لربّما تنبأ ممدوح عدوان في كتابه “حيوَنة الإنسان”، بمصير الآدمي حين تتحكم فيه أروقة المؤتمرات والمحافل الوطنية الرسمية إذ يقول: ” ألا تشعر بالضرب حين تكون حرًا يعني أن تردّه ، لكن أنت تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقاه، ولا حريةَ لك ولا قدرة لديك على ردِّه، هناك ستجرّب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب، لا مجرد الألم الموضعي للضربة، إنما بألم الإهانة، حين تحسّ أن كل ضربة توجَّه إلى جزء من جسدك توجَّه معها ضربة أخرى إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك.”
على نحو شخصي، لا يمكنني تناول ذكرى الانتفاضة الأولى أو الثانية دون أن ينحاز الجزء الأكبر من الدماغ إلى هذه المنطقة التي يشعر فيها كل عربيّ يمتلك كمًّا من الإحساس التاريخي بالنقص إلى الاختيال والفخر والرّفعة، نختال بالذكرى هذه لأنها قادرة بشكل صريح وصارخ على نقلنا من بقعة الضحية التي طُمِرنا فيها طويلاً إلى بقعة القدرة الفعلية التي استطاعت في يوم من الأيام ردّ الاعتبار لآدميتنا وإنسانيتنا التي انتهكناها نحن أولاً، ثم أتت كل القوى الأخرى لترمّد الباقي، لم يُسكِتْنا ويربّت على أكتافنا تبرير استحقاقيتنا للاستعمار الذي يستخدمه بعض العقلانيين أو من يصفون أنفسهم بذلك، حين يبررون للقوى الاستعمارية وجودها واجتياحها للمنطقة العربية مكانيًا وذهنيًا، حيث إنّ العربي ليس على درجة من الأهلية الكافية لأن يحكم نفسه ويدير شؤونه ويمضي بوظيفته الاجتماعية إلى حيث يكون مستحقًا للدخول في التاريخ، وكأن جينات العربي تنقص كروموسومًا واحدًا عن الغربي المثقف الراقي الذي أتى على أوطاننا ليخلصنا من قابليتنا الجينية للاستعمار .
لقد اجتاح العالم في القرن العشرين وما بعده نزوع مكثف نحو النسبية، كل شيء في هذا العالم نسبي ابتداءً من المفاهيم العليا للبطولة وللحرية وللحق وللعدل وللمساواة وحتى آخر تجلياتها عمليًا، بهذا النزوع بدأ تسريب تناول القضية الفلسطينية في أروقة الكومادور “المثقف العاقل” بشكل دائم كواقع عادي ومحتم، تَبعًا لهذه التناولات الضمنية للسلم واستراتيجيات تطبيقه عمليًا على الأرض، سيتآخى التكوين البديهي للنضال الصهيوني في عقول المستعمِر الغاشم، مع الرضوخ التام – والمبرر بشكل ما عند الساسة والمثقفين – للسلم بصورة جلية باعثة على الغثيان .
إن الصهيوني حين يرتكز على التبرير النضالي لحركته والمهمة الحضارية التي يحملها لفلسطين يقتنع تمامًا بأنه لم يقم إلا باستئناف السيادة الصهيونية على فلسطين في الستين عامًا الماضية، وعلى هذا الأساس تمثل” فلسطين ما قبل إسرائيل” الحقبة الكولنيالية المستعمَرة في الخطاب الصهيوني، حيث أتت إسرائيل كخليفة ما بعد كولنيالية لتعيد الحق لأصحابه.
لقد أدت الانتفاضة التي وُصفت في بعض الأروقة بأنها حركة يوتوبية مثالية لا تتماشى مع واقعية العالم وبراغماتيته المنحطة إلى نفض الركام عن أي محاولة للاعتراف بالتنازل عن النظام القيمي العادل للقضية وللحق، فكان حقًا على توصيفها ألا يكون أقل من “ما أكبرَ الفكرة، وما أصغر الدولة” وما أزيَف كل ما يحاول أن يؤسس لغير ذلك.
قاد اشتعال الانتفاضة إلى جعل فكرة إنهاء الاحتلال أمرًا ممكنًا، وكلُّ فعل مقاومة يهبنا وسيهبنا هذه الريح المنذرة بأن نرتكب المستحيل وأن نمضي فيه كاملين مُترعين بحقنا الذي لم ولن يقدَّم لنا على طاولات الاتفاقيات والنظريات النسبية في تناول الاستعمار وكل اجتياحاته الذهنية والمكانية .
حمّل الشعب الفلسطيني يومًا ما مثقفي وساسة التبرير الأمل بأن يكونوا “واقعيين” إلى حد كافٍ لأخذ الحق سياسيًا، ولكن الحقيقة التاريخية تأبى إلا أن تثبت نفسها كما قال لنا فانون: “إن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائمًا لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تامًا؛ لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي”.
تباعًا فإن كل هذه البرامج الخيالية تثبت بأن الواقعية التي يُتبجَّح بها ليست إلا فحوى الخطاب الليبرالي الغربي الذي فشل الساسة والمثقفون العرب في نقده فاتجهوا إلى لعب الدور الأسهل الذي يخدم مصالحهم فيه، أصبحت خدمة القضية تستوجب نقلها إلى منطقة الظل استيرادًا وتصديرًا؛ تصدير استطلاعات الرأي والمعلومات السسيولوجية والجولات في جميع أنحاء العالم واستيراد الدعوات الدولية وأوسمة الرأي والإعلام الغربي.
إن تناولنا لذكرى الانتفاضة المجيدة يجب أن يكون بروح الجماهير الشعبية الثائرة والمنتفضة التي بلّلها المجد يومًا ما، وصبْغ هذه الروح على لغة الكلام والثقافة والخطاب والتحريض والتحرير، كما أتانا فانون بتجربة عربية أفريقية في مقاومة الاستعمار والتحرر القومي وبقي يؤكد أن التحرر والنضال القومي سيجعل الأمة حاضرة دومًا على مسرح التاريخ، ففي قلب الوعي القومي ينهض الوعي العالمي ويحيى، وليس هذا البزوغ المزدوج في نهاية المطاف إلا ما سيعيد للعربي آدميته التي ستتحمل دوًما الضرب ما دامت تردّه محمّلة بكل عنفوان الحرية والحق والنضال الذي لا يساوم عليه في هذا الطريق الطويل.
المجد لصاحب الحق منتفضًا، المجد له إذ خلق من جرحه شفقًا!