حين يفكر أحدنا اليوم في موضوع ما، ليعرف عنه أكثر ويتبحّر في المعرفة عنه؛ سيجد عشرات الكتب التي تتناوله، من زوايا وجوانب مختلفة، وباتت الكتب متوفرة ورقيًا ورقميًا، ويمكن توفيرها بضغطة زر واحدة أو من أقرّب مكتبة إلى المنزل.
حتى يصل الكتاب إلى عصرنا، بدأ رحلة طويلة، لصيقة بالحضارة والتدوين وممارسة التوثيق الكتابي والإنتاج المعرفي، وبالتأكيد خاض رحلة مضنية للوصول إلينا هكذا، وفي هذا المقال نعود معًا إلى نشوء الكتابة والكتب.
قبل البدء في العرض التاريخي لنشوء وتطورات هيئة الكتاب من حيث الشكل والمضمون، نشير إلى أن مادة هذا التقرير استندت إلى كتاب “تاريخ الكتاب” الذي صدر ضمن سلسلة “عالم المعرفة” مطلع 1993، وهو أحد الكتب المركزية في البحث عن تاريخ الكتب، ألفه الباحث الأوكراني ألكسندر ستيبتشفيتش عقب الحرب بين كرواتيا وصربيا، بسبب إعلان كرواتيا استقلالها عن الاتحاد اليوغوسلافي خلال تداعي الاتحادات اليسارية في أوروبا الشرقية.
يذكرنا كتاب “تاريخ إبادة الكتب والمكتبات” بحيثيات الحرب بين الكروات والصرب، حين اعتمدت صربيا تدمير المصادر المعلوماتية والمعرفية بكرواتيا، ومراكز المعلومات والمكتبات العامة ومكتبات الجامعات، وحتى منافذ بيع الكتب، لذلك جاء مؤلف ألكسندر، قائمًا على مادة بحثية قوية، وبالتوازي، تواجدت “حميمية” وقرب ودود وجمالي لتطورات الكتاب.
الحضارات الأولى: هاجس التوثيق
في السهول الخصبة لبلاد الرافدين، نشأت الحضارة السومرية، أحد أوائل أشكال الحضارة في التاريخ البشري، وكانت الكتابة والتوثيق أحد ركائز وجودها وبقائها في ذاكرة التاريخ.
رغم تأخر البحث الأركيولوجي في كشف آثار الحضارة السومرية، فإن ظهور الإرث السومري خلال الطفرة البحثية في أواخر القرن التاسع عشر، أتى بأولى الأفكار عن ظهور الكتابة والكتب، في صورتهما الأولية.
اعتاد السومريون النقش على هياكل ضخمة وعلى الحجر وبقايا العظام، وكذلك في الكهوف، وأول نشاط في الكتابة تم ابتداعه هو “الكتل الطينية”، وربما يكون ذلك هو المفهوم الأولي عن الشكل الحاليّ للكتاب.
بسبب خصوبة الأرض واستقرار السومريين على ضفاف دجلة، كانوا يأتون بكتل الطين الطري، وتنقيته في الماء، حيث تهبط القطع الحجرية الصلبة إلى الأسفل، ويتم وضع الطين السائل في قوالب كبيرة، ينتظر أن تتماسك قليلًا ويتم الكتابة عليها، وتترك في الشمس حتى تتماسك مرة أخرى.
لم يكن ميكانيزم عمل هذا الشكل البدائي من “صفحة الكتابة” يسيرًا، لذلك اعتمد السومريون على حصر عملها في كتابة المعاهدات والنقوش الضرورية، والحفاظ عليها في أماكن خاصة داخل المعابد، إذ ظهر ذلك عند اكتشاف مدن أثرية مثل نيبور وأوروك.
كان للصينيين الريادة في الكتابة والكتب، لأنهم أول من كتبوا على ورق نبتة البامبو، واخترعوا الأقلام وحافظات لها، وجاء ذلك نتيجة مراحل أولية، مثل الكتابة على النحاس والخشب
أخذت الحضارة البابلية من السومرية نفس نشاط الكتابة، وأضافوا إليه من حيث الكمية، فظهر آنذاك أول إنتاج كتابي ضخم، ولأن حضارة بابل كانت قائمة على الإنتاج الزراعي أكثر، أدركوا أهمية التدوين والتوثيق على الحجارة وخلال الكتل الطينية بكميات أكبر، لتدوين الأشياء المهمة عن آليات الزراعة ومواسم الحصاد.
