لم يكن 14 يناير/كانون الثاني 2011، يومًا عاديًا في تاريخ المواطن التونسي والعربي عمومًا، فقد كان نقطة انطلاق موجة الربيع العربي، والشرارة التي ألهمت شعوب المنطقة العربية على الثورة ضد من حكموهم بالسيف والنار لعقود.
مساء ذلك اليوم، هرب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، على وقع مظاهرات شعبية عارمة شهدتها مختلف مدن وقرى وأحياء تونس، طالبته بالرحيل بعد 23 سنة من القمع والديكتاتورية والفساد والمحسوبية.
تم إقرار ذلك اليوم، عيدًا وطنيًا وعطلةً رسميةً، يحتفل فيه التونسيون بذكرى ثورة الياسمين التي أسقطت نظامًا جثم على الصدور لعقود، نظامًا لم يكن أكبر المتفائلين يتوقع سقوطه في يوم ما، ذلك أنه أحكم سيطرته على كل مؤسسات الدولة وطوعها خدمة له ولعائلته وعائلات أصهاره وحاشيته.
خلال السنوات الماضية التي أعقبت سقوط بن علي، دائمًا ما كانت تونس تشهد في هذا اليوم احتفالات حاشدة في مناطق عدة، خاصة العاصمة، واحتجاجات أيضًا لمواطنين وسياسيين يرون أن حكومات الثورة لم تستجب لمطالب التونسيين ولم تحقق آمالهم.
هذه الاحتفالات، من المتعارف عليه أن يشارك فيها رئيس البلاد، كما في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وقبله الرئيس المنصف المرزوقي، فكلاهما كان يشارك التونسيين فرحتهم، حتى إن كان بشكل رمزي.
الاستثناء حدث في عهد الرئيس قيس سعيد، الذي وصل كرسي قرطاج في أكتوبر/تشرين الأول 2019، فقد قال صراحة إنه لا يعترف إلا بيوم 17 من ديسمبر/كانون الأول عيدًا للثورة، رغم أن تأسيس الجمهورية الثانية بدأ يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، بعد الإطاحة مباشرة بنظام زين العابدين بن علي.
استهان سعيد كثيرًا بعيد الثورة، وغيرها من الأعياد الوطنية، وعمل كثيرًا على التقليل من شأنها لغاية في نفس يعقوب، رغم أن الثورة وحدها أتاحت له الوصول إلى كرسي الحكم في قرطاج، لكن السؤال المطروح الآن: هل أفلح في ذلك وتمكن من مراده؟
“تحقير” لذكرى الثورة
في سياق استهانته واحتقاره لذكرى الثورة، استبدل قيس سعيد 14 يناير/كانون الثاني بـ17 ديسمبر/كانون الأول تاريخًا للاحتفال في كل عام بذكرى ثورة 2011، معتبرًا التاريخ الأول غير ملائم، وقال سعيد يوم 3 ديسمبر/كانون الأول 2021 في اجتماع وزاري في قرطاج: “يوم 17 ديسمبر هو يوم عيد الثورة وليس يوم 14 يناير كما تم الإعلان عن ذلك في العام 2011”.
برر سعيد قراره بقوله: “الانفجار الثوري انطلق من سيدي بوزيد، لكن للأسف تم احتواء الثورة حتى يتم إقصاء الشعب عن التعبير عن إرادته وعن الشعارات التي رفعها”، ويوافق يوم 17 ديسمبر/كانون الأول تاريخ إضرام محمد البوعزيزي النار في نفسه، بمدينة سيدي بوزيد، لتندلع تظاهرات شعبية أجبرت بن علي الرحيل نحو منفاه في السعودية.
أثبتت العديد من المؤشرات، ومنها “تحقيره” لعيد الثورة، أن الرئيس قيس سعيد يتعامل مع الشأن الوطني التونسي من منظور شخصي بعيدًا عن منطق المؤسسات والدولة
استهانة سعيد بعيد الثورة التونسية لم تبدأ حين تقلده كرسي الرئاسة، وإنما كانت منذ بداية ظهوره الإعلامي في أوائل سنة 2011، فقد كان يعتبر يوم 14 يناير/كانون الثاني انقلابًا على مطالب الشعب المعلنة في 17 ديسمبر/كانون الأول، وفق المحلل السياسي التونسي سعيد عطية.
يقول عطية في حديثه لنون بوست: “قيس سعيد كان يعلن باستمرار طيلة السنوات الماضية أن 14 يناير/كانون الثاني كانت لحظة اغتيال معنوي للانفجار الثوري كما يسميه، وكان واضحًا منذ دخوله قصر قرطاج أنه سيعمل على “تتفيه” تاريخ 14 يناير وتعظيم تاريخ 17 ديسمبر”.
منذ وصوله للرئاسة لم يشارك قيس سعيد بمراسم إحياء هذه المناسبة التي تحظى باهتمام التونسيين، كما لم يصدر عن الرئاسة “بلاغ تهنئة” للتونسيين، ولم يلق سعيد أي خطاب في الغرض، خلافًا لما دأب عليه قصر قرطاج.
معلوم في تونس، أن الاحتفال الرسمي بالأعياد الوطنية للدولة، هو عرف جاري العمل به، وأحد المراسم المتبعة منذ استقلال البلاد عن المستعمر الفرنسي في 20 من مارس/آذار 1956، ففي ذلك إحياء لقيم الوطنية والاستقلال والجمهورية لدى المواطنين، لكن للرئيس سعيد رأيًا آخر فيما يبدو.
