أثار الاحتفاء البالغ الذي حظي به الأديب الجزائري ياسمينة خضراء ذو اللسان الفرنسي في تونس بعض الشجن الثقافي، وكشف حالة من الانبهار بشخصيته وبأدبه، مقارنة بكتاب آخرين يكتبون بالعربية وينشرون في الجزائر لقارئ جزائري خاصة ولقارئ عربي عامة. سنكتب عن حالة الانبهار هذه دون أن نخوض في مضمون ما كتب ياسمينة خضراء، فما اطلعت عليه من أدبه لا يسمح لي بالخوض فيه ناقدًا أو منافحًا.
ملاحظتي المؤسسة هي ما يسود داخل أوساط ثقافية واسعة ببلدان المغرب العربي أو المستعمرات الفرنسية السابقة من إيمان بتفوق اللغة الفرنسية وثقافتها ووضعها موضع المرجع الأسمى للأدب والسينما ومختلف التعابير الثقافية، انبهار مكبل للإبداع الحر وماسخ للشخصية الوطنية.
انتهت صلاحية غنيمة الحرب
نسب إلى كاتب جزائري آخر كتب بالفرنسية فجر الاستقلال الجزائري هو كاتب ياسين إذ قال “اللغة الفرنسية غنيمة حرب”، أي مكسب يجب الفوز به والحفاظ عليه لأن ضرورات لحظة الاستقلال كانت محتاجة إلى التعبير عن نفسها بلغة يفهمها العالم، لكن بين الخمسينيات من القرن الماضي وهذه اللحظة، حصل أمران مهمان لا يزال المنبهرون باللغة الفرنسية يتجاهلونهما: أولًا تراجع قدرة تأثير اللغة والثقافة الفرنسية في العالم، وتقدم اللغة العربية كلغة عالمية معروفة وقادرة على تقديم منتجها الثقافي بلسانها لا بلسان مستعار.
خلال النصف قرن الماضي، قدم العرب أنفسهم للعالم بلغتهم وصاروا – رغم ثقل الإرث الاستعماري – جزءًا ثابتًا من ثقافة العالم، وإذا وضعنا الصورة التي صنعها أدب عربي بلسان عربي مقابل الصورة التي وضعها أدب عربي بلسان فرنسي، سنجد الصورة الأصلية مقابل صورة مصطنعة تسوق لعربي مصطنع هو العربي المرغوب غربيًا، خاصة فرنسيًا، باعتبار أن العرب المشارقة لم يكتبوا بالفرنسية.
لقد كُتِب الكثير عن أسباب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، لكن النقطة المجمع عليها من بين كل المبررات هي أصالة نصه في مجتمعه بلا مساحيق أو اصطناع، كما وجبت الإشارة أيضًا إلى فوز وول سوينكا النيجيري بالجائزة نفسها بنص اعتبر هو الأدب الإفريقي الحقيقي، وللتذكير أيضًا فإن هذين الأديبين لم يخضعا للثقافة الفرنسية، فبلداهما لم يخضعا للاحتلال الفرنسي (وإن بقيت آثار ثقافية من مرور نابليون بمصر).
في المقابل لم يحظ أي من أدباء المغرب العربي ممن كتبوا بالفرنسية بأي تقدير خارجي، وليس لدينا علم بمقادير انتشارهم وقبولهم في الحقل الثقافي الفرنسي (والعالمي)، وهل تجاوزوا موقع كتاب المستعمرات المؤمنين بكونية الثقافة الفرنسية لتزيين الأكاديمية الفرنسية على غرار ليبولد سيدار سنغور.
الفرانكفونية ليست مفتاح العالم
عودًا إلى الاحتفاء الكبير بمرور ياسمينة خضراء بتونس، أجد أن حملة التسويق تكشف نخبة مهيمنة على المشهد الثقافي المحلي، لكنها تعيش بلا مناعة ثقافية يمكن وصفها بنخبة كارهة لذاتها، باسم الانفتاح على العالم.
هذا الانفتاح يتجاهل أولًا الانفجار الأدبي الكبير والروائي منه، خاصة الذي شهدته تونس بعد الثورة، فهذا المنتج ظل حتى اللحظة خارج كل متابعة وتسويق في مقابل اهتمام مفرط بأدب وافد وذي موضوع وحيد.
