في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020 أعلن البيت الأبيض، أن الخرطوم وتل أبيب اتفقتا على تطبيع العلاقات بينهما بشكل رسمي، وذلك عبر بيان ثلاثي مشترك (أمريكي – سوداني – إسرائيلي) وصف هذه الخطوة بالتاريخية.
البيان اعتبر الاتفاق شهادة على ما أسماه “النهج الجريء” للقادة الأربع ممثلي الدول الثلاثة (الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو)، ورافق البيان توقيع مرسوم برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بعد 27 عامًا من إدراجه (أدرج السودان على القائمة عام 1993 بسبب إيواء زعيم القاعدة أسامة بن لادن وآخرين).
الاتفاق تضمن إجراءات تحفيزية للخرطوم لإغرائها على اتخاذ تلك الخطوة، منها بذل أمريكا مساعٍ لاستعادة الحصانة السيادية للسودان، وإشراك شركائه الدوليين لتقليل أعباء ديون السودان، ومناقشة مسألة الإعفاء من الديون بما يتفق مع مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، وكسر العزلة الدولية ودمج الخرطوم دوليًا بما يسمح لها بالحصول على منح ومساعدات ودعم للخروج من مأزقها الاقتصادي.
كان عسكر السودان هم حملة لواء هذا الاتفاق والمروجين له بشكل قوي، فيما تأرجحت مواقف القوى المدنية بين رافض ومتحفظ، في الوقت الذي ثار فيه الشارع السوداني رفضًا لهذا التحول الخطير في موقف الدولة صاحبة اللاءات الثلاث (لا سلام مع “إسرائيل”، ولا اعتراف ب”إسرائيل”، ولا مفاوضات مع “إسرائيل”) كما جاء في بيان القمة العربية التي عقدت بعد أيام قليلة من حرب الأيام الست، يونيو/حزيران 1967.
اليوم وبعد مرور أكثر من عامين على إبرام هذا الاتفاق، ومع تلميحات الجنرالات، عبد الفتاح البرهان ورفاقه، بأنهم سينسحبون تدريجيًا من العملية السياسية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية المقرر لها نهاية العام الحاليّ، والتأكيد على إجراء الانتخابات بداية 2024، يبقى السؤال: ما مصير اتفاق أبراهام الموقع بين الخرطوم وتل أبيب إذا ما تخارج العسكر، الداعم الأول والأكبر لتلك الخطوة – من المشهد؟
التطبيع.. ورقة التمكين للجنرالات
منذ الوهلة الأولى لفتح ملف التطبيع بعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019 كانت الأعين كلها تتجه صوب واشنطن في المقام الأول، إيمانًا من جنرالات الجيش السوداني المنخرطين في السلطة الجديدة أن تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة لن يكون دون المرور عبر البوابة الإسرائيلية، أو بمعنى أدق فإن العلاقات مع “إسرائيل” هي الطريق الأسرع لاستعادة العلاقات مع الأمريكان.
وبينما كانت الدولة السودانية تعاني من حالتها الرخوة بعد الثورة، في ظل ما تواجهه من عزلة دولية جراء العقوبات المفروضة عليها من أمريكا والمؤسسات المالية العالمية، كان التوجه حينها كسب الدعم الأمريكي لضمان نجاح الثورة وتأييد السلطة الجديدة، غير أن ذلك لم يكن مطروحًا ولا ممكنًا دون الممر الإسرائيلي.. هكذا كان يفكر الجنرالات.
وبالفعل بدأ البرهان ورفاقه في تنفيذ هذا الفكر باتخاذ إجراءات وممارسات ميدانية على أرض الواقع، وهنا لعب الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي والأوغندي يوري موسيفيني دور الوسيط لكسر حالة الجمود السياسي التقليدي بين الخرطوم وواشنطن ومعهما تل أبيب، حيث مهدا الطريق نحو هذا اللقاء الذي جمع البرهان ونتنياهو في عنتيبي بأوغندا في يونيو/حزيران 2020.
كان هذا اللقاء نقطة تحول مفصلية في مسار التطبيع السوداني الإسرائيلي، حيث قوبل برفض شعبي عارم واتهامات مدنية بالتخلي عن ثوابت الدولة السودانية ومرتكزاتها السياسية الوطنية، ما دفع البرهان إلى تبرير ذلك بالإشارة إلى أن هذا الاجتماع “عُقد من منطلق مسؤوليته عن الحاجة إلى العمل بلا كلل من أجل الحفاظ على الأمن القومي السوداني وحمايته وتحقيق أعلى مصالح الشعب السوداني”.
