ترجمة وتحرير: نون بوست
من المفترض أن يجدد مجلس الأمن الدولي اليوم قرارًا يسمح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى ملايين السوريين دون انتظار إذن من الرئيس السوري بشار الأسد. وفي الأسابيع التي سبقت هذا التصويت، كان الدبلوماسيون وعمال الإغاثة وملايين السوريين قلقين بشأن استخدام روسيا حق النقض في مجلس الأمن لمنع نقل المساعدات عبر الحدود.
لهذا القلق مبررات، فلطالما جادلت موسكو التي تعد أكبر داعم لنظام الأسد بأن المساعدات الإنسانية تنتهك سيادة سوريا، وسبق لها أن استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد فتح نقاط عبور أخرى لإيصال المساعدات إلى سوريا. يبدو أنه سيتم تفادي الأزمة هذه المرة، على الأقل خلال الأشهر الستة المقبلة. ولكن حالة عدم اليقين التي تلف مصير قرار مجلس الأمن تكشف عن مدى صعوبة تقديم المساعدات الإنسانية في عصر المنافسة بين القوى العظمى.
أظهرت كل من روسيا والصين في السنوات الأخيرة مدى استعدادهما لتوظيف نفوذهما الدبلوماسي وحق النقض في مجلس الأمن لتمكين الحكومات الصديقة من حرمان شعبها من المساعدات الإنسانية. هذا الصيف، ساعدت روسيا والصين إثيوبيا في تأجيل اجتماعات مجلس الأمن لمناقشة إعلان المجاعة في تيغراي، وذلك وفقًا لما ذكره مارك لوكوك وكيل الأمين العام السابق للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ. ولم يتم الإعلان عن المجاعة رسميًا في شمال إثيوبيا رغم حقيقة أن حوالي نصف مليون طفل يعانون من سوء التغذية في تيغراي.
من أجل تبرير تقييد أو عرقلة المساعدات، تجادل الصين وروسيا بأنه لا يمكن انتهاك السيادة لأي سبب حتى عندما تشن الأنظمة القمعية حرب حصار ضد شعوبها. وبطبيعة الحال، لا يمكن إنكار غياب الاتساق في تطبيق هذه الدول للقانون الدولي، لا سيما بالنظر إلى الحرب العدوانية التي تشنها روسيا في أوكرانيا. ومن خلال تسييس المساعدات الإنسانية وتسليحها، تعمل الصين وروسيا على توسيع نفوذهما على حساب الاستقرار الدولي والمعايير الإنسانية وحقوق الإنسان.
إذا تمكنت الحكومات القمعية من التلاعب بالمساعدات الإنسانية لمقاومة نزاعاتها الداخلية، يفقد حينها المجتمع الدولي أداةً أساسية لتخفيف المعاناة وإدارة الأزمات. ويتعيّن على الولايات المتحدة وحلفائها إيجاد طرق لتقليل تأثير المنافسة بين القوى العظمى على الأزمات الإنسانية – سواء داخل سوريا أو خارجها. وتتمثل إحدى الطرق في مناقشة قضايا المساعدات الإنسانية خارج مجلس الأمن المستقطب.
شريان الحياة الأخير
لي تسليح المساعدات الإنسانية بظاهرة جديدة، لكن عواقبها في سوريا حادة ومأساوية للغاية. ففي أعقاب اندلاع الثورة في سنة 2011، رفض نظام الأسد بشكل منهجي تقديم المساعدة الإنسانية لشرائح كبيرة من الشعب في محاولة لإجبار المجتمعات الخاضعة لسيطرة المعارضة على الاستسلام أو القضاء عليها تمامًا. وردًا على ذلك، اتخذ مجلس الأمن بالإجماع القرار عدد 2165 في سنة 2014.
وقد سمح هذا القرار لوكالات الأمم المتحدة بتمويل وتسليم وتنسيق المساعدات عبر أربعة معابر حدودية إلى المناطق غير الخاضعة لقوات الأسد – دون موافقة النظام. وبفضل هذا القرار، وصلت المساعدات التي تقدمها وكالات الإغاثة إلى ملايين الأشخاص الذين كانوا سيبقون لولا ذلك معزولين.
لكن في السنوات الأخيرة، استخدمت روسيا – حليف الأسد الذي لا غنى عنه – نفوذها في مجلس الأمن لتقويض القرار وتقليص عدد المعابر إلى معبر واحد بين سوريا وتركيا. وحتى في ظل هذه القيود، تصل مساعدات الأمم المتحدة إلى 4.5 مليون شخص محاصر في شمال غرب سوريا معظمهم من الناجين من حصار الأسد وحملات القصف الروسية.
