مع بوادر الخطوات العملية للتقارب التركي مع نظام الأسد، واللقاءات الدبلوماسية التي جمعت بين الطرفين في العاصمة الروسية موسكو، ديسمبر/كانون الأول الفائت، لم يلبث أبو محمد الجولاني، قائد تحرير الشام، أيامًا فقط حتى خرج في مقطع مصور، رافضًا المصالحة والتقارب بين أنقرة ودمشق، ومتوعدًا بإسقاط النظام بعد أن اعتبر المباحثات الجارية انحرافًا خطيرًا يمس أهداف الثورة السورية.
قبل الخوض في سياقات خطاب الجولاني الذي وصفه بعضهم بـ”الشعبوي”، ومحاولته الاستفادة من حالة الرفض التي تبناها الشارع الثوري في الداخل السوري بعد محاولة أنقرة فرض واقع جديد من العلاقات الإيجابية مع دمشق، لا بد لنا من تسليط الضوء على امتداد تحرير الشام في إدلب وريفها وأجزاء من ريفي حماة الشرقي وحلب الغربي شمال غرب سوريا، إضافة للتفاهمات الدولية الموقعة في موسكو 2020 بين الضامن عن المعارضة السورية (تركيا) والضامن عن نظام الأسد (روسيا) التي استطاعت إرساء أطول تهدئة تشهدها البلاد، ما دعا، في ظل ظروف أخرى، لتحويل إدلب إلى منطقة نفوذ شاملة للهيئة بإدارة جناحها المدني “حكومة الإنقاذ”.
نفوذ “تحرير الشام” ومسار أستانة
تعد إدلب منطقة ذات أهمية إستراتيجية كبرى على الطريق الدولي الواصل بين تركيا ومناطق الشمال السوري، وصولًا لمناطق سيطرة نظام الأسد في حماة والساحل، إضافة إلى كونها عقدة مواصلات بين مناطق حلب وشرق الفرات والساحل السوري، إلا أن نفوذ الهيئة تراجع بشكل كبير بعد العمليات الأخيرة التي قادها نظام الأسد والميليشيات الموالية له برفقة الاحتلال الروسي على أرياف حلب وإدلب وحماة، التي أدت إلى خسارة مساحات جغرافية واسعة، آخرها معرة النعمان ثاني أكبر حواضر إدلب، وسراقب والقرى المحيطة بهما في العام 2020.
بالمقابل فإن التفاهم التركي الروسي الذي وقع في موسكو في نفس العام، وحاولت تحرير الشام تعطيله، ينص على مكافحة جميع أشكال الإرهاب والقضاء على جميع الجماعات الإرهابية في سوريا، وإنشاء ممر آمن على امتداد 6 كيلومترات على طول كل جهة من جهتي طريق M4 الموجودة في المناطق المحررة، وتسيير دوريات مشتركة روسية وتركية عليه.
تبع هذا الاتفاق اجتماعات روسية تركية واتفاقات ثانوية تُخضع جنوب طريق M4 للرقابة التركية وهو ما يعني الرغبة التركية في تسليم مناطق كثيرة من الأراضي المحررة في جبل الزاوية وريف إدلب الجنوبي وريف حماة وأجزاء من الساحل إلى روسيا، وتحول هذا الاتفاق إلى محور خلاف بين الطرفين منذ ذلك الوقت حتى الآن، في ظل إصرار موسكو على تأكيد عزوف أنقرة عن تنفيذ التزاماتها بمقتضى الاتفاق.
منهج خلط الأوراق
شهدت جبهات تحرير الشام مؤخرًا تطورًا ملحوظًا في نوعية العمليات الموجهة ضد قوات النظام والميليشيات الموالية لها، إذ باتت عملياتها تتخذ شكل الانغماس خلف خطوط قوات النظام عبر وحدات مختصة بذلك تسمى “قوات النخبة”، وتتميز هذه القوات بقوتها وسرعة مناوراتها وعملياتها الخاطفة فضلًا عن تجهيزها العالي.
