من الدفاع إلى الهجوم، المعارضة التونسية تجازف لأول مرة بالتظاهر في المساحات الأمامية الخاصة جدًا بالرئيس التونسي قيس سعيد، وأمام جمهوره المفترض، في مسعى لتسجيل أهداف، مستغلة الانهيار التام في مرمى الرئيس بعد مهزلة النسبة غير المسبوقة في تاريخ الانتخابات التونسية.
تجس المعارضة نبض البقية الباقية من أنصار الرئيس أو “صواريخه الباقية على منصاته”، وتسابق الزمن قبل يوم الحشد الأكبر، بالتزامن مع ذكرى الثورة، فقد بدأت أول إرهاصات الهزيمة الانتخابية العريضة متزامنة مع انتكاسات اقتصادية، فما تداعياتها المقبلة؟
انهيار لدفاع الرئيس
هو بمثابة سبر آراء ميداني جديد، نجحت المعارضة التونسية في رسمه هذه المرة، فهو أول تحرك بعد المقاطعة الشعبية للانتخابات التشريعية، جبهة المعارضة تحتج في مدينة المنيهلة بضواحي العاصمة تونس، حيث يقع منزل الرئيس التونسي قيس سعيد.
اقتحام غير مسبوق للمناطق الأمامية للرئيس قيس سعيد، وإلقاء خطب مناهضة للإجراءات الاستثنائية ليوليو/تموز 2021، مع اختفاء تام لأنصار الرئيس ما عدا بعض العناصر التي وصفت بالميليشيا، وهي أصلًا من قيادات المنطقة، التي تعتبر “الصواريخ التي على منصاتها” للدفاع عن قرارات القصر، وفق تعبير الرئيس.
في جميع المظاهرات السابقة لجبهة الخلاص وحراك “مواطنون ضد الانقلاب”، يتم التضييق على التظاهرات بشتى الطرق والوسائل، من محاصرة الشوارع الرئيسية المؤدية لمنطقة التظاهر بشارع الحبيب بورقيبة، إلى عرقلة قوافل المواطنين القادمة من المحافظات، وليس انتهاءً بالاعتداء الأمني العنيف على مسيرة الاحتفال بذكرى الثورة العام الماضي، ما أدى لحالة وفاة.
لكن على خلاف العادة، جاءت هذه المظاهرة تحمل رسائل عديدة، أولها زوال جميع مبررات منع التظاهر بعد رفع الغطاء الشعبي الذي يتمترس به الرئيس من خلال المقاطعة الشعبية لانتخاباته الأولى بعد انقلابه.
ذلك أعطى هامشًا كبيرًا للمعارضة في قدرتها على اللعب بقوة، لتستغل نسبة الـ90% لصالحها، وهو ما جعلها تتكلم بأكثر بصوت عال في المنيهلة، وتهاجم الانقلاب في عقر داره، فكان التعاطي الأمني هذه المرة بشكل سلس، حيث كان بالإمكان منعهم من الوصول، لولا الاستشعار الحقيقي لتداعيات نسبة 8.8%، التي صوتت لقيس سعيد، رغم أنها نسبة مضخمة أيضًا، وفق تقديرات.
كشف “الحشد الشعبي”
يعد المكسب الأول من تنويع المعارضة لطرق التنظم ضد الانقلاب، هو كشفها هذه المرة بطريقة غير مباشرة حجم أنصار الرئيس في منطقته، وفق أنصار الحراك المعارض لقصر قرطاج.
أيضًا وضع السلطات الأمنية أمام مسؤوليتها في مواجهة حرية التظاهر السلمي، ما يعزز دور الأمن الجمهوري في حماية حق التعبير السلمي ورفع يده عن المعارضين، وهذا أحد إنجازات الثورة ضمن برامج الداخلية لتأهيل قواتها، فمقابل الليونة الأمنية في التعامل مع مظاهرة جبهة الخلاص، ما يؤكد أن الجهاز الأمني سيكون أكثر حرصًا على التعامل الإيجابي مع مسيرات في أماكن أخرى بعيدة عن مناطق الرئيس، تعرضت مسيرات المعارضة سابقًا للمضايقات حتى في الجهات البعيدة مثل قابس وتطاوين وتوزر، حيث نظمت الجبهة لقاءات جماهيرية.
كما كشفت مظاهرة المنيهلة، وقوف بعض الأشخاص وراء التحريض على المعارضة، وقد أكدت قيادات بحراك “مواطنون ضد الانقلاب”، أن عناصر بـ”الحشد الشعبي” تقف وراء محاولات التشويش عليهم وإظهار أن المعارضة غير مرحب بها، ما أدى إلى حدوث مناوشات.
هنا أيضا لا بد من ملاحظة أن هذه العناصر لم تكن بالعدد الذي كان يحضر سابقًا في مسيرات مماثلة، ما يؤكد تقلص أعدادهم بشكل كبير، ولربما هذا أيضًا من تداعيات النتيجة الأخيرة لانتخابات الرئيس، التي كانت بمثابة نهاية لشرعية قيس سعيد ومشروعيته، ومشروعه بأسره، وفق العديد من النخب حتى من أشد المناصرين له.
هذا جعل النخب الأخرى المعارضة والتي تصدت للانقلاب في بداياته، تصعد سقف مطالبها من قبيل المطالبة بمحاسبة المنقلب، خاصة محاسبة بقية أنصاره الذين لم يتراجعوا بعد، رغم حجم القطيعة.
