أطلّ الرئيس التونسي قيس سعيد على التونسيين، ليلة 25 يوليو/تموز 2021، بعد يوم شهد احتجاجات متفرقة في بعض مناطق البلاد تم التسويق لها باحترافية في مواقع التواصل الاجتماعي والمؤسسات الإعلامية حتى خيّل للناس أنها ثورة عارمة.
أطلّ سعيّد معلنا الانقلاب على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية، فعطّل عمل البرلمان، قبل أن يقوم بحله فيما بعد، وأقال الحكومة وأعلن ترأس النيابة العمومية، ولاحق معارضيه، واسترسل فيما بعد في إقرار الأوامر والمراسيم لبسط سيطرته على البلاد، دون أن ينسى قطاع، حتى أنه جمّد العمل بدستور الثورة وصاغ دستور جديد بيده، وحلّ الهيئات الدستورية، ونشر أصدقاءه داخل مؤسسات البلاد ليتمكن منها، وأصدر قوانين لتكميم الأفواه والسيطرة على الفضاء العام، وأعطى الضوء الأخضر للقوى الأمنية للتنكيل بالصحفيين والنشطاء والسياسيين والحقوقيين ورجال الأعمال.
قرارات وتحركات، أربكت الوضع العام في البلاد، في فترة وجيزة ولنا أن نعاين ذلك في الشوارع والأسواق والمؤسسات، فالأزمة ظاهرة للعيان دون أن تبحث عنها، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، إذ لا يوجد مجال أو قطاع إلا ومسته الأزمة وتمكنت منه.
وضع حرج، فرض على عديد القوى السياسية والمدنية –منها من كان يدعم سعيد حتى وقت قريب- التحرّك وإعلان عديد المبادرات السياسية لإخراج البلاد من مأزقها حتى لا يتطور الوضع أكثر ويصعب حلّه فيما بعد، لكن السؤال المطروح الآن، كيف سيتعامل سعيد مع هذه المبادرات؟
مبادرات كثيرة
صحيح أن أغلب هذه المبادرات لم يتم الإعلان عن تفاصيلها إلى حدّ الآن وتم الاكتفاء بالخطوط العريضة لها، إلا أنها تبقى مهمة وتؤكد أن مقاومة انقلاب سعيد مازالت متواصلة بالطرق السلمية وهذا مهم جدا لإسقاط منظومة سعيد.
أبرز المبادرات المنتظرة، ما يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابة عمالية)، وتضم إلى جانبه رابطة حقوق الإنسان وهيئة المحامين والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، على أن تتواصل المشاورات لضمّ أكبر عدد من المنظمات في تونس.
تقول المركزية النقابية في تونس إن المبادرة مفتوحة للجميع “لإنقاذ البلاد”، وتهدف المبادرة إلى إجراء حوار لمعالجة الأزمة، وسبق أن أكّد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، بدأ الاتحاد مشاورات مع عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، من أجل بلورة تصور مبادرة مع منظمات وقوى المجتمع المدني، لإنقاذ البلاد من الوضع الراهن.
هذه ليست المرة الأولى التي يرفض فيه سعيد، المبادرات ودعوات الحوار، إذ سبق أن رفض مبادرة لاتحاد الشغل سنة 2020
أشار الطبوبي حينها إلى أن المبادرة لا تزال في طور الأفكار والمشاورات الأولية، فيما قالت قيادات أخرى على غرار الأمين العام المساعد للاتحاد سامي الطاهري، إن المنظمة العمالية لن تقف مكتوفة الأيدي وستلعب دورها لتجنيب البلاد، ما يصفه “بالفوضى والإفلاس والانفجار الاجتماعي”.
من المرتقب أن تكون المبادرة “شاملة وعميقة وألا تقتصر فقط على الجانب السياسي” وأن تقترح “الانطلاق في إصلاح شامل اقتصادي واجتماعي وسياسي، على أن يتم تقديمها وعرضها على قيس سعيد باعتباره صاحب شرعية انتخابية”، وفقا لعميد المحامين التونسيين، حاتم المزيو.
يذكر أنه في أكتوبر/تشرين الأول 2013، شهدت تونس حوارا وطنيا بين عدة أطراف سياسية تونسية بتأطير ومبادرة ورعاية الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس، على خلفية دخول البلاد في أزمة سياسية حادة، وأفرز الحوار حينها حكومة تكنوقراط أشرفت على انتخابات رئاسية وتشريعية.
إلى جانب مبادرة الاتحاد، هناك مبادرات أخرى من ذلك ما دعت له حركة “مواطنون ضد الانقلاب”، حيث دعت الحركة إلى إجراء حوار وطني، للتوافق حول خريطة طريق مجمع عليها من أجل إسقاط الانقلاب، وقالت الحركة -في بيان أصدرته بعنوان “الطريق إلى استئناف الديمقراطية”- إنها تدعو إلى “التمسك بالنضال الميداني المقاوم طريقا إلى إسقاط الانقلاب ومحاسبته سياسيا وقانونيا.”
ودعت حركة “مواطنون ضد الانقلاب” -في بيانها- جبهة الخلاص الوطني “باعتبارها تمثل أكبر تجمع سياسي ومدني مناهض للانقلاب أن تتمسك بضرورة توفير الإطار التوافقي لتنظيم الحوار الوطني حول خارطة الطريق والاستحقاقات العاجلة للمرحلة القادمة”.