وثانيًا هذا الاهتمام الذي يبرر لنفسه بالانفتاح لا يراقب أو يتجاهل عامدًا حركة الترجمة من العربية إلى الفرنسية، فالفرنسيون لا يترجمون إلى لغتهم من العربية وما يترجمه التونسيون (على سبيل المثال) من أدبهم بداعي تصدير الثقافة لم نسمع له ركزًا في فرنسا.
لقد ترجم التونسيون بحر مالهم بقصد التعريف بأدبهم وثقافتهم شاعرهم الأول (أبو القاسم الشابي) وروائيهم الأول (محمود المسعدي) إلى الفرنسية، لكن رجع الصدى لم يتجاوز وضع النصوص في مركز العالم العربي بباريس، ولم نحظ أبدًا بلقاء طالب فرنسي يبحث في الأدب التونسي (أو السينما أو المسرح) بجامعة تونسية، وما زلت أقسام الفرنسية بكليات الآداب بتونس تنجز أطاريح عن الأدب الفرنسي متجاهلة أدبها المحلي.
مشهد من الاغتراب الثقافي ذكرني بأغنية فرنسية مشهورة لفنان حشاش (Serge Gainsbourg) عن الحب من جانب واحد، تقول له المغنية (Jane Birkin) أحبك فيجيب أنا لا أحبك مطلقًا لكنه قبل ذلك يردد (أذهب وأجيء بين كليتيك)، بما يترك في ذهن السامع أنه يجامعها قبل أن يحسم (أنا لا أحبك مطلقًا).
إن الثقافة الفرنسية تذهب وتجيء بين كليتي جزء كبير من النخبة التونسية (وربما المغاربية)، مجسدة حالة من فقدان المناعة الثقافية، منتهاها تحقير الذات والذوبان في الآخر بدعوى الانفتاح والكونية.
هل علينا طرد ياسمينة خضراء من تونس؟
إذا ظن قارئ ما أنني أطلب ذلك، فسيكون أحمق قارئ مر بالنص، إن حديث المناعة الثقافية لا يعني عندي الانغلاق على الذات، لكنني أظن أن مبدأ الأقربون أولى بالمعروف ينطبق أيضًا في مجال التسويق الثقافي، والأقربون عندي ليسوا أبناء القطر الواحد (التونسيون مثلًا)، بل القرابة الثقافية وفي حالتنا القرابة الثقافية العربية.
تسويق الذات في العالم يمر بعملية الامتلاء بالذات والإيمان بالقدرة الأصلية قبل استيراد ثقافة أخرى والترويج لها، وأعتبر الكتابة بالفرنسية خارج التسويق للذات بل هي ترويج للآخر داخل الثقافة المحلية، بل وإقحامه ثقافيًا في المشهد الثقافي الداخلي ولو سمت إلى مقارعة الآخر بلغته، وهو ليس عمل ياسمينة خضراء على كل حال.
يمر تلاميذ الثانوي في تونس بدرس الفلسفة وهو الدرس الذي يعتبره واضعوه مؤسس ملكة النقد لدى الناشئة، وتغرق أقسام الفلسفة بالجامعة في درس الخصوصية والكونية ودرس الأنا والآخر، لكن نتيجة ذلك لم تتحول إلى وسيلة من وسائل المناعة، فكأن الدرس لم يؤد مهمته، بل إن فلاسفة تونس لا يخرجون في الغالب عن درس الفلسفة الفرنسية (إن كانت هناك فعلًا فلسفة فرنسية)، ومثل ذلك يقال عن دروس علم الاجتماع، حيث لا يزال أوجست كونت مفتاح الدخول إلى المادة السوسيولوجية.
ليس المطلوب عدم استضافة ياسمينة خضراء، بل دعوته ووضعه في موقعه وحجمه كنص مغترب لا يسهم في بناء ثقافة عربية بقدر ما يروج لثقافة فرنسية ترى ومنذ قرون أن العربي كائن مريض ومعقد (بالهوس الجنسي والإرهاب وتحقير المرأة واضطهادها وتعذيب الأطفال بالختان) ويستحق إعادة الخلق طبقًا للنموذج الفرنسي الكامل والمثالي.
لم تعد اللغة الفرنسية في تقديرنا غنيمة حرب، بل أظننا وصلنا إلى أن الكاتب بالفرنسية الآن هو أسير حرب يحاول إنقاذ نفسه بالاستبضاع الثقافي للمحتل.