رغم انطلاق المرحلة النهائية للعملية السياسية في السودان في 8 يناير/كانون الثاني الحاليّ، التي يتوقع أن تتوصل إلى اتفاق بنهاية الشهر المقبل على أقصى تقدير، فإن مصر وبدلًا من دعم العملية طرحت مبادرة لم تعلن تفاصيلها، لكن يبدو أنها ترغب من خلالها في ضمان مشاركة الجيش وحلفائه في الحكومة المقبلة. واتفق رئيس الحكم العسكري الجنرال عبد الفتاح البرهان، مع سفير القاهرة بالخرطوم هاني صلاح على توضيح عناصر المبادرة للدوائر الرسمية والشعبية للتعرف على هدفها الحقيقي.
أطلقت المرحلة النهائية للعملية السياسية، وفيها تناقش الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، تفكيك البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للنظام السابق، وتقييم اتفاق السلام، والعدالة والعدالة الانتقالية، وإصلاح قطاع الأمن والدفاع وحل أزمة شرق السودان، في مؤتمرات وورش عمل في نهايتها يعود الجيش إلى ثكناته وتنتقل السلطة إلى المدنيين في فترة انتقال مدتها 24 شهرًا.
قبل أيام من بدء هذه المرحلة، قدم مدير المخابرات العامة المصرية عباس كامل خلال زيارته إلى العاصمة الخرطوم، مقترحًا يتعلق باستضافة القاهرة مشاورات سياسية بين ائتلاف الحرية والتغيير وتحالف آخر يسمى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية.
رفضت الحرية والتغيير هذا المقترح وقالت إنها لا تعترف بأي كتلة سياسية مصنوعة ولن تجلس معها، كما أن الاتفاق الإطاري حدد أطراف وقضايا المرحلة النهائية، ومع ذلك فهي تدعو الجماعات المسلحة في الكتلة الديمقراطية لقبول العملية السياسية.
اعتادت القاهرة عدم إعلان سياستها حيال ما يجري في الخرطوم، إلا بعد تعثر حلفائها في تعديل مسار الأوضاع لصالحها
تعتقد الحرية والتغيير أن القوى الموجودة في الكتلة الديمقراطية، باستثناء الجماعات المسلحة، مصنوعة بواسطة الجيش، وهي بالفعل هيأت الأوضاع للانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وظلت تدافع عنه باستماتة.
بالمقابل، وافقت الكتلة الديمقراطية على المقترح المصري واشترطت أن تتحاور معها الحرية والتغيير كتحالف كامل وليس مع بعض أطرافها، وتطمح إلى تجاوز الاتفاق الإطاري، وربما القبول برؤيتها التي تتضمن منحها صلاحية تشكيل الحكومة وتقاسم السلطة مع العسكر.
تتكون الكتلة الديمقراطية من جماعات مسلحة هي: حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي والعدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان برئاسة مصطفى طمبور، إضافة إلى زعماء عشائر وقوى سياسية أبرزها الحزب الاتحادي جناح جعفر الميرغني.
لماذا المبادرة، والجميع متفق على الاتفاق الإطاري؟
لم تشارك مصر في محادثات الاتفاق الإطاري الذي وقع بضغوط من أمريكا وبريطانيا والإمارات والسعودية، إضافة إلى بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية المعنية بالتنمية “إيغاد”، ويظهر أن القاهرة كانت تأمل في نجاح خطواتها التي اتخذتها لعرقلة الوصول إلى المرحلة النهائية.
تتمثل هذه الخطوات في إرسال آخر رئيس وزراء في العهد السابق محمد طاهر إيلا من القاهرة إلى شرق السودان، الذي حاول خلال زيارته القصيرة إعادة بناء الثقة بين طرفي مجلس البجا، لكنه فشل في هذا ونجح في دفع تقرير مصير الشرق إلى الواجهة.
أيضًا أعادت مصر رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي – الأصل محمد عثمان الميرغني إلى العاصمة الخرطوم للاستفادة من نفوذه الديني والسياسي في توجيه العملية السياسية لصالحها، وهذا واضح في دعم الميرغني لنجله جعفر الذي يرأس الكتلة الديمقراطية، فيما ينخرط نجله الثاني وهو الحسن مع الحرية والتغيير في العملية السياسية.
اعتادت القاهرة عدم إعلان سياستها حيال ما يجري في الخرطوم، إلا بعد تعثر حلفائها في تعديل مسار الأوضاع لصالحها، وإعلانها مبادرة لتسوية سياسية في السودان، فهي قبل كل شيء، اعتراف رسمي منها بفشلهم.
يتوقع أن تتضمن المبادرة المصرية تجاوز الاتفاق الإطاري بغرض أن يتقاسم الجيش السوداني السلطة مع القوى المدنية على غرار ما حدث في 2019، بدعوى الانفلات الأمني وتعدد الجيوش في السودان والتهديدات التي يطلقها بين الحين والآخر أنصار بعض الجماعات المسلحة بشن حرب داخل العاصمة الخرطوم ومدن وسط وشمال البلاد.
لا تملك مصر حلولًا تقدمها لإحداث انفراجة في الأزمة السودانية لصالحها، بينما تستطيع عرقلة قضايا المرحلة النهائية للعملية النهائية عبر حلفائها، وهذا يمنحها وقتًا إضافيًا، لكنه يعقد الأزمة أكثر.