وتوالت بعد ذلك اللقاءات والاتصالات بين مسؤولي البلدين، تحت ذريعة التنسيق الأمني، ليتطور الأمر إلى الحديث عن مغريات اقتصادية أسالت لعاب العسكر والمنخرطين معهم في بوتقة السلطة من المدنيين وعلى رأسهم حمدوك، ليصل الأمر في النهاية إلى توقيع اتفاق أبراهام في أكتوبر/تشرين الأول 2020، أي بعد نحو أقل من 4 أشهر من لقاء عنتيبي.
القادة العسكريون في السودان كانوا يهدفون إلى التمكين والسيطرة على السلطة من خلال التزلف إلى الأمريكان عبر الحليف الإسرائيلي، ومحاولة امتصاص حالة الرفض السياسي، الأمريكي والغربي، لصعود الجنرالات للمشهد السوداني بعد ثورة قامت في الأساس ضد حكم العسكر، أي أنها كانت باختصار صفقة ثنائية المعادلة، التمكين مقابل التطبيع.
رفض شعبي
غير أن هناك معضلة أخرى في مسار هذا الاتفاق تتعلق بكيفية تبرير تلك الخطوة للشارع السوداني الثائر، ومن هنا بدأ العسكر في العزف على أوتار إيهام الشعب بالازدهار والرخاء جراء تلك النقلة التي ستدفع بالسودان إلى أحضان المجتمع الدولي مرة أخرى وتحسن من وضعيته الاقتصادية والمعيشية، وهو الثمن الذي يستحق هذا التنازل وفق العقلية العسكرية التي تدير العملية السياسية في السودان.
وما إن تم إعلان الاتفاق، خرج فصيل من “قوى الحرية والتغيير” أكبر فصائل الثورة وشريك السلطة في ذلك الوقت، معلنًا معارضته ورفضه لما تم، مشكلًا جبهة سياسية لمقاومة التطبيع، وأمام الزخم الإعلامي الذي صاحب هذا التحرك تبرأ المشاركون في السلطة من أعضاء التحالف من هذا الاتفاق، لافتين إلى أنه تحرك فردي من المكون العسكري وأن الأمر لم يعرض عليهم، وهو ما يعد مخالفة صريحة للوثيقة الدستورية التي تتطلب عرض مثل تلك المسائل التي تمس الأمن القومي للبلاد على البرلمان، وهو ما لم يتم.
واستغل المعارضون للعسكر وللتحالف المدني هذا الموقف من التيارات الإسلامية وأنصار المؤتمر الوطني، للتصعيد ضد السلطة الانتقالية الجديدة، فخرجت عشرات التظاهرات في مختلف المدن السودانية تندد بالتطبيع وترفضه شكلًا ومضمونًا، مطالبين بإلغاء هذا الاتفاق فورًا، والانتصار لمرتكزات الخرطوم الوطنية التي تقوم على أساس دعم الفلسطينيين ورفض التقارب مع دولة الاحتلال بأي شكل من الأشكال.
عامان من التجميد
لكن يبدو أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فالاتفاق الذي رُوج له إعلاميًا وسياسيًا بشكل كبير فجأة ودون مقدمات دخل ثلاجة التجميد، دون إحراز أي إنجازات تذكر على الساحة الميدانية، فلا يزال الشارع السوداني رافضًا لتلك الخطوة، ولم تستفد دولة الاحتلال منه أي شيء، في ظل حزمة من التغيرات والمستجدات التي وضعت مسار التطبيع بين البلدين عند النقطة صفر.
حيث شهدت الساحة الداخلية السودانية والإسرائيلية تطورات سحبت الأضواء من تحت الاتفاق، فأطيح بنتنياهو من السلطة وسط حالة من الفوضى والاضطراب بسبب التشكيك في نتائج الانتخابات التي جرت 2021 وجاءت بيائير لابيد رئيسًا للحكومة، قبل أن يعود زعيم الليكود لمنصبه مرة أخرى في الانتخابات التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
التطورات ذاتها شهدتها الساحة السودانية التي عانت طيلة العامين الماضيين من اضطرابات عارمة، جراء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي لم يستطع اتفاق أبراهام حلحلتها بالوعود التي قدمتها كل من واشنطن وتل أبيب في أثناء التوقيع، ليجد العسكر أنفسهم في مواجهة مباشرة مع القوى المدنية في ظل فقدان الثقة بين الطرفين، فيما ازداد الوضع سوءًا بعد انقلاب البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
الوسيط الأمريكي عانى هو الآخر مما عاناه طرفا الاتفاق، حيث أطيح بترامب، الداعم الأكبر لأبراهام، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ليخلفه الديمقراطي جو بايدن، الذي لم يتعامل مع هذا الملف بنفس الأهمية التي كان يتعامل بها سلفه، خاصة في ظل العلاقات المتوترة في الغالب بين الديمقراطيين ونتنياهو، هذا بجانب المستجدات التي فرضت نفسها على قائمة أولويات أمريكا كتبعات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والأزمة الاقتصادية الدولية.
