انطلقت في العاصمة السودانية الخرطوم، مساء السبت الماضي، مشاورات المرحلة النهائية للاتفاق السياسي بين قوى مدنية والعسكريين بهدف الوصول إلى حل للأزمة المستمرة التي تسبب فيها انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان.
في الشهر الماضي، وقّع الطرفان اتفاقًا إطاريًا، قاطعته قوى سياسية أخرى مثل حزب البعث الاشتراكي والحزب الشيوعي السوداني، معتبرةً أنه اتفاق يشرعن الانقلاب، كما رفضته لجان المقاومة وهي مجموعات شبابية مستقلة ومؤثرة، قادت التظاهرات والفعاليات الثورية المناهضة للانقلاب لأكثر من 14 شهرًا.
قاطعت التوقيع على الاتفاق الإطاري حركات مسلحة مثل حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، اللتين كونتا تحالفًا جديدًا باسم “الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية”، وأشرك التحالف الجديد معه قوى سياسية مدنية أخرى ترفض الاتفاق بين قوى الحرية والتغيير مع العسكر.
عقب الانقلاب مباشرة ورغم الحركة الاحتجاجية الرافضة لأي وجود لقادة الانقلاب في المشهد السياسي، تركزت جهود المجتمع الدولي فقط على إيجاد تسوية سياسية بين المدنيين والعسكر، حيث قادت التفاوض الآلية الثلاثية التي تتكون من الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية فولكر بيرتس، وممثل الاتحاد الإفريقي السفير محمد بلعيش، وممثل الهيئة الحكومية المعنية بالتنمية الدولية إسماعيل ويس.
الاتفاق يبقي على قادة الانقلاب في مناصبهم العسكرية
تروج قوى الحرية والتغيير وكوادرها الإعلامية إلى أن الاتفاق الإطاري يؤسس لسلطة مدنية كاملة بعيدًا عن الشراكة المُنقلب عليها مع العسكريين، لكن الاتفاق يتضمن بقاء الجنرال البرهان في منصبه قائدًا للجيش وبقاء محمد حمدان دقلو “حميدتي” قائدًا لقوات الدعم السريع، أي بمعنى أن الاتفاق يُكافئ قادة الانقلاب بالبقاء في مناصبهم رغم كل الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت خلال الـ14 شهرًا الماضية، إذ راح ضحية القمع العنيف نحو 122 شابًا، وأُصيب أكثر من 7000 آخرين بجراح متفاوتة، بعضهم فقد أطرافًا حيويةً وعدد منهم أُصيب بالشلل التام.
أصابة الترس سمير عزالدين من تروس المورده بي عبوه بمبان مباشره في العين للأسف فقد العين الشمال اليوم نسأل الله له عاجل الشفاء
كمية من الاصابات غير خطيرة #مواكب_امدرمان#موكب_10_يناير pic.twitter.com/kHmwkI7OL6
— تروس الثورة??وربي بنحبك ياوطن (@Trooos22) January 10, 2023
قد يقول البعض إنه لا يوجد حل آخر طالما أن العسكر ممسكون بالسلاح ولا يمكن محاكمتهم في ظل الوضع الراهن، لكن الجنرال البرهان ونائبه دقلو سبق أن انقلبا على المدنيين مرتين: الأولى بفض اعتصام القيادة العامة وإلغاء الاتفاقات مع قوى التغيير، والمرة الثانية عندما نفذا انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، فما الضمان من عدم قيامهما بالانقلاب الثالث؟
كان يمكن لقوى الحرية والتغيير أن تتفاوض على صفقة أفضل بكثير، على الأقل تشترط إبعاد قادة الانقلاب من المشهد بشكل كامل، وليس التوصل إلى اتفاقية تضمن بقائهم ومنحهم استقلالية تامة عن السلطة التنفيذية التي سيتم تشكليها، وهو شيء لم يحدث من قبل! ألا تكون لرئيس الوزراء سلطة على قائد الجيش ولا يستطيع أن يعزله أو يغيره.
كذلك، رغم الحديث عن “الكفاءات المستقلة” التي ستقود الحكومة القادمة فإنه لا يستبعد أن تتنصل الأحزاب من تعهداتها بعدم المشاركة في الحكومة كما حدث في الفترة السابقة من الحكومة الانتقالية، فقد انتهى الأمر بالحكومة الثانية التي تشكلت عقب اتفاق سلام جوبا إلى محاصصة بين الأحزاب والحركات المسلحة.
المصالح سر إصرار الغرب على التسوية
لا يخفى على مراقب للأحداث في السودان أن القوى الغربية المؤثرة تسعى بشكلٍ حثيثٍ لاستقرارٍ يحافظ على مصالحها، مهما بلغت درجة الرفض الشعبي لأي اتفاق سياسي مع العسكر، وخير مثال على ذلك تحركات الإدارة الأمريكية ممثلة في مساعدة وزير الخارجية للشؤون الإفريقية مولي في، التي يُعتقد على نطاق واسع أنها متعاطفة مع جنرالات السودان، لا سيما أنها رفضت فرض عقوبات عليهم، ما أدى إلى استقالة المبعوث الخاص السابق جيفري فيلتمان.