أوقعت هذه العمليات خسائر فادحة في العدة والأعداد، إضافة لتصديها لمحاولات تسلل قوات النظام على عدة محاور جنوب وشرق إدلب وسهل الغاب غرب حماة، وبلغ عددها ثماني عمليات خلال الربع الأخير من العام الفائت، فيما سجلت العملية التاسعة في بلدة بسرطون بريف حلب الغربي، الثلاثاء 10 من يناير/كانون الثاني، التي عُدت واحدة من كبرى العمليات الانغماسية، إذ ذكرت معرفات مقربة من تحرير الشام أن العملية أسفرت عن مقتل 15 عنصرًا من قوات النظام، وجرح آخرين واغتنام أسلحتهم.
ولا شك أن تحرير الشام تتعمد تكثيف هذه العمليات خلف خطوط قوات النظام بالتزامن مع إعلان أنقرة انفتاحها على الحوار مع دمشق، إذ لم تخف عبر إعلامها الرسمي والرديف أهداف هذه العمليات بشكل صريح.
في حديث “نون بوست” مع مدير وحدة تحليل السياسات في مركز الحوار السوري، محمد سالم، رأى أن تحرير الشام تعمد عبر العمليات الانغماسية استخدام أدوات ضغط ميدانية كما يفعل الروس في إدلب، لتحقيق هدفين رئيسيين: الأول هو زيادة شرعيتها الداخلية وإظهارها بمظهر القوة الرئيسية الثورية المقاتلة التي تقاتل النظام وتمنع المصالحات، والثاني هو إرسال رسائل لمختلف الفاعلين وأولهم الأتراك بأن أي اتفاق مع روسيا والنظام لا بد أن تكون هيئة تحرير الشام جزءًا منه، وإلا فمصيره التخريب.
استبعد سالم، أن تكون تلك العمليات بالتنسيق مع الأتراك بشكل مباشر، وإن كانت تركيا تراها مفيدة لها ولصالحها في الوقت الحاليّ، وفق تعبيره، لافتًا إلى أن تحرير الشام تهدف من هذه العمليات إلى ترميم شرعيتها الداخلية والشعبية خاصة بعد توغلها في عفرين وما تبعه من رفض شعبي، وأنها قوة رئيسية مسيطرة ولها استقلاليتها وقادرة على اتخاذ القرار في مهاجمة النظام دون الرجوع لأحد.
فيما توقع الباحث، أن الرسائل التي ستحملها تحرير الشام في الأيام المقبلة هي عمليات جديدة بهدف دعائي وسياسي دون أن تذهب بعيدًا في هذه العمليات، خاصة أن هذه العمليات تأتي بعد جفوة ما بين تحرير الشام وتركيا فيما يتعلق بالضغط التركي لها لإخراجها من عفرين.
أوراق قوة “تحرير الشام”
يمكن اعتبار إشارة التقارب التركي مع الأسد إنذارًا خطرًا على تحرير الشام فيما يتعلق بتقلص مساحة سيطرتها بدءًا، ثم اتخاذ خطوات من شأنها تقويض عوامل قوتها بهدف إنهاء وجودها، لذلك جاء قرارها سريعًا وحاسمًا برفض التقارب وحتى قبل دراسة أي احتمالات أخرى.
بالمقابل فإن تحرير الشام ما زالت ممسكة بأوراق القوة عبر إحكام السيطرة على مناطق إستراتيجية وحيوية في إدلب وريف حلب الغربي، إضافة للطريق الدولي M4 والتحكم التام به، ولا يمكن لتركيا أن تحقق تقاربًا مع الأسد إلا من خلال فتحه، وهذا يتطلب ترتيب وتوافق مع تحرير الشام.
