أستاذ الفيلسوف ابن رشد، وأعظم أطباء الأندلس بشهادة المؤرخين، قال عنه ابن أبي أصيبعة في كتابه “طبقات الأطباء”: “كان جيد الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة، حسن المعالجة، قد ذاع ذكره في الأندلس وفي غيرها من البلاد، واشتغل الأطباء بمصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في مزاولة أعمال صناعة الطب”، ويعرف عند الأورووبيين باسم “Avenzoar” و”Abumeron” و”Abynzoar”.
سليل واحدة من أكثر الأسر عراقة في الأندلس، علمًا وسلطانًا، خلال الفترة من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي، هو أبو مروان عبد الملك بن زهر بن عبد الملك بن مروان (1072 ـ 1162ميلادية)، المعروف بابن زهر الأشبيلي، يُقال عنه إنه أعظم الأطباء المسلمين بعد أبو بكر الرازي، فيما يصفه معاصروه بأنه أعظم طبيب منذ الطبيب الإغريقي وأعظم أطباء العصور القديمة، جالينوس (129-2016 ميلادية).
ساهم بإنجازاته في إحداث طفرة كبيرة في منظومة التداوي والعلاج ببلاد الأندلس، كما ظلت مؤلفاته مرجعًا موثوقًا لدى أطباء أوروبا والعالم، ويعد وفق السرديات التاريخية للحضارة الأندلسية أول طبيب عربي شرح طريقة التغذية القسرية والاصطناعية عن طريق الحلقوم أو الشرج.
بين المرابطين والموحدين
حفظ عبد الملك القرآن في سن مبكرة، إذ نشأ في كنف أسرة تقدس العلم وتوقره في إشبيلية، فتعلم الحديث والأدب واللغة العربية، فكان أحد فطاحل اللغة العظام، وله موشحات شهيرة من نظمه وتأليفه، ثم تلقى علوم الطب على يد والده الطبيب “أبي العلاء” الذي كان صاحب الفضل الأول عليه في اتجاهه نحو الطب بعدما كان شغوفًا باللغة والأدب.
كان الجد الأكبر لعبد الملك (محمد بن مروان) فقيهًا، صاحب حضور قوي في الفصاحة والكرم، فيما خرج من سلالة تلك العائلة 5 أجيال من الأطباء، على رأسهم بن مروان وأبي العلا، إلا أن أكثرهم نبوغًا وعلمًا وإنجازًا هو ابن زهر ربما لأنه كان الأكثر تخصصًا وتركيزًا في الطب فيما كان الأجداد يجمعون بين علوم شتى.
لم يكتف أبو مروان بما نهله عن والده من علوم الطب فرحل إلى بلاد الشرق كغيره من أقرانه من العلماء ممن قصدوا الشرق الذي كان في ذلك الوقت قبلة العلماء والباحثين وطلبة العلم، ومكث هناك بضع سنوات، تلقى فيها شتى أنواع المعرفة الطبية، ليعود إلى الأندلس، ونزل بمدينة تسمى “دانية” محملًا بدرر الطب، وهناك أكرمه ملكها الذي كان يقدر العلماء، ثم انتقل منها إلى إشبيلية وظل بها ما تبقى من حياته.
عاصر ابن زهر دولتي المرابطين (1056 – 1147م) والموحدين (1121م – 1269م) في الأندلس، في القرنين الحادي والثاني عشر الميلادي، إذ تمتع ووالده بمنزلة كبيرة لدى المرابطين الذين أكرموه بداية الأمر بشكل كبير، ساعده في تأليف أحد أهم وأبرز مؤلفاته “الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد” وذلك بطلب من أمير مرابطي، لكن علاقة الود لم تدم طويلًا، إذ أصابه منهم ما أصاب والده من الحبس والتنكيل، فأمر أمير المرابطين في المغرب علي بن يوسف بن تاشفين بسجنه 10 سنوات في مراكش لأسباب قيل إنها على خلفية تعاطفه مع دولة الموحدين حديثة النشأة.
وبعد زوال الدولة المرابطية وتولي حركة الموحدين – التي هيمنت على الأندلس وقرطبة منتصف القرن الثاني عشر – السلطة، اشتغل ابن زهر طبيبًا لعبد المؤمن بن علي الكومي، زعيم الدولة الذي أحكم قبضته على المغرب الأقصى والمغرب الأوسط ومن ثم على كامل إفريقيا والأندلس، واحتل منه منزلة كبيرة حتى عينه وزيرًا، وهيأ له من أمره ما ساعده على الإبداع والتألق في الدراسة والبحث حتى صار أحد أعظم أطباء الأندلس، وظل أبو مروان وأبناؤه في خدمة الملك حتى وفاته.
المنهج العلمي التجريبي
كان الأطباء الأوروبيون في العصور الوسطى يميلون في تفسيراتهم الطبية إلى السحر والخرافات، يقينًا منهم أن المرض والعلاج إرادة إلهية، فيما كانت ترى الكنيسة أن المرض هو مس شيطاني يصيب الإنسان وأن أي علاج عضوي يتناوله المريض هو نوع من الكفر بالله وتحديًا لمقدراته وقدره.