The Sudan crisis offers window into the state of U.S. diplomacy in the post American era– it’s messy and there are too many chefs in the kitchen — by me and @RobbieGramer with an assist from @zinyasalfitii https://t.co/76GSwhu6TS
— columlynch (@columlynch) December 3, 2021
يمكن فهم تلهف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على إنجاز التسوية بأن مصالحهم ترتبط بقطع الطريق أمام روسيا حتى لا يكون لها موقع قدم في هذا البلد الإفريقي المطل على البحر الأحمر الذي يعتبر واحدًا من أهم بحار العالم وأهم الممرات المائية التي تستخدمها وتمر عبرها كثير من السفن التجارية والعسكرية.
الاتفاق يضم تيارات شاركت في نظام البشير
الاتفاق الإطاري ومنذ الإعلان عنه قِيل إنه مطروح للنقاش ومحاولة لاستيعاب المزيد من الكتل السياسية بغرض التوافق على إنجاز مهام المرحلة الانتقالية، والنقطة الأكثر إثارة للجدل أنه ضم كل من حزب المؤتمر الشعبي وجماعة أنصار السنة المحمدية وهما من الأحزاب المتحالفة مع حزب المؤتمر الوطني “المحلول”، وظلتا معه في السلطة حتى سقوط النظام في 11 أبريل/نيسان 2019.
ومن المآخذ على الاتفاق الإطاري أيضًا، أنه لم يتطرق إلى 5 قضايا مهمة تركها للاتفاق النهائي، وهي: العدالة الانتقالية والإصلاح العسكري والأمني والسلام وتفكيك نظام الرئيس المخلوع عمر البشير وقضية شرق السودان.
شهد يوم الإثنين الماضي، انعقاد أولى الورش، كانت خاصة بإيجاد خريطة طريق لتجديد عملية تفكيك نظام الثلاثين من يونيو “نظام البشير”، فيما لم يحدد بعد أي موعد لبقية الورش، لكن يتوقع أن تنتهي بحلول أواخر شهر يناير/كانون الثاني الحاليّ لتكون أساسًا للاتفاق النهائي مع العسكر الذي يتوقع أن يتم خلال شهر فبراير/شباط القادم.
تحديات ضخمة أمام الحكومة القادمة
التسوية المتسرعة التي تُبشر بها قوى الحرية والتغيير مع قادة الانقلاب، متجاهلة القوى الثورية الحيّة مثل لجان المقاومة، تنطوي على الكثير من المخاطر، وليس هناك ضمانات لالتزام البرهان ونائبه دقلو بالاتفاق “على علاته”.
فحتى إذا نجحت قوى الحرية والتغيير وحليفاها “المؤتمر الشعبي وأنصار السنة” في إكمال الاتفاق النهائي مع قادة الانقلاب، وتشكيل حكومة انتقالية تحظى بترحيب دولي “كما هو متوقع”، فإن هناك تحديات هائلة تنتظر الحكومة القادمة، نلخصها فيما يلي:
التردي الأمني: حيث أصبحت البلاد تعاني من سيولة أمنية مع انتشار العصابات والمجموعات المسلحة في قلب العاصمة الخرطوم وفي وضح النهار.
الإضرابات والعصيان المدني: تشهد معظم المؤسسات والجهات الحكومية في السودان حاليًّا، موجة واسعة من الإضرابات احتجاجًا على الأوضاع الاقتصادية المتردية والتضخم.
احتجاجات طلاب الجامعات: فوجئ طلاب الجامعات بزيادات مهولة في رسوم التسجيل بداية العام الجديد وصلت إلى 900% في جامعتي الخرطوم والسودان.
القرارات التي أصدرها قائد الانقلاب خلال الفترة الماضية، منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021: فقد أصدر الجنرال البرهان عددًا كبيرًا من القرارات لإحكام سيطرته على مفاصل الدولة، كما تم التوقيع على صفقات مشبوهة من دون وجود حكومة ولا برلمان مثل صفقة ميناء أبو عمامة مع الإمارات.
يرى الباحث السوداني عباس محمد صالح أن الاتفاق الإطاري كسر حالة الجمود مؤقتًا، لكن فرص نجاحه مشكوك فيها، وفق الباحث الذي وضع عدة سيناريوهات متوقعة لمستقبل الاتفاق إذا أفضى إلى تشكيل حكومة انتقالية.
رجّح صالح في ورقةٍ بحثيةٍ، أن تكون الفترة الانتقالية المتبقية “مضطربة”، بحكومة هشة قد تنهار في نهاية المطاف تحت وطأة الفشل وعدم القدرة على الاضطلاع بمهامها نتيجة الصراعات الداخلية والفوضى، سواء داخل المكون العسكري نفسه أم المجموعات المدنية، فضلًا عن تصاعد المعارضة والحراك المناهِض لهذه الحكومة المدنية الانتقالية.
وكان تقرير لمركز الدراسات الإستراتيجية والأمنية الأمريكي المعروف باسم “ستراتفور” قد صدر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي ورجح استمرار الاضطرابات في السودان بسبب رفض لجان المقاومة تقديم تنازلات للعسكر.
Pro-democracy protesters marked a year since the 2021 coup in #Sudan. The military & key political groups appear close to a power-sharing deal, but civilian resistance committees will likely continue to protest until the military is excised from politics. https://t.co/clIcaqcjCG
— RANE (@RANEnetwork) October 25, 2022
ولم يستبعد المركز الاستخباراتي الأمريكي حدوث انقلاب جديد، مشيرًا إلى أن الانقسام الداخلي والمنافسة داخل المؤسسة الأمنية – لا سيما بين الجيش وقوات الدعم السريع – من شأنهما أن يشكلا تهديدًا لانتخابات حرة ونزيهة في عام 2024.