كما أن تحرير الشام تمسك بالطاقات البشرية الكبيرة تحت سلطتها وبإمكانها التأثير على كثير منها وتحريكها في مسارات قد تكون مزعجة لأي طرف يحاول أن يتجاهلها ويقفز فوق أهدافها، وهذا ما ظهر جليًا في أكتوبر/تشرين الأول العام الفائت، عندما توغلت في عمق مناطق سيطرة الجيش الوطني الموالي لتركيا، واستحوذت على مقرات عدة للفيلق الثالث في مدينة عفرين وقرى محيطة بها، محرجة بذلك تركيا.
يعتبر العقيد المنشق مالك الكردي في حديثه لـ”نون بوست”، أن دعوة التقارب بين تركيا ونظام الأسد تحمل في طياتها احتمالية استعادة بعض مناطق سيطرة الجولاني وضمها للأسد سواء كان ذلك مبادلة مع مناطق أخرى تسيطر عليها مجموعات قسد أم لجهة فتح الطريق M4 الذي يتطلب بمقتضى الحال سيطرة تدريجية لنظام الأسد على المنطقة المحيطة بالطريق، وهو أمر يرعب الجولاني خاصة عندما يكون بتوافق تركي مع الروس، حسب تعبيره.
ولفت الكردي، أن الجولاني أحد قادة الحرب المستفيدين من الوضع القائم، وتصرفاته خلال المرحلة الماضية تؤكد أن هدفه هو إقامة إمارة مستقلة بذاتها غير ساع إلى تحرير سوريا وشعبها، إنما التمدد من خلال استغلال الظروف والهجوم على الفصائل الثورية الأضعف كما حصل في عفرين بريف حلب، وبسط سيطرته على المناطق التي حرروها من نظام الأسد.
مضيفًا أن الجولاني يريد تطبيع اقتصادي فقط يسمح بفتح المعابر بين مناطق سيطرته ومناطق سيطرة الأسد، إذ لا مشكلة لديه بفتح طريق M4 ومرور سيارات النظام عليه بانتظام شريطة أن يكون هو المشرف التام على مرور القوافل وتأمين حمايته وجباية عائداته.
“تحرير الشام” ما بين تركيا وأمريكا
حملت الفترة الماضية نوعًا من التفاهم التركي مع تحرير الشام، وهذا ما أكدته مجمل المواقف التركية حيال ما يجري في الشمال المحرر خصوصًا بعد استحواذ الهيئة على كامل الجغرافية في محافظة إدلب وإقصاء التنظيمات العسكرية وفي مقدمتها حليفة تركيا “حركة أحرار الشام”، إذ لم تبعث إليها حينها بتعزيزات من منطقة درع الفرات، كما أن تركيا لم تُغلق معبر باب الهوى بعد سيطرة هيئة تحرير الشام عليه.
قد يبدو الموقف التركي من هيئة تحرير الشام مشابهًا للموقف الأمريكي من قوات سوريا الديمقراطية، فإذا كانت واشنطن تصنف هيئة تحرير الشام ضمن المنظمات الإرهابية، فإن تركيا من باب الاحتجاج على الموقف الأمريكي من منظمة PYD لا تجد حرجًا في التفاهم مع الهيئة بل ودعمها إن كان ذلك يصب في صالح أمنها القومي.
يرى الباحث في الحركات الجهادية، عبد الرحمن الحاج، أن تركيا تتعامل بحذر شديد مع تحرير الشام، لأسباب عديدة، منها أن لدى الهيئة إمكانية لإعاقة تنفيذ مصالحة على الأرض في إدلب، والأمر الثاني أنه لم تحصل تفاهمات تركية جديدة مع النظام ولا مع روسيا بخصوص إدلب إلا الاتفاقية المعروفة قبل ثلاثة أعوام، أما الأمر الثالث فهو أنه لا يزال على تركيا التعامل مع السوريين في الشمال ومع الجيش الوطني قبل أن تنتقل للهيئة، كل ذلك يجعل التعامل مع الهيئة وطريقته مرهون بالتقدم في العلاقة مع نظام الأسد والوصول إلى تفاهمات محددة.
