ترجمة حفصة جودة
إنها النبتة التي غيّرت البشرية، فبفضل زراعة القمح تمكن الإنسان العاقل من إطعام نفسه مع تزايد عدده، ما حول مجموعة من الصيادين الذين يكافحون من أجل البقاء في عالم عدائي إلى حكام الكوكب.
في تلك العملية، أصبح ذلك العشب البري الذي كان محصورًا في منطقة صغيرة بالشرق الأوسط، يغطي مساحات شاسعة من الأرض، وكما لاحظ المؤرخ يوفال نوح هراري “فإن السهول الكبرى لأمريكا الشمالية التي لم تنم فيها أي ساق قمح منذ 10 آلاف سنة، يمكنك أن تمشي الآن فيها مئات ومئات الكيلومترات دون أن ترى أي نبات آخر”.
يوفر لنا القمح الآن 20% من السعرات الحرارية التي يستهلكها البشر كل يوم، لكن إنتاجه أصبح خاضعًا للتهديد، فبسبب الاحتباس الحراري الذي سببه البشر، يواجه كوكبنا مستقبلًا تزداد فيها موجات الحر الشديدة والجفاف وحرائق الغابات التي بإمكانها أن تدمر المحاصيل في المستقبل وتتسبب في مجاعة واسعة النطاق.
لكن هذه الأزمة يمكن تجنبها بفضل البحث البارز الذي يجريه الباحثون في مركز جون إينس بمدينة نورويتش البريطانية، فهم يعملون على مشروع يجعل القمح أكثر مقاومة للحر والجفاف، أثبتت هذه الجهود أن الأمر صعب للغاية، لكنه سيكون موضوع مجموعة جديدة من التجارب خلال أسابيع قليلة كجزء من مشروع، تزرع فيه أنواع مختلفة من القمح – صُنعت جزئيًا بتقنية التعديل الجيني – في تجارب ميدانية بإسبانيا.
يقول فريق مركز جون إينس إن قدرة هذه الأنواع المختلفة من القمح على الصمود في وجه حرارة مدينة أيبيريا سيحدد كم سيتمكن علماء المحاصيل من حماية مستقبل الأراضي الزراعية من أسوأ تقلبات التغير المناخي، ودعم إنتاج الغذاء لمليارات يسكنون الأرض.
يملك البشر جينومًا واحدًا فقط يضم توجيهات الحمض النووي، لكن قمح المعكرونة يمتلك نوعين مختلفين من الجينوم الموروث، بينما يمتلك قمح الخبز 3 أنواع
لم يكن القمح النبات الوحيد الذي يغذي الثورة الزراعية، فهناك نباتات رئيسية أخرى مثل الأرز والبطاطس تلعب دورًا في الأمر، لكن القمح حظي بدور قيادي في اندلاع الثورة الزراعية التي صنعت عالمنا الحديث الذي يتشكل من انفجارات سكانية ونخب مدللة، مثلما قال هراري في كتابه الشهير “العاقل”.
هناك نوعان رئيسيان من القمح يُزرعان في المزارع: قمح المعكرونة وقمح الخبز، يقول البروفيسور غراهام مور عالم وراثة القمح ومدير مركز جون إينس إن النوعين معًا يلعبان دورًا حاسمًا في النظام الغذائي لنحو 4.5 مليار شخص، ويضيف “من بينهم نحو 2.5 مليار شخص في 89 دولة يعتمدون على القمح في طعامهم اليومي، لذا يمكننا أن نرى أهمية هذا النبات عالميًا”.
يقول مور إن المشكلة التي واجهت علماء المحاصيل الذين كانوا يسعون لتحسين مقاومة وإنتاجية أنواع القمح المختلفة، كانت تعقيد جينات القمح، ويضيف “يملك البشر جينومًا واحدًا فقط يضم توجيهات الحمض النووي، لكن قمح المعكرونة يمتلك نوعين مختلفين من الجينوم الموروث، بينما يمتلك قمح الخبز 3 أنواع”.
كان لهذا التعقيد عواقب مهمة، فللتحكم في الجينيات والكروموسومات المختلفة، اكتسب القمح جينًا مستقرًا يفصل بين الكروموسومات في الجينوم المختلفة، يضمن ذلك أن تُنتج هذه الأشكال من القمح محصولًا كبيرًا، ومع ذلك يمنع هذا الجين أي تبادل بين الكروموسومات مع الأقارب البريين للقمح، ما يحبط جهود علماء الوراثة الذين يحاولون صنع أنواع جديدة ذات خصائص مفيدة.
يقول مور: “يمتلك الأقارب البريون خصائص مفيدة – مثل مقاومة الأمراض وتحمل الأملاح والوقاية من الحر – وهي الخصائص التي نرغب في إضافتها لنجعل القمح أكثر قوة وأسهل في النمو في الظروف الصعبة، لكننا لم نتمكن من ذلك بسبب الجين الذي يمنع اكتساب تلك الصفات”.
نجح علماء مركز جون إينس الآن في اكتشاف “الكأس المقدسة”، فقد تمكنوا من تحديد الجين الرئيسي وأسموه “Zip4.5B” وصنعوا نسخة متحولة منه
“يُعرف هذا الجين بأنه “الكأس المقدسة” لعلماء وراثة القمح، ورغم أن القمح أكثر النباتات أهمية لإطعام العالم، فإنه أكثر المحاصيل الرئيسية صعوبة في دراسته بسبب تعقيد وحجم مجموعه المورثي (الجينوم)، وهنا تكمن أهمية البحث للعثور على الجين الذي يسبب هذه المشكلة”.
استغرق الأمر عدة عقود، لكن علماء مركز جون إينس نجحوا الآن في اكتشاف “الكأس المقدسة”، فقد تمكنوا من تحديد الجين الرئيسي وأسموه “Zip4.5B” وصنعوا نسخة متحولة منه، تسمح للجين بأداء وظيفته الرئيسية – السماح لكروموسومات القمح بالاقتران بشكل صحيح والحفاظ على المحاصيل – لكنها تفتقر للقدرة على منع صنع أنواع جديدة بصفات تحصل عليها من الأعشاب البرية.
“كانت الأداة الرئيسية في هذا العمل تصحيح الجين، ما سمح لنا بإجراء تغييرات محددة في الحمض النووي للقمح، من دون ذلك كنا سنواصل الكفاح للوصول إليه، لقد حقق ذلك كل التغييرات”.
منذ ذلك الحين، اكتشف علماء جون إينس أن هناك على الأقل 50 نسخة مختلفة من “Zip4.5B”، يقول مور: “سنقوم الآن باختبار هذه النسخ على الأنواع المختلفة للقمح التي أنتجناها”.
“ستُزرع هذه الأنواع في إسبانيا بأرض قريبة من مدينة قرطبة لاكتشاف مدى نجاحهم، الهدف من ذلك التعرف على الأنواع التي ستنجو في ظل درجات الحرارة العالية التي سيواجهها المزارعون في العقود القادمة”.
“لعب القمح دورًا بارزًا في التاريخ البشري، ونأمل أن يساعد هذا العمل في الحفاظ على أهميته كمادة غذائية للمستقبل”.
المصدر: الغارديان