وبدلًا من توفير العلاج للمريض ومعاودة الطبيب له كانت توفر الكنيسة قديسًا لعلاج المرضى، يصفون أدوية تعبدية تقربية من الله لا علاقة لها بالأدوية العضوية المعروفة، فيما حرم رجال الدين الجراحة بوصفها تدخلًا مباشرًا في إرادة الله قد تسبب أضرارًا ومخاطر تحيط بالجراحين والأطباء نتيجة غضب الإله عليهم.
وفي تلك الأجواء من الضبابية المعرفية والجهل العلمي خرج ابن زهر ليرسخ منهجية جديدة في علوم الطب تقوم على التجربة كأسس عملي، لذا عارض العالم الأندلسي كتابات مشاهير الأطباء كالطبيب الفارسي ابن سينا، فقد شكك أبو مروان فيما جاء في كتابه “تيسير العلاج والتدبير”.
ألقى ابن زهر بالطرق التقليدية في دراسة الطب التي كانت منتشرة في ذلك الوقت وتعتمد على آراء القدماء من الأطباء التي كان ينظر لها نظرة مقدسة، عرض الحائط، وبدأ في إخضاع كل النظريات والعمليات للتجربة التي كانت بمثابة “الفلتر” الذي يكشف له الحق والباطل، فهو القائل عنها “التجربة إما أن تصدق قولي حيًا كنت أو ميتًا وإما أن تكذبه”.
وظل المنهج التجريبي الذي أقره المرجعية الكبرى لعلماء أوروبا فيما بعد، حيث كان له أبلغ الأثر في التطورات التي أدخلها الإنجليزي فرانسيس بيكون، أوائل القرن السابع عشر، في الدراسة والبحث العلمي، مؤسسًا بذلك الثورة العلمية الحديثة المبنية على الملاحظة والتجريب، التي يعود الفضل فيها بشهادة الجميع إلى العالم الأندلسي.
رائد الجراحة التجريبية
ساعد المنهج التجريبي الذي تبناه ابن زهر في التوصل إلى أمراض لم تكن معروفة من قبل ولم يدرسها أحد، بما فيها أمراض الرئة، إذ أجرى أول عملية جراحية في القصبة التي تؤدي إلى الرئة، وكان ذلك إنجازًا غير مسبوق له، ويعد كذلك من أوائل من اهتموا بدراسة بيئات بعينها للوقوف على خريطتها الطبية والوبائية والمرضية، ولم يكن هذا النظام معمولًا به في ذلك الوقت.
وينسب الفضل لابن زهر في اكتشاف أهمية العسل في الدواء والعلاج، كذلك في الغذاء، كما قدم إسهامات عظيمة في علاج حالات الشلل الذي يُصيب البلعوم، وهو أول من أشار بعملية شق الحجاب، فكان يشق الصدر ويطهره، وأول من وصف خُرّاج الحيزوم والتهاب التامور الناشف والانسكابي، وكان دقيق الوصف للحوادث السريرية، وقال عنه جورج سارتون في كتابه “تاريخ العلم“: “إن أبا مروان تميَّز عن غيره في حقل الطب في شرق وغرب الدولة الإسلامية، بل إنه أعظم طبيب في عصره في العالم أجمع”.
واستطاع من خلال وصفه للعديد من الأمراض والابتكارات العلاجية التي لم يسبقه إليها أحد أن يثري المعرفة الجراحية والطبية، بجانب اكتشافاته المتعددة منها اكتشافه لإمكانية التغذية عن طريق أنبوب يمر إلى المعدة مباشرةً، وهو ما يسمى اليوم باسم “التغذية الاصطناعية”، ليصبح أول طبيب مسلم يشرح تلك الطريقة عن طريق الشرج أو الحلقوم، وأجرى العالم الأندلسي عشرات الأبحاث والتجارب عن أمراض القلب والرئة، وأنواع الحمى والأمراض الوبائية، وميَّز بين التهاب الرئة والتهاب غشاء القلب وقُرح الرأس والفم والأنف والعيون والأسنان.
مؤلفات ابن زهر.. مرجعية أوروبا الطبية
ليس هناك مصدر مؤكد عن عدد المؤلفات التي ألفها ابن زهر طيلة مسيرته، فيما ذكر ابن أبي أصيبعة أنه ألف 7 كتب، إلا أن المشهور منه والذي له تأثير معروف بشهادة المؤرخين، ثلاثة كتب فقط، على رأسها “التيسير في المداواة والتدبير” الذي يعتبره البعض عصارة أفكار أبو مروان في مجال الطب، وقد أهداه لصديقه ابن رشد الذي تأثر كثيرًا بتلك الموسوعة ما دفعه لتأليف كتابه “الكليات” الذي يعتبره البعض مكملًا لكتاب ابن زهر.