في “إيبلا” البابلية، ظهرت نتيجة الاهتمام بالكمي، إذ وجد بأحد قصور المدينة ما يشبه “تقسيمة” المكتبة، آلاف من النقوش الحجرية والطينية منظمة ومؤرشفة نوعيًا، وكذلك في مدينة “أوغاريت”، سوريا حاليًا، عرفت المدينة بأنها مركز ديناميكي لتبادل المعارف، وتم تطوير شكل “الكتابة الكبيرة” من حيث الكم، وفي أشياء لا تتعلق بالعمل، مثل التوثيق التاريخي.
يمكننا اعتبار التطور الفارق في حياة الكتاب، جاء خلال الحضارة الفرعونية، التي أدركت ضرورة وجود فكرة “الكتاب” مبكرًا منذ الأسرة الأولى، فعمل الفراعنة على نماذج أكثر تطورًا في الكتابة، مواد صلبة أكثر، ثم انتقلوا إلى الصورة الأكثر قربًا من “الورق”، وهي إنتاج ورق البردي والكتابة عليه.
حينما نتتبع حيثيات كتابة الفراعنة، نجد أنهم أول من أسس لشكل “الصفحة” الذي نراه بديهيًا الآن، فكان يتم وضع مادة من “الجبس” على ورق البردي، حتى لا يثبت الحبر عليها، وأيضًا عرفت الأقلام من خلال القطع الخشبية حادة الطرف.
عملت الدولة الفرعونية على توريد ورق البردي للجماعات المحيطة بها، وتطور خلال تاريخها الطويل فعل “التوثيق” من الجانب العملي إلى الجانب الجمالي والإبداعي، ويبدو لنا ذلك في إرثهم الباقي بالمعابد، وفي كثير من الأوراق التي اكتشفت حديثًا، كذلك عرفت المكتبات كعلامة وجاهة وثراء لنخبة المجتمع عند الفراعنة.
في الشرق الأقصى، كان للصينيين الريادة في الكتابة والكتب، لأنهم أول من كتبوا على ورق نبتة البامبو، واخترعوا الأقلام وحافظات لها، وجاء ذلك نتيجة لمراحل أولية، مثل الكتابة على النحاس والخشب.
ذروة الحضارة: الكتاب في حلة جديدة
مع ظهور المسيحية، ظهرت ورش الكتب وبدأ التعرف على عناصر منفصلة تجمع شكل الكتاب (حبر- ورق – جلد)، إذ نشرت وقتها الصين صناعة الورق وطافت به العالم، بينما عزز الوازع الديني في المسيحية التوثيق وانتشار النسخ، ومع سيادة المسيحية في القرن الثالث الميلادي، أصبحت الورش المعنية بتجليد وإخراج الكتاب منتشرة بشكل كبير، لأن الكتاب آنذاك كان المروج الأول لأي فكر عقدي، إضافةً إلى حاجة الأديرة للمكتبات والأرشفة بصورة أكثر منهجية وتطورًا.
ظهر بيع الكتب منحصرًا في فئات المختصين بالدين المسيحي تعلمًا ودراسةً، لكن التطور الأخير في هذه الحلقة جاء من توسعة حيز الصناعة، بعد ظهور النسخ كمهنة للعمل، وكذلك بيع الكتب كمادة للتربح، فكان الناشر هو ناسخ الكتاب وصانعه وصاحب إخراجه النهائي.
من المسيحية في الدولة الرومانية إلى أثينا اليونانية، التي كانت شرارة المعرفة بين كل الحضارات، حيث تم الاعتماد أكثر على النسخ والتغليف وتجليد الكتب لتصبح مادة مرجعية للتدريس والنقل المعرفي، كما انتشرت كتابة المحاضرات ومحاورات الفلاسفة والتوثيق الورقي للقرارات السياسية وقرارات الملوك، كل ذلك كان يتم جمعه معًا حسب النوع والسياق، ويدرج مؤرشفًا في كتاب جامع.
النهضة الأوروبية ومركزية الكتاب
جاءت بوادر النهضة الأوروبية ومعها فكرة مركزية، لإخراج صناعة الكتاب من حصرية البعد الديني، فيجب أن تخرج الكتب من الأديرة ومن الحيز الديني ككل، ويتم توفيرها للناس، وكانت خطوة المقاومة الأولى هي استعادة الكتب القديمة ونسخها في نسخ كثيرة، عرفت كميات النسخ آنذاك، بأن تشمل مجموعة النسخ نحو 500 كتاب، انتشر ذلك في إيطاليا، وبدأ النساخ العمل على خلق “هيكل” مثالي للكتب، من حيث القطع والتطريز الداخلي والخارجي وعمل أغلفة بها تطعيمات جمالية تحاكي الموضوع وإعادة إنتاج الكتاب بصورة توازي – شكليًا – بين التراثي والمعاصر.