سعت موسكو لتحويل الغالبية العظمى من مساعدات الأمم المتحدة تتدفق عبر دمشق، مما يمنح نظام الأسد مزيدًا من السيطرة على عمليات تسليمها وقد سمح ذلك للأسد بوقف المساعدات عن مناطق معينة وتوجيهها إلى حلفائه فضلا عن التحكم في الرواية المتعلقة بالصراع نفسه. وخير مثال على ذلك امتناع مركز الأمم المتحدة في دمشق عن الكشف عن حصار الحكومة السورية لمدينة مضايا التي يسيطر عليها المتمردون حتى تم تداول صور مروعة للأطفال الجوعى في وسائل الإعلام في كانون الثاني/ يناير 2016.
هددت موسكو أيضًا باستخدام حق النقض لانتزاع تنازلات دبلوماسية من أعضاء مجلس الأمن الآخرين، بما في ذلك الولايات المتحدة. وفي السنة الماضية، هددت بإغلاق معبر باب الهوى المتبقي لتأمين موافقة مجلس الأمن على أنشطة الإنعاش المبكر في المناطق التي يسيطر عليها النظام وتعزيز الدعم لعمليات الإغاثة عبر الخطوط، حيث يتم توجيه المساعدات الإنسانية عبر دمشق في الخطوط الأمامية إلى المناطق السورية التي تسيطر عليها المعارضة. ويمنح تسليم المساعدات عبر هذه الخطوط نظام الأسد مزيدا من السيطرة على المساعدات التي تصل إلى شمال غرب سوريا، ناهيك عن ضعف التنسيق وغياب آليات الرصد القوية لمسار المساعدات عبر الحدود.
في تموز/ يوليو الماضي، في أعقاب نقاش حاد في مجلس الأمن، فرضت روسيا من خلال مسودتها الخاصة تمديد إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود لستة أشهر فقط، أي أن جماعات الإغاثة أمامها ستة أشهر فقط للتخطيط لكيفية تلبية احتياجات السوريين في شمال غرب سوريا.
سيدفع ملايين السوريين ثمناً باهظاً وسيحاول الكثيرون منهم الفرار إلى تركيا أو البلدان المجاورة الأخرى، التي لا يخفى على أحد أنها أغلقت أبوابها في وجه اللاجئين السوريين
في السابق، كان هذا القرار يُمدّد بشكل مؤكد لمدة 12 شهرًا في كل مرة، لمنح جماعات الإغاثة الوقت الكافي لتوظيف عمال الإغاثة، وتخطيط البرامج، وإدارة المستشفيات والمدارس ومرافق المياه وتوصيل الطعام لملايين السوريين الذين يعتمدون على تلك المساعدات. ومع انتهاء صلاحية القرار في 10 كانون الثاني/ يناير، ينبغي على مجلس الأمن التصويت مرة أخرى على ما إذا كان سيُمدد تفويض الأمم المتحدة لمدة ستة أشهر أخرى.
ترك هذا الإطار الزمني القصير المحدد بفترة ستة أشهر وحالة عدم اليقين الدبلوماسي وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية عاجزة عن التخطيط لاستجابة إنسانية فعالة. فعلى سبيل المثال، لا يمكنهم التوظيف لسد الشغورات في مناصب لا يستطيعون ضمان تمويلها. وكان تأثير ذلك على أرض الواقع ملموسًا إلى حد كبير.
أفاد منتدى المنظمات غير الحكومية في شمال غرب سوريا السنة الماضية بأن أكثر من 8500 موظف غير حكومي في شمال غرب سوريا فقدوا وظائفهم بينما تم تعليق أكثر من 400 نشاط طبي وتعليمي وأمني إلى جانب توقف عمل مرافق المياه والصرف الصحي. خلاصة القول أدى تهديد روسيا باستخدام حق النقض الروسي إلى تقويض الاستجابة الإنسانية – وهذا ما تسعى إليه موسكو على الأرجح.
لم يستطع النظام السوري وروسيا استعادة شمال غرب سوريا بالقوة بسرعة، وسيواجهان تمردًا مطوّلا وموسّعًا ومعقدًا بوجود القوات التركية. ولكن من خلال تقليص المساعدات الموجهة إلى هذه المنطقة وقصفها بشكل متقطع، سيتمكن نظام الأسد من احتواء المعارضة وإضعاف السكان المدنيين. وقطع المساعدات عبر الحدود بالكامل من شأنه أن يزيد من تضييق الخناق على الشعب.