تخلي هيئة تحرير الشام عن الأيديولوجيا القاعدية يجعلها قادرة على اكتساب شعبية غير مسبوقة خصوصًا أن الشارع الثوري يتقاطع معها بخصوص أي مصالحة أو تسوية مع نظام الأسد
لفت الحاج في حديثه لـ”نون بوست” أيضًا، أن تركيا اليوم أمام تحد لثلاث جهات مترابطة ومنفصلة في الوقت عينه، أولًا الجيش الوطني الذي لا يزال يحتاج إلى ترويض، وإجباره على تسوية سيؤدي إلى انقسامه بالضرورة، وتركيا لا تزال بحاجته لأي عملية عسكرية في مناطق أخرى، الجهة الثانية هي هيئة تحرير الشام وهي أكثر استقلالًا وأكثر قدرة على التأثير في مسار التسوية، وبالنسبة للهيئة فإنها يجب أن تقنعها أي تسوية بوضع خاص لا يمس سيطرتها أو يهددها وجوديًا، وهذا يصعب للغاية ضمانه، أما الجهة الثالثة وهي الأصعب، لأنه لا يمكن السيطرة عليها، وهي الحاضنة الشعبية في شمال سوريا، في إدلب ومناطق غصن الزيتون ونبع السلام ودرع الفرات، فهذا هو التحدي الحقيقي، لأن لا سلطة لأحد على ضمائرهم، والجميع يستمد منهم شرعيته، فضمن هذه المعادلة لا يمكن تحقيق تسوية واستقرار، إنما فقط عملية قيصرية لها ارتدادات لا تحصى في المنطقة، حسب قوله.
أما بالنسبة لأمريكا فإنها وأمام خطوات التقارب التركي مع دمشق، فربما تقتضي مصلحتها التوافق مع الجولاني بهدف إزعاج أطراف التقارب التركي السوري وعرابه الروسي من جهة، وربما من أجل ذلك يطرح ملف وضعه على قائمة الإرهاب مرة جديدة، وتُفتح نوافذ التواصل السياسي والدبلوماسي معه لإبقاء وضع الملف السوري ساكنًا إلى حين تحقيق انتصار عسكري على الروس في أوكرانيا وإرغام الروس على مغادرة حوض المتوسط، فضلًا عن إمساك تحرير الشام بورقة معتقلي داعش وجهاديين ضمن مناطق نفوذها.
يؤكد الحاج، أن تحرير الشام اليوم باتت حاجة موضوعية للغرب ولأمريكا لمواجهة الجهادية العالمية غرب سوريا، وهذا يعني أن ثمة حاجة لإبقائها، ما يجعل موضوع استهدافها من تركيا يهدد بعودة ظهور الجهادية التي ستجد مناخًا ملائمًا مع وجود تسوية مجحفة ترفضها الأغلبية الساحقة من السوريين في الشمال السوري.
يمكننا القول ختامًا، إن هيئة تحرير الشام تعد اليوم أحد أهم الفاعلين على الأرض، وأكثر تنظيمًا واستقلالًا من الأجسام العسكرية الأخرى وهذا ما لا يختلف عليه اثنان، إلا أنها ومع تخليها عن الأيديولوجيا القاعدية يجعلها قادرة على اكتساب شعبية غير مسبوقة خصوصًا أن الشارع الثوري يتقاطع معها بخصوص أي مصالحة أو تسوية مع نظام الأسد، ما يهدد بسحب القاعدة الاجتماعية للجيش الوطني أحد أهم خصومها، في حال انصاع للرغبات التركية بخصوص تسوية أو مصالحة لا ترضي السوريين، أو لا ترضي طموحاتها على أقل تقدير.