ويتوقع أيضًا أن تضغط مصر عبر الجيش السوداني والحزب الاتحادي – جناح جعفر الميرغني – وحليفها الجديد رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، على الحرية والتغيير لضمان وجود قادة الجيش في السلطة، وفي حال رضخت لهذه الضغوط، فإن الرأي العام في السودان يرفض أي وجود للعسكر في الشأن السياسي. ولا يبدو أن الحرية والتغيير على استعداد لتقديم أي تنازل عن الاتفاق الإطاري، فقد انسحب حزب رئيسي من صفوفها وهو البعث العربي الاشتراكي قبيل توقيعها على الاتفاق وفقدت دعم الحركة الاحتجاجية بمجرد تفاوضها مع الجيش.
خيارات عديدة لكنها صعبة
إزاء هذا الوضع، لا يستبعد أن تضغط مصر على الدول الفاعلة في الشأن السوداني، لتأمين نفوذها، لكن الأخطر أن تلجأ إلى هدم المعبد على الجميع، عبر شرق السودان، إذ يعاني شرق السودان من أزمات عديدة من بينها ثالوث الجهل والفقر والمرض، بجانب مسار الشرق المتضمن في اتفاق السلام، وبسببه تشهد مدنه وأريافه استقطابًا قبليًا حادًا بين الرافضين والداعمين له.
انشق رافضو مسار الشرق إلى جناحين: أحداهما يتزعمه محمد الأمين ترك وهو نائب رئيس الكتلة الديمقراطية والآخر يقف على رأسه قادة عديدون، وإذا كانت الكتلة ترفض الاتفاق الإطاري وتطالب بتجاوزه فإن الجناح الآخر لمجلس البجا يشترط إلغاء المسار وإعلان منبر تفاوض جديد لشرق السودان، للمشاركة في مؤتمرات وورش المرحلة النهائية للعملية السياسية، وتحقيق هذا الطلب يتطلب تعديل اتفاق السلام.
وعلى الرغم من تضمين تقييم اتفاق السلام الموقع في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، فإن عدم مشاركة الجماعات المسلحة المنضوية في تحالف الكتلة الديمقراطية في المؤتمر الخاص بالتقييم الذي لم يحدد وقته إلى الآن، سيخل بالمرحلة النهائية.
بإمكان مصر عرقلة حل أزمة شرق السودان وتقييم اتفاق السلام، بتحريض أطراف المصلحة على عدم المشاركة في مؤتمرات المرحلة النهائية، وتملك كذلك تحريض الجيش على عدم التنازل في أمر إشراك القوى المدنية في عملية إصلاح قطاع الأمن والدفاع، وبالتالي تظل الأزمات محل شد وجذب دون حلول، ما يعني عدم التوصل إلى اتفاق نهائي.
الخلاصة أن مصر لا تملك حلولًا تقدمها لإحداث انفراجة في الأزمة السودانية لصالحها، بينما تستطيع عرقلة قضايا المرحلة النهائية للعملية النهائية عبر حلفائها، وهذا يمنحها وقتًا إضافيًا، لكنه يعقد الأزمة أكثر.
ماذا عن مستقبل العلاقات؟
هذا الوقت الإضافي ليس في صالح قادة الجيش السوداني، فهم يواجهون احتجاجات مستمرة تطالب بابتعادهم عن السلطة ومحاسبتهم على جرائم عديدة من بينها قتل المتظاهرين والانقلاب على النظام الدستوري، علاوة على الأزمات الاقتصادية والإنسانية والأمنية، وإذا استمر الوضع الحاليّ لأشهر فيمكن أن يقود إلى حرب أهلية.
ولمنع اندلاع الحرب الأهلية خاصة في شرق السودان، فإن السعودية وأمريكا سيعملان بكل ثقلهما لإجبار جميع الأطراف على تقديم تنازلات في قضايا المرحلة النهائية بما في ذلك إشراكهم في المؤتمرات وورش العمل، فبمجرد اندلاع الحرب ستشكل تهديدًا أمنيًا كبيرًا على البحر الأحمر.
إذا نجحت الأطراف السودانية في تجاوز الأزمة السياسية ووقعت اتفاقًا نهائيًا، بعد أن يتم تشكيل حكومة مدنية، فإن مستقبل العلاقة بين الخرطوم والقاهرة يتوقع أن يسوده التوتر، لعدد من الأسباب، أهمها: عدم رغبة نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في أن يحكم المدنيون السودان، خوفًا من انتقال العدوى إلى جنوب الوادي.
يرجح أن يقود التوتر المتوقع في العلاقات إلى تضرر مصالح القاهرة الاقتصادية في الخرطوم، فهي تعتمد على الأسواق السودانية ومنها تستورد القطن والمحاصيل الزراعية مثل القمح والسمسم، كما سيضيف تعقيدًا جديدًا على توحيد تنسيق البلدين حيال التوصل لاتفاق ملزم لتعبئة وتشغيل سد النهضة الإثيوبي.
إذا نجحت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية والسعودية والإمارات، في حث الأطراف على توقيع اتفاق نهائي، وهذا مرجح بصورة كبيرة، ستبارك مصر الرسمية هذا الاتفاق وربما تعرقل لاحقًا أي إصلاحات جوهرية من الحكومة المدنية في قضايا الانتقال إلى الديمقراطية، لكنها ستحتاج إلى جهود جبارة للتصالح مع الشعب السوداني الذي ينظر معظمه إلى نظام السيسي على أنه داعم للحكم العسكري الذي يرفضه.