سيدفع ملايين السوريين ثمناً باهظاً وسيحاول الكثيرون منهم الفرار إلى تركيا أو البلدان المجاورة الأخرى، التي لا يخفى على أحد أنها أغلقت أبوابها في وجه اللاجئين السوريين. قد تؤدي هذه النتائج إلى زعزعة الاستقرار في منطقة هشة أصلاً وتعميق المعاناة التي سيدفع فاتورتها المانحون الأمريكيون والأوروبيون. كانت الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة بالفعل أكثر المانحين سخاءً للمساعدات الإنسانية في جميع أنحاء العالم على مدار العقد الماضي، وسوف يتعرضون لضغوط شديدة للحفاظ على نفس المستويات.
والأسوأ من ذلك أن الآثار السلبية للوضع الإنساني المتدهور في سوريا يمكن أن تنتشر بسهولة خارج المنطقة. من المرجح أن يستجيب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تنتظره انتخابات في وقت لاحق من هذه السنة، لموجة جديدة من اللاجئين السوريين من خلال فتح الحدود أمامهم إلى أوروبا. وتجدر الإشارة إلى أن آخر موجة كبيرة للاجئين والمهاجرين السوريين في الفترة 2015-2016 رسّخت الانقسامات داخل المجتمعات الأوروبية وأدت إلى صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة وتحدت المفاهيم الأوروبية لحقوق الإنسان. ومن المؤكد أن بوتين سيُسعد برؤية أوروبا تواجه مثل هذا الموقف مرة أخرى.
هل هناك حاجة لإذن من النظام السوري؟
ما يحاول كل من الأسد وبوتين القيام به في سوريا ليس جديدًا. ففي سنة 2008، منعت الحكومة العسكرية في ميانمار خوفًا من التدخل الخارجي من قِبل الحكومات الأجنبية عمال الإغاثة الدوليين من دخول البلاد بعد أن خلّف إعصار نارجيس قرابة 140 ألف قتيل ووضع 2.4 مليون آخرين تحت الخطر. واليوم، يمنع المجلس العسكري في ميانمار المساعدات من الوصول إلى العديد من مناطق الأقليات العرقية سواء تم تسليمها داخليًا أو عبر الحدود.
في منطقة تيغراي بإثيوبيا، فرضت الحكومة الفيدرالية – على أمل عزل قوات المعارضة وإضعاف السكان الخاضعين لسيطرة المتمردين – حصارًا قبل سنتين على المساعدات والخدمات الموجهة لملايين المدنيين. وعلى مدى السنتين الماضيتين، منعت روسيا والصين مجلس الأمن من تمرير قرارات تدين الأزمة الإنسانية وتدعو إلى تكثيف العمل الإنساني في كل من ميانمار وإثيوبيا.
ليس من حق أي حكومة قمعية أن تقرر من مواطنيها سيتلقى مساعدات خارجية، مع العلم أن روسيا والصين ستآزرها في مجلس الأمن. يجب أن تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها سبلاً للتخفيف من المأساة الإنسانية الناجمة عن اندلاع منافسة بين القوى العظمى في الأزمات الإنسانية. وفي حالات معينة، سيكون إخراج مجلس الأمن من هذه المعادلة خطوة أولى مهمة.
حتى قبل صدور القرار عدد 2165، رأى عدد من الباحثين القانونيين أن قرار مجلس الأمن ليس مطلوبًا لإضفاء الشرعية على تسليم المساعدات عبر الحدود في مواجهة معارضة الحكومات القمعية. وحجتهم في ذلك تقوم على أساسين. أولاً، لا توجد قاعدة في القانون الدولي تنص بشكل قاطع على أنه من غير القانوني لوكالات الإغاثة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة عبور حدود دولية إلى جزء من دولة لا تملك الحكومة الوطنية فيها سيطرة إقليمية عليها لتقديم مساعدة إنسانية محايدة في تعاون كامل مع السلطات والمجتمعات المحلية. وثانيًا، يشير رفض نظام الأسد السماح بوصول المساعدات الإنسانية للسكان المحتاجين طوال فترة الصراع إلى وجود نمط تكون فيه البدائل مثل المساعدات عبر الحدود أمراً ضرورياً.
اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ التابع للأمم المتحدة، بشكل ضمني أو صريح، امتناع الحكومة السورية عن الموافقة على المساعدة الإنسانية في الأجزاء غير الخاضعة لسيطرتها أمراً تعسفيّاً. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، أن الحكومة السورية منعت المساعدات بطريقة تنتهك التزامات الدولة بموجب القانون الدولي. فعلى سبيل المثال، ينص القانون على أنه لا يُسمح للدول بتجويع السكان المدنيين، ولا يمكنها منع المساعدات عن المدنيين بسبب اعتبارهم داعمين لأعداء الدولة.
لا شك أن عسكرة المساعدات الإنسانية أمر مدمر لملايين المدنيين وسيكون مكلفًا للولايات المتحدة وشركائها
في الآونة الأخيرة، قالت الرابطة الأمريكية للإغاثة من أجل سوريا، وهي مجموعة من المنظمات الإنسانية التي يقودها السوريون في الشتات، والمحامون الدوليون في غيرنيكا 37، وهي غرفة محاماة بريطانية تركز على القانون الجنائي الدولي وقانون حقوق الإنسان، إنه على الرغم من أن الإجراءات التي اتخذها مجلس الأمن قدمت أساسًا أوضح للمساعدة عبر الحدود من خلال القرار عدد 2165، إلا أن الوضع على الأرض اليوم يجعل القرار واحدًا فقط من عدة مبررات قانونية لاستمرار مثل هذه المساعدة. ورفض النظام التعسفي وصول المساعدات طوال فترة النزاع وخطوط السيطرة الثابتة في البلاد يدعم الحجة القائلة إن المساعدة الإنسانية عبر الحدود عملية قانونية.
لا يعني أي مما سبق أن مجلس الأمن مطالب بالامتناع عن استئناف تقديم المساعدات عبر الحدود. وحتى الانقطاع المؤقت للمساعدات يمكن أن يكون كارثيًا على سكان شمال غرب سوريا. لا يزال مكتب الشؤون القانونية التابع للأمم المتحدة يعتبر القرار شرطًا لازماً لاستمرار هذه المساعدات، ومن الواضح أن وكالات الأمم المتحدة لا تزال تشعر بأنها ملزمة بهذا الرأي القانوني الداخلي. ومع أنه ينبغي على الأعضاء الآخرين في مجلس الأمن مواصلة جهودهم الدبلوماسية لضمان استمرار القرار عدد 2165، فإن المعضلة الحالية ستظل قائمة إلى أن يكون هناك نقاش قوي وشفاف بين مكتب الشؤون القانونية والعديد من الخبراء الخارجيين الذين لا يتفقون مع تفصيله.
تلعب هيئات الأمم المتحدة الأخرى دورًا مهمًا في حالة سوريا. وكما قالت الباحثة ريبيكا باربر، يمكن للجمعية العامة ولجانها ذات الصلة إصدار قرار يؤكد على ضرورة استمرار المساعدات عبر الحدود في ضوء الظروف في شمال غرب سوريا. وستكون هذه الخطوة دليلا هاماً للإرادة السياسية العالمية ومن شأنها أن تعزز الحجة القانونية القائلة إن عمل مجلس الأمن ليس ضرورياً.
وعلى نطاق أوسع، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها العمل على تكريس الحق في المساعدة الإنسانية حتى لو رفضته حكومة ذات سيادة بشكل تعسفي. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق قرار من الجمعية العامة أو عن طريق تعديل القرار الصادر سنة 1991 الذي أوجد بشكل أساسي النظام الإنساني الدولي الحالي. يمكن لمثل هذه التعديلات أن توضح كيف ومتى تكون الأمم المتحدة قادرة على توفير الدعم للمدنيين في حالات مثل تلك الموجودة اليوم في سوريا وإثيوبيا. ويجب على الولايات المتحدة والأطراف الأخرى المناصرة للهيكل الإنساني الدولي تشجيع الدول التي تشاطرها الرأي على إرساء دعم متعدد الأطراف لهذا النهج.
لابد من التحرك بسرعة لأنه من المرجح أن تزداد رغبة الصين وروسيا في استخدام نفوذهما لصالح الطغاة مع اشتداد حدة المنافسة بين القوى العظمى. ولا شك أن عسكرة المساعدات الإنسانية أمر مدمر لملايين المدنيين وسيكون مكلفًا للولايات المتحدة وشركائها. ولكن مع المثابرة والتعاون الدبلوماسي، يمكن أن تكون الأزمة في سوريا فرصة للمجتمع الدولي لمعالجة المشكلة مباشرة وإنقاذ الأرواح في الأزمات الإنسانية الأخرى، الآن وفي المستقبل.
المصدر: مجلة فورين أفيرز