مع اقتراب خطوات التطبيع بين تركيا والنظام السوري، باتت الرؤية لدى القوى السورية الفاعلة في شمال البلاد ضبابية، خاصة أن أنقرة تتحكم بزمام الأمور بشكل مباشر في غالبية ملفات المنطقة، عسكريًا وسياسيًا وحتى اقتصاديًا، فعلى الرغم من ادعاء هيئة تحرير الشام التي تسيطر على إدلب أن النفوذ التركي في مناطقها عسكري في غالبه، إلا أن أنقرة تستطيع الضغط سياسيًا على سلطات الأمر الواقع في إدلب في أي وقت تشاء.
مثلها مثل غيرها من الفصائل، تشعر هيئة تحرير الشام بجدية الموقف التركي وما يمثله من خطر على وجودها في المنطقة، وإن لم يكن ثمة ما يهدد نفوذها، فمن المؤكد أن تركيا ستعمل على تقييد حركتها وفق ما تراه مناسبًا للمرحلة ووفق تطورات اللقاءات التي يجريها مسؤولو أنقرة الكبار مع مسؤولي النظام، ولعل أبرزها ما حصل في موسكو عندما التقى وزيري دفاع تركيا والنظام وحضره رؤساء الاستخبارات من الطرفين بحضور ممثلين عن روسيا التي يبدو أنها عملت بجد من أجل الدفع بالعلاقات إلى هذا المنعطف.
أتاحت تركيا لهيئة تحرير الشام التحرك بحرية خلال السنوات الماضية وتغاضت عن الكثير من أفعالها بما لا يتناسب والاتفاقيات الموقعة بين أنقرة وموسكو التي تنص على “دحر التنظيمات الإرهابية من شمالي سوريا”، وهو ما عرضها لانتقادات دائمة من موسكو، ومؤخرًا اتهم المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، تركيا بأنها “تسعى لتحويل هيئة تحرير الشام في إدلب، إلى معارضة معتدلة”، مضيفًا “تركيا لم تنفذ كامل التزاماتها في الاتفاقيات التي وقعت عليها في موسكو مارس/آذار 2020”.
لكن هذا لا ينفي أن أنقرة ما زالت تعتبر هيئة تحرير الشام فصيلًا إرهابيًا، ففي عام 2018 أفاد مرسوم صادر عن الرئاسة التركية أن “تركيا صنفت هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية”، وهو ما يجعل الهيئة أحد الأهداف التي “يجب التخلص منها من مناطق الشمال السوري”، بحسب الاتفاقيات الروسية التركية.
أما الآن، بعد أن أصبح التطبيع بين نظام الأسد وتركيا وشيكًا أو واقعًا إلى حد ما، وبات مصير هيئة تحرير الشام ومستقبلها على المحك، ربما، فليس من المستبعد أن تتخلص أنقرة من الهيئة أو تحد من نفوذها وتضيق عليها في سبيل إنجاح المحادثات مع روسيا والنظام، خاصة أن مطالب الأسد تتمثل في “تسليم إدلب ومعبر باب الهوى لحكومة النظام ووضع طريق M4 الدولي تحت سيطرة دمشق بشكل كامل، والتعاون في القضاء على الإرهاب”.
تفسر هذه التطورات، محاولة هيئة تحرير الشام استغلال الظرف الحاليّ باللعب على وتر الشعب الغاضب من هذه الخطوات والظهور بدور الرافض الأكبر لها، خاصة بعد التزام مؤسسات المعارضة الرسمية والمعترف بها دوليًا الصمت تجاه التطبيع، وبل سارعت الخطى بتنفيذ عمليات عسكرية ضد النظام، ما يعده البعض “مشاغبة” على خطوات الحكومة التركية للضغط ليس إلا.
