قبل 12 سنة من الآن، في مثل هذه الأيام، كانت مدينة القصرين وغيرها من مناطق غرب تونس، تشهد احتجاجات شعبية عارمة ضد نظام زين العابدين بن علي، احتجاجات سرعان ما توسعت رقعتها وانتشرت في باقي مناطق البلاد.
انطلقت الاحتجاجات على خلفية ارتفاع نسب البطالة والفقر وغلاء الأسعار وندرة المواد الأساسية والقمع الأمني وغياب الحريات، فقد كان نظام بن علي حينها يمسك البلاد بقبضة من حديد ويتحكم في الفضاء العام بالقوة لاستمرار حكمه.
رحل بن علي يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، بعد أن انتفض أغلب الشعب التونسي ضده، لكن المشهد في القصرين وغيرها من مدن البلاد على حاله، بل يمكن أن نقول إن الوضع ازداد سوءًا أكثر فأكثر، خاصة مع انقلاب الرئيس قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية ليلة 25 يوليو/تموز 2021.
احتجاجات القصرين
ليلة أمس الثلاثاء، شهدت مدينة القصرين احتجاجات قادها شباب في مقتبل العمر، تصدت لها القوات الأمنية بالقوة وباستعمال الغاز المسيل للدموع، خشية أن تمتد ويشارك فيها أعداد أكبر ولا يمكن لهم السيطرة عليها فيما بعد.
لم يُعلن صراحة عن الأسباب المباشرة لهذه الاحتجاجات التي امتدت لساعات ليلة أمس، لكن نظرة بسيطة على الوضع العام في المحافظة وتونس عامة، يمكن من خلالها معرفة الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تدفع شاب تونسي للخروج للشارع والتظاهر رغم القمع الأمني.
اكتسبت منطقة القصرين الواقعة في الوسط الغربي لتونس زخمًا وقوةً بوقوف سكان المدينة بصلابة مع مطالبها التي لا تخرج عن منحهم الحق في العمل والكرامة والقضاء على الفساد والمحسوبية كأدوات لديكتاتورية النظام السابق.
دائمًا ما تشهد تونس احتجاجات شعبية كبيرة خلال شهر يناير/كانون الثاني
رحل الديكتاتور بن علي، لكن المحافظة إلى الآن تشهد معدلات بطالة عالية وضعفًا في البنية التحتية والتنمية، ولم تحظ فعليًا بمشاريع كفيلة بحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية المزمنة رغم الزيارات المتكررة والوعود الكثيرة لمسؤولين في الدولة.
تأتي ولاية القصرين في المراتب الأخيرة ضمن مؤشرات قياس التنمية للمحافظات في تونس، وهو معدل رافقها منذ نظام بن علي، ويبلغ معدل البطالة فيها نسبة 23%، بينما يبلغ المعدل الوطني نحو 15%، كما ترتفع فيها نسب الفقر.
هذا الوضع ليس حكرًا على القصرين وإنما ينطبق على أغلب المناطق في تونس، وازداد حدة في السنة ونصف الأخيرة مع انقلاب قيس سعيد وسيطرته على الحكم وإقصاء باقي الأطراف السياسية والمدنية، فالبلاد الآن تحت حكم “ديكتاتور” جديد.
احتجاجات قادمة
لا يبدو أن الاحتجاجات ستتوقف عند ليلة البارحة وفي مدينة القصرين فقط، فمن المتوقع أن تتواصل وتشهد مناطق أخرى احتجاجات مماثلة أو أشد قوة، تنديدًا بالأوضاع المزرية التي تمر بها تونس في الفترة الأخيرة، خاصة مع تولي سعيد زمام كل السلطات.
من المرتقب أن تشهد تونس نهاية الأسبوع، مظاهرات كبرى في العاصمة دعت لها جبهة الخلاص الوطني والعديد من الأحزاب السياسية الأخرى المنضوية صلبها على غرار حركة النهضة وحزب أمل وائتلاف الكرامة وحراك تونس الإرادة.
كما دعت أحزاب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والجمهوري والقطب والعمال والتيار الديمقراطي، القوى السياسية والمدنية التقدمية وعموم الشعب التونسي إلى التظاهر يوم السبت 14 يناير/كانون الثاني الحاليّ.
الأمر ذاته بالنسبة إلى الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية التي دعت بدورها إلى وقفة احتجاجية وطنية، كما أسمتها، “رفضًا لتواصل مسار تدمير الدولة من طرف قيس سعيد وحكومته”، وفق بيان صادر عنها، وأيضًا حزب العمال.
من المتوقع أيضًا أن ينزل الاتحاد العام التونسي للشغل للشارع، للتعبير عن رفضه لما وصلت له البلاد ورفضه ميزانية 2023 التي تتضمن خفضًا في الإنفاق والدعم الحكوميين ورفعًا للضرائب بهدف التوصل لاتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ مالي.
رفعت تونس الضرائب على شاغلي عدد من الوظائف مثل المحامين والمهندسين والمحاسبين من 13% إلى 19%، كما رفعت ضرائب العديد من المواد وأقرت زيادات في أغلب المواد الأساسية ما من شأنه أن يزيد من حدة الاحتقان الاجتماعي في البلاد.