أهداف كثيرة
أثبتت العديد من المؤشرات، ومنها “تحقيره” لعيد الثورة، أن الرئيس قيس سعيد يتعامل مع الشأن الوطني التونسي من منظور شخصي بعيدًا عن منطق المؤسسات والدولة، فهو يقدم الذاتي على المؤسساتي، سعيًا منه لإثبات ذاته.
أراد قيس سعيد من وراء ذلك، فرض رؤية خاصة له للأحداث تخالف ما يراه أغلب التونسيين منذ سنوات واتباع هواه بعيدًا عن انتظارات الشعب، ما يؤكد أنه لا يحترم الأنظمة المنظمة لمؤسسة الرئاسة وتاريخ البلاد.
يعتقد الناشط في المجتمع المدني يحيى بن عبد لله أن قيس سعيد يتعامل مع ذكرى الثورة من جانبين اثنين: “الأول وكأن الذكرى أصبحت عقدة لقيس سعيد لا نعلم سببها لعلها تذكره بأنه لم يكن جزءًا منها وهي الآن أحد الحجج التي يستعملها معارضوه ضده”.
يظن سعيد أن بعض القرارات والتحركات يمكن لها أن تمحي ببساطة ذكرى عزيزة على التونسيين، إلا أنه أخطأ الظن وفشل في مسعاه
أما الثاني وهو الأهم، وفق بن عبد لله، وهذا ما يثبته الواقع منذ 25 يوليو/تموز 2021 وحتى قبله “أن قيس سعيد يريد تغييب كل ما له صلة بالثورة تاريخًا وإنجازًا، ولعل الأوامر الرئاسية التي صدرت ومعها حل كل المؤسسات التي أفرزتها الثورة التي كانت أحد أهم التعبيرات عليها وعلى التحول الديمقراطي الجذري الذي عرفته تونس، خير دليل على ذلك”.
أضاف بن عبد لله في حديثه لنون بوست “سعيد يسعى منذ توليه الرئاسة لطمس هوية هذه اللحظة التاريخية لتونس وشعبها، في كل خطاباته في مثل هذه المناسبات، حتى يصنع لنفسه تاريخًا عجز عن صناعته زمن الديكتاتورية”.
فشل في مخططه
عدم اعتراف سعيد بعيد الثورة، يعتبر تنكرًا لتضحيات مئات التونسيين الذين سقطوا برصاص قوات الأمن خلال الثورة، علمًا بأن قوات الأمن قتلت 132 محتجًا وأصابت 4000، وفقًا للجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق عن التجاوزات والانتهاكات خلال الثورة.
لكنه لم ينجح في مسعاه وفشل في مبتغاه رغم المحاولات الكثيرة، وفقًا للنشاط المدني يحي بن عبد لله، الذي يقول لنون بوست: “ليس أدل على فشله في هذا الخيار، أكثر من الزخم الذي ما زال يحافظ عليه هذا اليوم وهذه الذكرى عند التونسيين”.
أشار بن عبد لله إلى المظاهرات والتحركات الشعبية التي تشهدها العاصمة تونس منذ صباح اليوم، ويشارك فيها كل الطيف السياسي التونسي تقريبًا بكل تنوعه، على رأسهم حركة النهضة للوقوف ضد محاولات محو هذه الذكرى.
كما أضاف “حركة التاريخ لا تعود للخلف ولا يمكن لأي كان أن يمحو فترة فارقة في تاريخ الشعب التونسي لا قيس سعيد ولا غيره.. ذكرى الثورة ذكرى عظيمة في تاريخ تونس حملت معها آمال وأحلام وطموحات وجاءت بدماء زكية لشهداء وطن ونضالات أبناء تونس الشرفاء”.
تابع بن عبد لله “سعيد لن ينجح في محو هذه الذكرى العزيزة على قلوب التونسيين ولن ينجح أيضًا في البناء على ركامها، فكما هو معلوم القول حذار فتحت الرماد اللهيب، وذاك هو قلب الثورة الذي لا يمكن المساس به”.
رغم الحضور الأمني الكبير وغلق أغلب المنافذ والطرقات وإلغاء العديد من الرحلات، خرجت – اليوم السبت – مظاهرات شعبية في العاصمة تونس إحياءً لذكرى الثورة، وتنديدًا بسياسات الرئيس قيس سعيد، وكان على رأس هذه المظاهرات جبهة الخلاص الوطني.
احتشد أنصار الجبهة – وهي أكبر تجمع للمعارضة – في قلب العاصمة في شارع الحبيب بورقيبة بقيادة رئيس الجبهة نجيب الشابي ومشاركة سياسيين، ورفع المحتجون لافتات تدعو إلى إنهاء الانقلاب ورحيل سعيد، معبرين عن رفضهم المساس بالحريات.
يظن سعيد أن بعض القرارات والتحركات يمكن لها أن تمحي ببساطة ذكرى عزيزة على التونسيين، إلا أنه أخطأ الظن وفشل في مسعاه كما فشل في غيره، وأدخل البلاد في جدال لا فائدة ترجى منه، سوى مزيد من تقسيم التونسيين.