موقف قيادات الهيئة
في بداية الأمر أعلن زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، عن موقف الهيئة من المباحثات التي جرت بين تركيا والنظام السوري، معتبرًا أن المباحثات التي تجري بين النظام وحليفه الروسي مع الجانب التركي تُعد “انحرافًا خطيرًا يمس أهداف الثورة السورية”، وكان الخطاب الأول للجولاني عالي النبرة تجاه تركيا وخطواتها، لكن في خطابه اللاحق خفف من حدة نبرته قائلًا إن تركيا لم تصل بعد إلى مرحلة المصالحة مع النظام السوري، وبأنها تخوض مسارًا سياسيًا يتوافق مع مصالحها، داعيًا إلى “عدم الخلاف والعداوة معها”.
وأضاف الجولاني “هو مسار تفاوضي لا شك أنه يحمل خطورة على مبادئ الثورة السورية كونه يشكل انعطافة جديدة للأتراك، خاصة في ظل ما يعانيه النظام والروس والإيرانيون من ضعف وهزائم، لكن للأتراك أسبابهم في هذه الانعطافة لا أريد التحدث فيها نيابة عنهم”، وبحسب الجولاني فإن هدف التقارب بين تركيا والنظام هو ما “يتمثّل بالانتخابات التركية وطول الحرب التي تشهدها المنطقة لأن الإستراتيجية التركية لا تتوافق مع الكثير من أهداف الثورة في إسقاط النظام”.
وأكد الجولاني قائلًا: “على الرغم مما يحصل، يجب علينا عدم تأزيم العلاقة بين الثورة وتركيا لتصل إلى مرحلة الخصام والعداوة، فنحن لا نريد أن نُكثر العداوات على أنفسنا، ويكفينا عداء الروس والإيرانيين والنظام”.
يذكر أن قيادات في هيئة تحرير الشام تكلمت عن هذا التقارب بحدة، إذ قال القيادي المعروف بـ”أبو ماريا القحطاني”: “تصريحات وزير الخارجية التركي التي صرح بها وبكل وقاحة أن من يرفضون المصالحة هم قلة! المصالحة خيانة وحاشا لله أن يخذل من ينصر أهله، فمن لم يكترث لدمائنا لن يقرر مصيرنا وليس بيننا وبين نظام الكبتاجون إلا القتال، فمن عجز عن نصرة أهل الشام والدفاع عنهم عليه أن يكون عونًا لعدوهم عليهم”.
بدوره قال القيادي مظهر الويس: “لعنة بشار ستلاحق كل من يقترب منه، ومن لم يصدق فليعتبر بالواقع المشاهد وما مصير بشير السودان وحرب روسيا وأحداث الأردن وإيران عنا ببعيد، سنن الله لن تحابي أحدًا، ولعنة دماء أهل الشام ستمحق من يفرط فيها، والعاقبة لمن يقف في صف المظلومين المستضعفين ويناصرهم تمسكًا بمكارم الأخلاق”.
آليات الضغط التي تتبعها الهيئة
كشفت هيئة تحرير الشام، عن خريطة العمليات التي وصفتها ب”النوعية” ونفذتها الفصائل العسكرية ضد قوات نظام الأسد في نقاط التماس خلال 3 أشهر مضت، فقد نفذت الفصائل هجمات ضد قوات النظام على 13 محورًا في محافظات إدلب وحماة واللاذقية، وأسفرت هذه العمليات عن مقتل العشرات من قوات النظام، وكان آخر هذه العمليات في محور كوكبة بريف إدلب، وأسفرت العملية، بحسب إعلام الهيئة، عن مقتل وجرح نحو سبعة عناصر من قوات النظام.
هذه العمليات تأتي في إطار المحاولات التي تجريها هيئة تحرير الشام لاستقطاب الفصائل التي ترفض التوجه التركي الجديد، وأوضح الجولاني في كلماته أن الهيئة أعدت “العدة وهيأنا أنفسنا لأيام عظيمة قادمة”، ودعا “كل مخلص أن يبذل الجهد ويسعى بصدق ويضع يده بأيدينا ويصطف إلى جانبنا في مواجهة هذه التحديات ومواصلة العهد حتى إسقاط النظام المجرم”.