في زيارة ليلية لمقهى شعبية.. قيس سعيّد: فقدان السكر والقهوة والحليب بفعل فاعل #اقتصاد #تونس pic.twitter.com/Ozjd3tdpK0
— Tunigate – بوابة تونس (@Tunigate) January 11, 2023
تضم جبهة الخلاص الوطني -التي تشكلت يوم 31 مايو/أيار الماضي- 5 أحزاب، وهي النهضة، وقلب تونس، وائتلاف الكرامة، وحراك تونس الإرادة، والأمل، إضافة إلى حركة “مواطنون ضد الانقلاب” وعدد من البرلمانيين.
بدوره، تحدث الأمين العام السابق لـ”التيار الديمقراطي” غازي الشواشي، عن مبادرة تقوم على وضع خريطة طريق لإنقاذ تونس، تتضمن المستويات السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، وتشرف عليها مجموعة من الشخصيات الوطنية المستقلة، الأكاديمية، والقانونية.
إلى الآن لم تجهز المبادرة، على أن يتم تقديمها إلى جميع الأطراف الفاعلة، السياسية والمدنية حال ما تجهز بكل جوانبها، الدستورية والمؤسساتية والاجتماعية والاقتصادية، ويتوقع أن تكون جاهزة نهاية شهر يناير/كانون الثاني الحالي.
سعيد يصرّ على تجاهل الجميع
جاءت هذه المبادرات بعد أن اشتدّت الأزمة في تونس، وتراجعت شعبية سعيد بين التونسيين، والتي تأكدت في نسبة المقاطعة الكبيرة التي عرفتها الانتخابات التشريعية في دورتها الأولى، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة 10 %.
لكن سعيد كعادته لا يستمع لأحد ويصر على المضي قدما في فرض برنامجه الأحادي على التونسيين، ورغم النسبة الضئيلة للمشاركين في الاستحقاق الانتخابي الأخير، إلا أنه يصرّ على مواصلة العملية الانتخابية واستكمال الدور الثاني.
اعلان سعيّد استعداد نظامه للدور الثاني من الانتخابات التشريعية، يؤكد بما لا يدع مجالا للشكّ أنه رافض لكل المبادرات المقترحة، فهو مستمرّ في خريطة طريقه كما تحدّدت منذ البداية، رغم ما وصل إليه الوضع في البلاد.
يرفض الرئيس التونسي قيس سعيد الحوار مع جميع الأطراف في البلاد ويصرّ على نهج الحكم الفردي، رغم أن كلّ المؤشرات أمامه تؤكد أن الوضع في تونس حرج ولا يتحمل أكثر
هذه ليست المرة الأولى التي يرفض فيه سعيد، المبادرات ودعوات الحوار، إذ سبق أن رفض مبادرة لاتحاد الشغل سنة 2020، وبقي يماطل الاتحاد قرابة السنتين للإعلان عن موقفه النهائي من المبادرة، وهو ما أربك الوضع أكثر.
يصر سعيّد على رفض الحوار، حتى مع من يدعمه ويقف إلى صفه، فالجميع عنده خونة ومتآمرون على الوطن، لا يؤتمن جانبهم، وهو فقط من على حق، ما جعل عديد القوى تنفض من حوله وتعلن رفضها تمشيه الفردي الذي أضرّ بالدولة التونسية.
كما يرى الرئيس التونسي أن أي مبادرة حوار ستلغي مساره الذي خطط له منذ وصوله خريف سنة 2019 إلى قصر قرطاج، وبدأ في تطبيقه بالقوة صيف 2021، دون مراعاة مصلحة الشعب التونسي الذي يتوق إلى العيش بكرامة.
مستقبل الأزمة في تونس
في ظلّ رفض الرئيس قيس سعيد المتوقع للمبادرات المطروحة، من المرتقب أن تشتد الأزمة في تونس أكثر، ذلك أن الوضع لا يحتمل مزيدا من الانتظار للدخول في حوار جدي بين جميع القوى المدنية والسياسية في البلاد.
وتعرف تونس أزمات عدة مست كلّ القطاعات، انطلاقا من المجال السياسي، فتونس تعرف منذ 25 يوليو/تموز 2021 احتقانا سياسيا كبيرا، غذته تصريحات سعيد المتتالية واتهامه للمعارضة بالعمالة وخدمة قوى أجنبية.
الولد قال كل ما نريد أن نقوله دون أن يقول حرفا ? #تونس #قيس_سعيد pic.twitter.com/hn9xcO5yor
— Tasnim Idriss | تسنيم إدريس (@TasnimIdriss) January 11, 2023
كما يشهد الوضع الاقتصادي تدهورا كبيرا، برز في رفض صندوق النقد الدولي منح نظام سعيد قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار لدعم موازنة الدولة العاجزة وخفض التصنيف الائتماني للبلاد، ورفض أغلب المؤسسات التجارية الأجنبية التعامل مع تونس، خوفا من عدم قدرة القدرة على سداد استحقاقاتها المالية.
أثر هذا على الوضع الاجتماعي في تونس، إذ ارتفعت نسبة البطالة، وتراجع المقدرة الشرائية لعموم التونسيين، وسجلت الأسواق ندرة في البضائع وارتفاع قياسيا في أسعارها، ما ينذر بخروج الوضع عن السيطرة.
يرفض الرئيس التونسي قيس سعيد الحوار مع جميع الأطراف في البلاد ويصرّ على نهج الحكم الفردي، رغم أن كلّ المؤشرات أمامه تؤكد أن الوضع في تونس حرج ولا يتحمل أكثر، وأن “حربا أهلية” قادمة لا محالة، ما يحتم على كلّ القوى في البلاد نبذ الخلافات بينها والوصول إلى حلّ يجنب تونس ويلات قادمة.