي مستلزمات أخرى، هذا بخلاف مصاريف التعليم والدراسة.
وبينما هي تومئ برأسها المستلقية بين يديها ودموعها لم تجف بعد أن ختمت حديثها قائلة: “مضطرين نقلل نفقاتنا شوية، فكرنا في ترشيد وجباتنا اليومية إلى وجبة أو وجبتين، مع قصر ذهاب البنتين للجامعة على يوم واحد فقط في الأسبوع، والبحث عن عمل إضافي لهما من المنزل.. ما هو لو معملناش كده هنجوع وهنشحت في الشارع… والموت عندي أرحم من كده”.
المعاناة ذاتها يرصدها “أبو بكر” تاجر السلع الغذائية في أحد المحال الكبرى بمنطقة الدقي بالجيزة، حيث يقول إنه يتعرض يوميًا لعشرات الحالات من المواطنين القادمين لشراء سلع حياتية كالزيت والسكر والأرز، ثم يعودون دون شرائها بعد معرفة الأسعار، فما تشهده من زيادات غير معقول وجنان، على حد قوله.
وأضاف في تصريحاته لـ”نون بوست” “هناك حالة فوضى في التسعير، فالسعر يتغير كل ساعة وليس كل يوم، والمصانع والشركات ترفض وضع السعر على السلعة كما أقرت الحكومة”، مدعية أن العملية مرتبطة بسعر الدولار وحركة الاستيراد وبالتالي لا يمكن وضع السعر على السلعة لأنه يتغير بين الساعة والأخرى وفق الأسعار العالمية.
وأقر التاجر المصري بمأساوية المشهد الذي دفعه للتفكير في غلق متجره بسبب ما يراه يوميًا من صدمة الناس من الأسعار ونكوصهم عن الشراء حتى للسلع التي لا يمكن الاستغناء عنها، مؤكدًا أن شريحة كبيرة من زبائنه المعروفين غيروا عاداتهم الشرائية بشكل كبير، فيما اضطر الآخرون إلى المزيد من التشقف.
وطالب أبو بكر بإجراء جولة واحدة في أي شارع عام وإحصاء عدد المتسولين فيه، للوقوف على حجم الكارثة، موضحًا أن هناك تزايدًا هائلًا في أعدادهم وأنه يعرف شخصيًا أناس لجأوا لذلك في بعض المناطق البعيدة من أجل الوفاء بالتزاماتهم اليومية من مأكل ومشرب التي قفزت بشكل جنوني.
نتيجة منطقية لسياسات فاشلة
ما يحدث هو تبعات منطقية لـ”سفه الاقتراض الخارجي الذي جعل مصر ثاني أكبر مدين لصندوق النقد الدولي في العالم بعد الأرجنتين”، هكذا ذهب الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام في قراءته للمشهد الاقتصادي والأسباب التي أدت بالوضع إلى تلك الحالة المذرية، كاشفًا أن السياسات النقدية والمالية والاقتصادية التي اتبعتها الدولة المصرية خلال السنوات الماضية رفعت أعباء الديون الخارجية المستحقة بصورة لم تشهدها من قبل، إذ وصلت في العام المالي الحاليّ إلى 45.2 مليار دولار وفق أرقام البنك الدولي.
وحذر عبد السلام من مغبة تلك السياسات التي دفعت مصر لأن تلهث خلف الصناديق المالية الدولية ودول الخليج تتسول على موائدها، ما أجبرها في النهاية على تعويم عملتها وعرض بعض أصولها للبيع كأحد شروط صندوق النقد الذي على أساسه تم الموافقة على منح القاهرة القرض الأخير الذي لا تتجاوز قيمته 3 مليارات دولار.
ويتعجب الخبير الاقتصادي المصري من تعويم الجنيه ثلاث مرات في أقل من عام، مؤكدًا ان هذا لم يحدث من قبل في أي بلد لا تعاني من اضطرابات سياسية أو أمنية أو اقتصادية، فهذا المشهد – يقصد التعويم الثلاثي – لا يمكن قبوله إلا في مناطق بعينها، كلبنان الذي يعاني من كارثة اقتصادية وسياسية وإفلاس مباشر، وفنزويلا التي تواجه عقوبات أمريكية وحظر لتصدير نفطها، أو تلك الدول التي ألغت عملتها وتعاملت بالدولار كبيرو والأكوادور.
القاهرة مطالبة بسداد فوائد ديون وأقساط تبلغ 17.6 مليار دولار خلال العام الحاليّ (9.3 مليار دولار في النصف الأول و8.3 مليار في النصف الثاني)، مقابل 24.2 مليار دولار (10.9 مليار في النصف الأول و13.3 مليار في النصف الثاني) في 2024
واختتم عبد السلام حديثه بتوجيه سؤالين للسلطات المصرية: الأول: متى تدرك الحكومة المصرية أن الاعتماد على القروض الخارجية والأموال الساخنة رهان خاسر، وأن المتغطي بصندوق النقد عريان؟ لافتًا أن جل القروض القادمة من الخارج تُمول بها المشروعات غير الضرورية كالعاصمة الإدارية وقطارات وطرق الأثرياء، الثاني: ما الهدف من التعويم هذه المرة؟ فعدم قدرة الدولة على توفير السيولة الدولارية المطلوبة لتيسير حركة الاستيراد والتصدير سيجعل من تلك القرارات عديمة القيمة والهدف، وبالتالي زيادة إضافية في المعاناة دون عائد محقق.