ما زالت هناك فئة كبيرة من المجتمع التونسي اختارت الصمت والسكون إما خوفًا وإما عدم مبالاة لما يحصل في البلاد
قبل ذلك، تظاهر مئات التونسيين، الأحد، في منطقة المنيهلة (أحد أحياء العاصمة تونس الذي يقيم فيه الرئيس سعيد) بدعوة من جبهة “الخلاص الوطني” المعارضة، احتجاجًا على المسار السياسي الراهن الذي يسلكه الرئيس قيس سعيد.
دائمًا ما تشهد تونس احتجاجات شعبية كبيرة خلال شهر يناير/كانون الثاني، ففي هذا الشهر سنة 1978 شهدت تونس أحداث “الخميس الأسود” المفصلية في تاريخ البلاد، وشهدت سنة 1984 ثورة الخبز وسنة 2008 انتفاضة الحوض المنجمي، وسنة 2011 ثورة الحرية والكرامة.
تشترك كل هذه الاحتجاجات في الأسباب، فجميعها اشتعل في البداية نتيجة مطالب اجتماعية واقتصادية لتحسين وضع المواطنين ليبلغ فيما بعد المطالب السياسية، من قبيل فتح البلاد أمام التعددية السياسية وإسقاط النظام وغيرها من المطالب السياسية، إلا أن نتائجها اختلفت من حدث إلى آخر.
موجبات وأسباب الاحتجاج الموجودة
لا أحد في تونس يستغرب أو يسأل عن سبب الاحتجاجات المتكررة في البلاد، بل العكس تمامًا، فالاستغراب من عدم الاحتجاج والتظاهر، ذلك أن موجبات وأسباب الاحتجاج كثيرة ومتاحة للجميع دون استثناء، عمال وعاطلين عن العمل وسياسيين وغيرهم من فئات المجتمع التونسي.
سياسيًا، تعيش البلاد أزمة حادة منذ 25 يوليو/تموز 2021، حين انقلب سعيد على الدستور وفرض إجراءات استثنائية منها حل مجلس القضاء والبرلمان وإصدار تشريعات بأوامر رئاسية وإقرار دستور جديد عبر استفتاء في يوليو/تموز 2022 وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته.
هذا الانقلاب، كرّس حكم الفرد الواحد في تونس وأعاد البلاد عقودًا إلى الوراء وأثر على كل مجالات الحياة دون استثناء، ومع ذلك يصر سعيد على مواصلة نهجه وفرض توجهه الأحادي على التونسيين دون أن يضع مصلحة الشعب في الحسبان.
تأثّر الاقتصاد وتراجع النمو وانهارت ثقة المجتمع الدولي بالبلاد، ما جعل مؤسسات التصنيف الائتماني تخفض درجة تونس التصنيفية، ودفع صندوق النقد الدولي للعدول عن برنامجه القاضي بمنح تونس قرضًا بقيمة 1.9 مليار دولار لدعم اقتصادها المتهالك.
سبق أن حذر الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة من أن اقتصاد البلاد في خطر، مشيرًا إلى أن الحل يكمن في برنامج عاجل للإنقاذ، ووصف الاتحاد ميزانية العام الجديد – التي أقرها الرئيس سعيد – بقانون للضرائب، معتبرًا أنه يتضمن أحكامًا مجحفة وسيعمق أزمة الثقة التي تعيشها البلاد ويهدد القطاع الخاص ويزيد من إنهاكه.
وضع اقتصادي سيئ أثر على وضع البلاد الاجتماعي، إذ ارتفعت نسب البطالة والفقر وسجلت العديد من المواد الأساسية ارتفاعًا في الأسعار وندرة في الأسواق من ذلك الأدوية، مع ذلك لم يقر الرئيس بالأزمة ودائمًا ما يتهم السياسيين ورجال الأعمال بالتآمر عليه واستغلال الشعب.
أما عن واقع الحريات فحدث ولا حرج، إذ اتهم نقيب الصحفيين التونسيين محمد المهدي الجلاصي السلطات بتحويل البلاد تدريجيًا إلى سجن كبير للرأي، على حد قوله، وأكد الجلاصي في كلمة له خلال اجتماع نقابي أن المجتمع التونسي يعيش ما أسماها حالة “سراح مؤقت”. ومنذ إمساكه بزمام كل السلطات في تونس، أصدر سعيد العديد من المراسم يتم بموجبها ملاحقة الصحفيين والمدونين والمحامين والناشطين السياسيين، كما أعطى الضوء الأخضر لقوات الأمن بملاحقة جميع معارضيه دون استثناء، حتى هؤلاء الذين كانوا إلى وقت قريب معه.
مع ذلك، ما زالت هناك فئة كبيرة من المجتمع التونسي تختار الصمت والسكون إما خوفًا من العقاب وإما عدم مبالاة لما يحصل في البلاد، وإما رغبة في امتيازات قادمة من نظام سعيد أو خوفًا من محاسبته على أفعال وتجاوزات ارتكبها سابقًا.