كل تلك الظروف مجتمعة دفعت كل طرف من الأطراف الثلاث للانكفاء على مشاكله الداخلية دون النظر لأي ملفات أخرى، حتى تلك التي تتعلق بالسياسة الخارجية وخريطة التحالفات، كان لها تأثيرها الواضح في تجميد اتفاق أبراهام، ليس مع السودان فقط لكن مع كل الدول التي أبرمت هذا الاتفاق، الإمارات والبحرين والمغرب.
ما المصير؟
في فبراير/شباط 2022 أكد رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، أنه ليس له طموح في السلطة، مضيفًا في مقابلة بثها التليفزيون السوداني: “لا أريد حكم السودان ولا المؤسسة العسكرية تريد الحكم والتوافق السياسي هو الأقرب لإكمال الفترة الانتقالية”، مؤكدًا أنه “إذا جرت انتخابات أو توافق وطني فإن الجيش سيترك الساحة السياسية”، وأنه مستعد لحوار بشأن فترة انتقالية في حالة حدوث توافق، مشددًا على أن “الجيش ملتزم بإجراء انتخابات منتصف 2023 ولا يفضل تمديد الفترة الانتقالية”، وفق قوله.
اللافت في تلك المقابلة أن البرهان دافع عن علاقة السلطة الانتقالية السودانية بـ”إسرائيل” ومسار التطبيع معها، معلقًا على زيارة وفد سوداني لتل أبيب مؤخرًا بأن تلك الزيارات المتكررة “هي لأغراض التعاون الأمني والاستخباراتي لا لأسباب سياسية”، وهي التصريحات التي تؤكد إصرار الجنرالات على بقاء الاتفاق وإخراجه من ثلاجة التجميد من خلال تبادل الزيارات كخطوة دنيا للإبقاء عليه حيًا.
هذا الإصرار لا شك أنه قد يتعزز بوصول نتنياهو للسلطة مرة أخرى، وفتح قنوات اتصال دبلوماسية مكثفة مع الإمارات والحديث عن زيارة محتملة لأبو ظبي ستكون الأولى له خارجيًا، حيث يريد زعيم الليكود إحياء مسار التطبيع مع الدول الموقعة على اتفاق أبراهام بعد تجميده منذ توقيعه، وربما تكون الإمارات الوسيط الأبرز لأداء هذا الدور كما فعلت سابقًا لإقناع الدول الثلاثة (البحرين – المغرب – السودان) لإبرام الاتفاق رغم الرفض الشعبي.
ليس هناك ضمانات لتخارج العسكر من السلطة في السودان، فهذا الوعد وذلك التصريح ليس الأول من نوعه، كما أن بعض الجنرالات لديهم نية واضحة للاستمرار في الحكم، بعيدًا عن البرهان، وعلى رأسهم محمد حمدان دقلو (حميدتي) صاحب الطموح الكبير في قيادة الحكم خلال المرحلة المقبلة، وعليه فإن التقاط اتفاق أبراهام أنفاسه الأخيرة بسبب خروج الجيش من المشهد هو سيناريو مستبعد نسبيًا.
ومع فرضية هيمنة التيار المدني على الحكم كما يتعهد البرهان، فإن الأمر لن يتم دون تنسيق وتفاهمات تبقي على ما تم في منسوب العلاقات مع “إسرائيل”، بدعوى الانفراجة الاقتصادية والمكاسب المتوقعة جراء تلك الخطوة، التي ربما يصاحبها خلال الفترة المقبلة التي تسبق الانتخابات بعض المغريات الأمريكية الأوروبية الإسرائيلية الإماراتية، على شاكلة منح ومساعدات وإسقاط ديون وإدماج البلاد في منظومة الاقتصاد العالمي، وهو ما تحتاجه البلاد بشدة خلال الفترة الحاليّة للخروج من شرنقتها الخانقة.
استبعاد الجنرالات من الساحة بالكلية أمر غاية في الصعوبة في الوقت الحاليّ، وعليه سيحاولون الإبقاء على مكاسبهم ونفوذهم حتى إن لم يكونوا في صدارة المشهد، ولا يتم ذلك دون استمرار دعم الحليف الأمريكي عبر البوابة الإسرائيلية، غير أن هذا التوجه ربما يصطدم بموقف التيار المدني المتأرجح برغماتيًا بين الرفض والتحفظ.
التمكين مقابل التطبيع.. كما كانت تلك الصفقة هي المسوغ الأبرز لإبرام اتفاق أبراهام بين جنرالات السودان و”إسرائيل”، فهل تكون هي ذاتها للضغط على المكون المدني لتوليه السلطة مستقبلًا؟ يبقى هذا السؤال قيد الدراسة في انتظار التفاهمات المتوقعة بين العسكر والمدنيين لإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات العامة كما هو محدد لها.