وقد وصل الدين الخارجي المصري إلى 157.8 مليار دولار، وفق تقرير البنك المركزي المصري لشهر سبتمبر/أيلول 2022، بزيادة خمسة أضعاف عما كان عليه قبل عشرة أعوام، فيما ارتفعت قيمة مخصصات فوائد هذا الدين بالموازنة العامة للدولة خلال العام المالي 2022/2023 إلى نحو 690.2 مليار جنيه مقابل 579.6 مليار جنيه خلال العام المنصرم (الدولار يساوي 27.1 جنيه)، بزيادة تصل نسبتها إلى 19%، بما يمثل نحو 33.3% من إجمالي مصروفات مشروع الموازنة، بحسب بيانات وزارة المالية المصرية.
وعن موازنة خدمة الدين خلال السنوات المقبلة، تشير التقارير إلى أن القاهرة مطالبة بسداد فوائد ديون وأقساط تبلغ 17.6 مليار دولار خلال العام الحاليّ (9.3 مليار دولار في النصف الأول و8.3 مليار في النصف الثاني)، مقابل 24.2 مليار دولار (10.9 مليار في النصف الأول و13.3 مليار في النصف الثاني) في 2024، أما في عام 2025 فمطالبة بسداد 15.1 مليار دولار (9.3 مليار في النصف الأول و5.8 مليار دولار في النصف الثاني) نظير 16.8 مليار دولار في 2026 (6.6 مليار دولار في النصف الأول و10.2 مليار في النصف الثاني).
كل المؤشرات تذهب باتجاه استمرار المعاناة وأن العام المقبل لن يكون الأفضل بأي حال من الأحوال، وهناك حالة قلق وغضب واحتقان شعبي معروفة للجميع، المؤيدين للنظام والمعارضين، ومع ذلك خرج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بحزمة تصريحات على هامش احتفاله بقداس عيد الميلاد في العاصمة الإدارية الجديدة مساء الجمعة، أقل ما توصف به أنها استفزازية في المقام الأول.
ففي الوقت الذي يعاني فيه المواطن ليل نهار، أسعار جنونية يمر بها بين الساعة والأخرى للسلع والخدمات، وتدنٍ مشين في حياته المعيشية، يعلق السيسي على الوضع بخطابه التقليدي المعهود دون طمأنة الناس، قائلًا: “ماتخافوش على مصر لسببين؛ الأول هو وجود ربنا اللي خلقنا كلنا، هايسيبنا (يتركنا) يعني؟ والثاني هو أننا ماشيين كويس جدًا الحمد لله، وبالتالي يجب عدم الالتفات إلى الشائعات التي يتم ترديدها”.
وبدلًا من الاعتراف بالأزمة كأول خطوة نحو الحل خرج الرئيس بنبرة ساخرة ليقول: “اطمئنوا يا مصريين، إحنا ما بنخبيش (نخفي) عنكم حاجة، وأنا شايف وسامع إن الناس قلقانة على مصر، وسعيد بخوفكم عليها، لكن بقول لكم ما تخافوش”، وتابع: “يقول لك أصل هايبيعوا حاجة مش هايقولوا عليها، وقناة السويس مش عارف هايعملوا فيها إيه: طب مش هأقول ليه؟ إحنا مش هانبيع حاجة من أصول الدولة غير لما نقولكم عليها”.
التصريحات التي زادت من وتيرة الاحتقان لدى الشعب المصري أثارت حفيظة حتى المقربين من النظام، فها هو إعلامي السلطة الأول عمرو أديب، معقبًا على كلام السيسي في برنامجه “الحكاية” المذاع على قناة “إم بي سي مصر”، قائلاً: “أنا سعيد إن السيسي تكلم عن خوف المصريين، لكن إحنا مش خائفين أو قلقين على مصر؛ نحن خائفين على أنفسنا، وعلى أولادنا، وهذا خوف مبرر لا يزرعه أحد، يوجد حالة قلق وخوف حقيقي من المستقبل داخل كل بيت مصري، وكلمة اطمئنوا فقط هي غير كافية”.
وتتوالى الضربات تباعًا فوق رؤوس المصريين، حتى ما عاد لديهم وقت لالتقاط الأنفاس، لتدفع عاصمة الخلافة وسلة غذاء العالم قديمًا وصاحبة الثروات الهائلة ثمن سياسات اقتصادية خاطئة، رضخت لإملاءات الخارج فبليت بشقاء ومعاناة داخلية، فأطاحت بالملايين من مناطق الكفاف الدافئة إلى مستنقع الفقر.. فمتى يتوقف هذا النزيف الذي يُخشى أن يخرج عن السيطرة؟