لأن كل تطور ينادي مستقبله، ظهر في إيطاليا اسم تدين له صناعة الكتب حتى الآن بالكثير، هو يوهانس غوتنبرج، الذي ولد في ألمانيا، وكان أول مخترعي الطباعة التقنية خلال آلية بسيطة، وهي عمل حروف صلبة على قالب خشبي، يتم تحبيرها ونسخها على القالب مرة واحدة، وبذلك يمكن توفير مجهود النسخ الممتد إلى مئات المرات في عملية واحدة فقط، وبالتالي طباعة المزيد من الكتب التي تلاقي رواجًا كبيرًا.
الاكتشاف الجديد خلق ثورة معرفية في أوروبا كلها، وظهر منافسون لغوتنبرج في إيطاليا وبراغ، لكن بسبب زيادة الإنتاج، انفصلت أقسام العمل في الكتب، أصبح الناشر معنيًا بالجانب المعرفي والتحريري للكتاب، بينما الطابع يعمل على إخراج نسخة متقنة ومثالية.
أثر التطور الجديد بشكل مركزي في حركات الإصلاح والتنوير الأوروبية، أهمها حركة مارتن لوثر التي كانت كتابية بالإساس، إذ وصلت طبعات كتب لوثر ومنشوراته المقاومة لنحو 800 طبعة مبيعة.
تشير الأبحاث المتعلقة بأدبيات وآثار العصور الوسطى إلى دور مارتن لوثر في هذا السياق، إذ كان المؤثر الكبير في ظهور المكتبات المدنية المعنية بالأدب، وخروج الكتب عن سلطة الكنيسة، التي هبطت من نسبة النصف من مجمل المطبوع وقتها، إلى أقل من الثلث، كذلك ظهر عمال “الباعة المتجولين” لبيع الكتب وعرضها على الناس في الشوارع.
جانب منسي: الكتاب في الحضارة الإسلامية
لا يفصلنا الكثير من التغيرات عن الكتاب بين عصر النهضة الأوروبي وشكله الحاليّ، فالتغيرات بسيطة وتقنية، تتعلق بالشكل وحضور الميكنة في الصناعة وظهور الكتاب بصورة أكثر مثالية، لكن قوالب الكتب والتجليد وإدراج الخيوط وأساليب العنونة، مطابقة بشكل كبير لهيكل الكتاب الحاليّ.
هناك جانب منسي – وربما مجهل – في الكتب المعنية بتاريخ الكتاب، وهو دور الحضارة العربية والإسلامية في هذا السياق.
كان للدولة العباسية اهتمام كبير بالورق، من حيث توفيره ودعم صناعة الكتاب، ففي بغداد، ظهرت فئة “الوراقين”، وعرفت أحياء كاملة بصناعة وبيع الكتب، وتخبرنا بعض الكتب مثل “تاريخ بغداد” مدى الترابط بين الوراق وتراكمه الثقافي والمعرفي، إذ اعتمد الكتاب على 850 رواية تاريخية مأخوذة عن وراقين.
ظهرت المكتبات في مختلف دول الحضارة الإسلامية، على أنها جزء من المؤسسة الحاكمة، فلدينا مكتبة بغداد “بيت الحكمة”، و”دار الحكمة” التي أنشأها الفاطميون بمصر، وما زالت سيرتهما حاضرة في التاريخ حتى الآن.
في قرطبة، ظهرت مكتبتها المركزية التي أسسها المنتصر بالله، وكان هناك موظفون معنيون بشؤون المكتبة مثل النسخ والتجليد وإصلاح الكتب والتحقق من سلامة النسخ القديمة وتنقيحها، وكذلك عمليات الأرشفة، وكان لمكتبة قرطبة حضور خاص لدى لطلبة العلم والعلماء، وكثير من الأوربيين ذهبوا لمطالعة آلاف الكتب العلمية والمعرفية بها.
مكتبة “بني عمار” بطرابلس الشام، ذاع صيتها في تنقيح وتجديد وجمع الكتب، وكان بها ورشة خاصة للعمل على التجليد والفهرسة وتعزيز جودة الكتاب ليناسب المطالعة لفترة أطول، وتم تعيين وكلاء يجوبون العالم الإسلامي بحثًا عن الكتب النادرة لضمها، كما بلغ عدد الناسخين بها 85 ناسخًا، ينشغلون ليلًا ونهارًا بنسخ الكتب، بينما يتمم بقية العمال تصنيع الكتاب.