في هذا الكتاب تخلص أبو مروان من المنهج الفوضوي العشوائي الذي كان متبعًا قبل ذلك في إجراء الجراحات الطبية، ليضع نظامًا جديدًا يقوم على الملاحظة المباشرة والتجربة، حيث وصف في الكتاب التهاب التَّامُور والتهاب الأذن الوسطى وشلل البلعوم، كما وصف عملية استخراج الحصى من الكُلى، وفتح القصبة الهوائية.
ومن أشهر مؤلفاته أيضًا، كتاب “الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد” الذي كتبه بناءً على تكليف من أحد أمراء دولة الموحدين، وهو المؤلف الذي يجمع بين الطب والفلسفة، ويشير الباحثون إلى أنه تأثر كثيرًا في هذا الكتاب بنظرية أفلاطون في “النفس المثلثة” وهي النظرية التي تشير إلى أن النفس الواحدة مقسمة إلى 3 نفوس مختلفة، وتمثل كل نفس قوة معينة تتحكم في جزء محدد من الجسد: النفس الناطقة المدركة ومسكنها الدماغ، وهي النفس التي يفكر الإنسان من خلالها في السماوات والأرض وفي العلوم والصنائع، ثم النفس الحيوانية ومسكنها القلب التي تتحكم في الغضب والعصبية، وأخيرًا النفس الطبيعية ومسكنها الكبد وبها تكون شهوة الجماع والغذاء، ولا يوجد من هذا الكتاب سوى مخطوطتين إحداهما في المكتبة الوطنية بباريس، والثانية تملكها مكتبة الإسكوريال بإسبانيا.
وأفرد ابن زهر في هذا الكتاب مساحات كبيرة للحديث عن الأدوية والتصرف فيها، مثريًا الطبيب بوظيفة جديدة وهي الكيميائي الواثق من أدواته وتركيباته الدوائية، فقد علق مثلًا على أصباغ الشعر ومخاطرها قائلًا: “وأما الصباغات فقلما يسلم أحد من ضرّها، وقد أثنى جالينوس على القطران وذكر أنه صبغ عجيب للشعر، لكنْ.. هو من كراهة الرائحة على ما هو عليه، وأما أنا فإني أستعمل من الصباغات مالا يضر كثيرًا بالبصر وأقتنع بذلك في دهن البان أحل فيه لاذناً وأجعل معه دقاق عفص وأخلط إلى الكل من الماء والخلّ ما يصلح به التمازج، وأرفعه إلى أن يبيد الماء، إلخ”.
نجح ابن زهر في تفنيد مزاعم أن الطب في الحضارة العربية الإسلامية كان تقليدًا للطب اليوناني، ليؤكد ريادة الطب الإسلامي
في كتابه “تطور الفكر العلمي عند المسلمين” نقل الباحث محمد الصادق عفيفي عن أحد المستشرقين تعليقه على كتاب الاقتصاد لابن زهر قائلًا: “إنه عبارة عن تذكرة لمن سبق له أن قرأ كتبًا أخرى في الطب، فالمؤلِّف لا يتكلَّم مع العموم، ولكن مع طبيب مثله، وقد أوضح كيفية عملية التفريق بين الجذام، والبهاق، ومسألة العدوى، وقد تحدَّث ابن زهر في هذا الكتاب عن أطباء عصره، فذكر أنهم يختلفون في الاعتناء بالمرضى، وأن الناس يجهلون الطب؛ لأن الطبيب الذي يستشيره مريض من المرضى، يبادر فيصف له دواءً من الأدوية دون تمحيص للحالة في جميع خواصِّها”.
وهناك مؤلفات أخرى لأبو مروان منها كتاب “الأغذية والأدوية” الذي تطرق فيه لوصف أنوع الأغذية والعقاقير وتأثيراتها المتباينة على صحة الإنسان، وقد ترجم هذا الكتاب للاتينية، وكتابي “الجامع في الأدوية والمعجونات” و”تذكرة في أمر الدواء المسهل وكيفية أخذه”، ويعدان مرجعًا موثوقًا به فيما يتعلق بالكلى والحصى والبهاق، هذا بجانب كتب أخرى لم يعثر على نسخ منها وهي: كتاب الزينة ومقالة في علل الكلى ورسالة في علتي البرص والبهق.
نجح ابن زهر في تفنيد مزاعم أن الطب في الحضارة العربية الإسلامية كان تقليدًا للطب اليوناني، والاكتشافات التي اكتشفها العلماء المسلمون هي استكمال لاكتشافات اليونانيين، ليؤكد ريادة الطب الإسلامي وإسهامات علماء العرب والمسلمين في نهضة العالم وحضارته العلمية بما قدموه من اكتشافات وإسهامات فتحت آفاقًا جديدة أمام تطوير العلوم الطبية في بلاد الشرق وأوروبا على حد سواء.
وبعد رحلة طويلة من النضال العلمي والكفاح البحثي، غادر ابن زهر الحياة عام 1162 في مدينة إشبيلية، بعدما توج مسيرته بعشرات الاكتشافات والإنجازات الطبية، مخلدًا اسمه بأحرف من نور في سجلات العظماء بالموسوعات والمؤلفات والإسهامات التي ظلت شاهدًا حيًا على ما قدمه هذا العالم لخدمة الإنسانية جمعاء.