جيشت الهيئة أيضًا عبر إعلامها الناس للتظاهر في مناطق سيطرتها ضد الخطوات التركية، وشهدت الأيام الماضية مظاهرات خرج فيها الآلاف نددت بالخطوات التركية، وبحسب موقع “العربي الجديد”، “لم تكتف الهيئة بالتعبير عن امتعاضها من التحركات التركية عبر التصريحات وتشجيع التظاهرات، فقد عمدت إلى دفع الجناح الموالي لها في حركة أحرار الشام إلى رفض تسليم معبر الحمران التجاري بين مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و”الجيش الوطني السوري” في ريف حلب إلى وزارة الدفاع التابعة لـ”الجيش الوطني”، نتيجة طلب تركي بغية تسليم كل المعابر لإدارة مدنية”.
ويعد معبر الحمران شريانًا اقتصاديًا مهمًا لمناطق الشمال السوري، فعبره يتم التبادل التجاري بين مناطق “قسد” والجيش الوطني، بما في ذلك شاحنات النفط.
الضغط التركي على الهيئة
تمكنت هيئة تحرير الشام منذ شهور اختراق مناطق النفوذ التركي في ريف حلب الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني المدعوم من تركيا، حيث استغلت تحرير الشام الاشتباكات الدائرة بين الفيلق الثالث وفرقة الحمزة ودخلت على خط المواجهة وآزرت فرقتي الحمزة والعمشات ضد هجوم الفيلق الثالث، واستطاعت الدخول إلى عفرين والسيطرة على كفر جنة، عندها تدخلت تركيا ونشرت قوات فصل تتألف من “حركة ثائرون”، وعزز الجيش التركي انتشاره في المنطقة.
وقال معهد “واشنطن لسياسة الشرق الأدنى“، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إن الولايات المتحدة الأمريكية ضغطت على تركيا، من أجل التدخل وإيقاف تمدد هيئة تحرير الشام في شمال غربي سوريا، لكن رغم الضغط التركي، أخذت هيئة تحرير الشام بالعمل على تقوية أذرعها والفصائل المتحالفة معها، المنتشرة في كل من عفرين والباب وأعزاز، عن طريق دعمها بالسلاح والأموال.
وبحسب “تليفزيون سوريا”، فإن الهيئة أدخلت على مدار الأسبوعين الماضيين أسلحةً ثقيلةً مكونةً من دبابات ومدافع وذخائر إلى منطقة الشيخ حديد التي تسيطر عليها فرقة السلطان سليمان شاه، المتحالفة مع تحرير الشام منذ أشهر طويلة، ومدت الهيئة ما يعرف باسم “أحرار الشام – القطاع الشرقي” بالأموال والذخائر، باعتبار أن هذا التشكيل له انتشار في ريف الباب وصولًا إلى جرابلس، ويسيطر حتى اللحظة على معبر الحمران المخصص لمرور المحروقات من شمال شرقي سوريا إلى شمال غربها، بالإضافة إلى دعم مجموعات سابقة كانت ضمن حركة نور الدين الزنكي.
من يستخدم ورقة الهيئة؟
تعني شروط النظام السوري المتمثلة ب”تسليم إدلب ومعبر باب الهوى لحكومة النظام ووضع طريق M4 الدولي تحت سيطرة دمشق بشكل كامل، والتعاون في القضاء على الإرهاب” القضاء على هيئة تحرير الشام، لكن هل تقبل تركيا هذا المطلب وتستغني عن ورقة الهيئة بيد النظام؟.
يقول الخبير بشؤون الشمال السوري أنس الخطيب: “الهيئة بدأت مبكرًا في مواجهة أي اتفاق بين تركيا والنظام قد يضر بوجودها أو لا يراعي مصالحها ولا يجعلها في قائمة المستفيدين من التطورات الأخيرة”.