التصعيد الخطير وارد
لئن كشفت المسيرة في عقر دار الرئيس قدرة المعارضة على التحدي من جهة، فإنها كشفت في المقابل أن هناك نواةً صلبةً لن تتخلى عن الرئيس في كل الأحوال، فهم البقية الباقية من أنصار “العهد السعيد” التي لا تخشى من الظهور علنًا للدفاع عن “مشروع 8.8″، خاصة بعد ما أُشيع عن “محاولة اغتيال سياسية”.
فرغم التقلص الملحوظ في أعداد المناصرين للرئيس، يعتبر البعض أن النواة الحقيقية لقيس سعيد ستتمسك به وتدافع عنه لآخر رمق، وهي قواعد عمادها التنسيقيات الشبابية التي رفعت لواء الرئيس خلال الحملة الانتخابية الرئاسية، وهي مستعدة للذهاب معه لأبعد ما يمكن، ضمن مشروع الجمهورية الجديدة، حيث غالبًا ما يردد الرئيس جملته “لا رجوع للوراء”.
من هذا المنطلق نستذكر التحذيرات القديمة مما تمثله تنسيقياته الشبابية التي شبهها متابعون بـ”ميليشيا في يد الرئيس” وأسماها آخرون “الحشد الشعبي” على الطريقة التونسية، التي قد تهدد النسيج الاجتماعي، بل السياسي الذي حافظ طيلة العشرية الأخيرة على ترابطه، رغم ما عرفته أحداث الثورة في بدايتها من انفلاتات.
ولعل الأخطر هنا هو ما تم إشاعته بشأن محاولة اغتيال فاشلة لأحد الوجوه البارزة لمجموعة “مواطنون ضد الانقلاب” (لم تؤكده أي جهة رسمية أو تنفيه)، خلال وجودها في المنيهلة، وورد الخبر في صيغة تسريب من داخل الجهاز الأمني (زملاء)، حسب مواقع التواصل الاجتماعي.
يبدو أن كل ما يُشاع حاليًّا ليس وليد الصدفة إذا ربطناه بجملة من التحذيرات والتنبيهات من أطراف عدة، من خطورة انزلاق الأوضاع إلى ما لا يُحمل ويُحمد عقباه، ما كان وراء دعوات التعجيل بحوار شامل، مُحملين المسؤولية بالدرجة الأولى للرئيس، الذي يقود زمام الأمور ويستحوذ على كل السلطات.
مأزق الحوار
بات الجميع يعلم أن الحوار هو المخرج الوحيد للأزمة في ظل الصمت الرئاسي المطبق عن ذلك، لكن مع من؟ وتحت أي سقف؟
تتمسك المعارضة في شقها المكون من الجبهة وحراك “مواطنون ضد الانقلاب”، بالحوار تحت سقف دستور الثورة التشاركي، بينما تذهب قوى أخرى من المعارضة أساسها ائتلاف صمود وحزبي المسار والاشتراكي، بينهم شخصيات انقلبت على مشروع قيس سعيد (مثل الخبير الدستوري حافظ أمين ورئيس لجنة الدستور الصادق بلعيد)، إلى رفض العودة لما قبل الانقلاب الدستوري، وأطلقت مبادرة للحوار ضمن ما أسمته “بديلًا للإنقاذ”.
وفي واد آخر يسعى اتحاد الشغل – المنظمة النقابية الأكبر – لاستعادة نفس الدور الذي لعبه في 2013، وذلك بسحب البساط “ظاهريًا” من تحت قيس سعيد، كما سحبه من قبل من تحت الترويكا الحاكمة بالصندوق، عبر الانطلاق في مشاورات لحوار وطني لم تتضح معالمه بعد.
ولئن حظي اتحاد الشغل سابقًا بثقة داخلية وخارجية نال بها جائزة نوبل، فإن هذه المرة العملية تبدو محاطة بشكوك كبيرة في قدرة الاتحاد على إثناء قيس سعيد عن وقف مغامرته في المضي قدمًا، اللهم عبر التفافية يقوم بها اتحاد الشغل للإيهام بحوار، أو لعب دور الإلهاء، وهو في الحقيقة ليس إلا إعادة إنقاذ للرئيس، وهذا ما يتخوف منه كثيرون الذين لم يدعموا المنظمة النقابية في لعب دور سياسي موثوق مجددًا.
وفي ظل المناخات المعتمة على جميع الأصعدة، والمبادرات المتخمة بالحوار، كثر القيل والقال، لكن تظل جميعها منزوعة من كل شرعية ما لم يعرب قصر قرطاج عن موقفه منها، وقد ظل قيس سعيد دائمًا متمسكًا بالمسير للأمام، بعد أن اعتبر الرئيس أن نسبة المنتخبين مؤخرًا أهم من بنسبة المقاطعين. أما التغيير بغير الحوار، فلا يأتي إلا بإرادة الشعب في الشوارع كما فعلها قبل 12 عامًا، أو بالإضرابات القطاعية التي بدأت في الظهور، وهذا احتمال أضعف.
عمومًا، مجرد الحديث عن الحوار الذي تم التسويق له فجأة بعد المهزلة الانتخابية وبوجوه قديمة ومن الدولة العميقة، يعد في حد ذاته إنجازًا للمعارضة، قد تنجح في جر الرئيس إلى مربعاتها بعد أن بدأت تقتحم مربعاته أمام أعين الأمن الجمهوري.
وعليه بدلًا من استنزاف الأعصاب والتفكير في كيفية الخروج من المأزق، جرّبوا المصالحة والحوار، وادعوا إلى انتخابات حرة نزيهة لنتبين حجم المقاطعين من المقبلين، كفى عبثًا، حذاري من العنف فهو عنوان للخراب.