يضيف الخطيب “الهيئة تقوم بمناوشات هدفها التشغيب بالدرجة الأولى على تركيا كنوع من الضغط لتحصل على ما تريده في هذا الإطار، وهي تدرك حجم المساحات التي توفرها سياسة تركيا في احتواء الهيئة، لذلك نرى تصريحات الجولاني وبعض العمليات الانغماسية كما تسميها وسائل إعلام الهيئة في محاولة أيضًا لاستثمار تعطش السوريين لمواقف رافضة للتقارب بين تركيا والنظام وبالتالي رفع الرصيد الشعبي الذي قد يستخدمه لاحقًا في مواجهة أي تهديد ناجم عن تفاهمات تتعلق بمصير الهيئة”.
ويرى الخطيب في حديثه لـ”نون بوست” أن “النظام وحلفاءه من خلفه يستخدمون الهيئة كذريعة للمطالبة بتغيير الوضع على الأرض في مناطق نفوذ الهيئة باعتبار أن الهيئة تنظيم إرهابي وهو مصنف حتى في تركيا ومن الممكن أن تتوجه بعض الأطراف داخل النظام للتناغم مع الهيئة والتخادم عبر إشعال بعض الجبهات إذا لم ترق الاتفاقات المتوقعة لتلك الأطراف”.
وحتى اللحظة لا يبدو أن هناك توجهًا تركيًا لاستخدام الخيار العسكري في مواجهة الهيئة لعدة اعتبارات أهمها:
أولًا، عدم أولوية ملف الهيئة في الخيارات العسكرية التركية المنصبة على محاربة قسد باعتبارها التهديد الأكبر على أمنها القومي. وثانيًا، نجاح تركيا في احتواء الهيئة إلى حد مقبول.
وثالثًا، عدم رغبة تركيا في إدخال إدلب في أزمة مواجهة عسكرية تعقد المشهد وتهدد حدودها بالنيران أو بموجات لجوء جديدة هربًا من المواجهات العسكرية.
بناءً على هذه المعطيات، تفضل أنقرة خيارات الاحتواء، وإذا اضطرت لاستخدام القوة فالخيار الأمني سيكون الأنسب في معالجة هذا الملف.
بدوره، يقول الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، إن جميع الفاعلين الدوليين ينظرون إلى هيئة تحرير الشام ضمن الرؤية الدولية التي تصنفها على أنها “فصيل إرهابي”، لذلك بالتأكيد هناك شيء مشترك بين الدول على إنهاء هذا التنظيم أو مواجهته، مضيفًا “تأتي هنا رؤية نظام الأسد وروسيا بصبغ كل مناطق المعارضة بلون “تحرير الشام” وتريد استردادها عسكريًا بتهمة الإرهاب على هذا الأساس”.
يبين علوان لـ”نون بوست” أن “تركيا تريد تفكيك الهيئة دون المواجهة العسكرية التي ستترك آثارًا مباشرةً على المنطقة التي تحوي ملايين السكان، إضافة إلى آثارها على المعارضة السورية والأمن القومي التركي، على اعتبار أن العمليات العسكرية تزيد من المأساة الإنسانية وربما تزيد عدد اللاجئين”.
وفي حال جرى التطبيع الكامل بين النظام السوري وتركيا يرى علوان أن “هيئة تحرير الشام اتخذت خطوات كثيرة للمحافظة على وجودها، واستفادت من التناقضات الكبيرة بين الفاعلين الدوليين الرئيسين لتبقى ضمن المنطقة التي تضم الكثير من المدنيين، واستفادت الهيئة أيضًا من تغيير خطابها وسلوكها أمام الفاعلين بتجنب المواجهة العسكرية، لكن ذلك لم يكن كفيلًا بإزالتها من التصنيف بالإرهاب”.
بالمحصلة، يبدو أن هيئة تحرير الشام ستلعب على كل الحبال من أجل الحفاظ على وجودها في الظروف كافة، ولا يتضح بعد فيما إذا كان مصير الشمال السوري ككل، وإدلب بالخصوص، سيحسم بشكل كامل في حال وصول أنقرة وحكومة النظام إلى تسوية تفضي إلى تطبيع.