شهد السوق المصري خلال الأيام الماضية حزمة من القرارات والإجراءات المالية والنقدية كان لها ارتداداتها السلبية على مؤشر الأداء العام في معظم المجالات والأنشطة الاقتصادية، ويأتي على رأسها سوق العقارات الذي يمثل نحو 60% من قيمة الاستثمار والإنتاج الكلي في الدولة.
البداية كانت في 22 ديسمبر/كانون الأول 2022 حين رفعت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري سعر الفائدة 800 نقطة أساس، تماشيًا مع التوجه العالمي العام لمواجهة التضخم وللحفاظ على السيولة النقدية والاستثمارات الأجنبية، أسوة بما فعله البنك الفيدرالي الأمريكي، وهي الخطوة التي أربكت السوق بشكل كبير لما ينطوي عليها من تبعات كارثية على خريطة الأسعار وحركة البيع والشراء.
الإجراء الثاني كان في 4 يناير/كانون الثاني 2023 حيث طرح بنكا الأهلي ومصر (أكبر بنكين حكوميين في البلاد)، شهادة ادخار جديدة بفائدة 25% لمدة عام، وهي الفائدة الأعلى على مستوى القطاع المصرفي المصري على مر تاريخه، في محاولة لامتصاص السيولة السوقية من أجل ضبط منظومة الأسعار والتحكم في فوضى الشراء، وقد أثارت تلك الخطوة تقدير العديد من الخبراء كونها تعالج نسبيًا تراجع قيمة العملة المحلية.
لكن بعد ساعات قليلة من الإعلان عن تلك الشهادات فوجئ الشارع المصري بتحريك جديد لسعر صرف العملة المحلية (الجنيه) حيث تراجعت قيمتها بنسبة 8% تقريبًا، وهو التعويم الثالث للجنيه خلال أقل من عام، فقد خلاله أكثر من 70% من قيمته الإجمالية خلال الفترة من مارس/آذار 2022 حتى يناير/كانون الثاني 2023.
الإجراءات الثلاث كان لها وقعها الكبير على سوق العقارات الذي يعد واحدًا من أكثر الأسواق تأثرًا بمثل تلك الإجراءات كونه مرتبطًا في كثير من مدخلاته ومخرجاته بالأسعار العالمية التي تتحكم في معظم مستلزماته المطلوبة، رغم أنه في الوقت ذاته من الأسواق الثابتة المستقرة التي تعد في مقدمة الملاذات الآمنة للادخار مع الذهب والعملات الأجنبية.. فأي مصير ينتظر هذا القطاع الذي يحتوي على أكثر من 36 ألف شركة، ويحتضن 40% من إجمالي سوق العمل في مصر البالغ 30 مليونًا، بعد الضربات المتتالية التي تعرض لها مؤخرًا؟
الوعاء الادخاري.. الملاذ الآمن
لا شك أن طرح شهادات ادخار بفائدة 25% سنويًا مسألة مغرية للكثير من المصريين، فتلك الفائدة تقارب إلى حد ماء نسبة الربح المتوقعة حال الانخراط في مشروع ما أو الاستثمار في أي من المجالات التقليدية، وهو المدخل الذي حاول المشرع المصري الدخول من خلاله بإصداره لهذا القرار.
أشرف حسن، مهندس مصري (45 عامًا) يرى أن 25% هامش ربح مقبول لإيداع المدخرات في البنوك، خاصة أن سوق الاقتصاد اليوم يعاني من أزمات كبيرة وركود غير مسبوق، ما يجعل الحصول على هذا المعدل في صورة أرباح مسألة غاية في الصعوبة إن لم تكن مستحيلة، وهو ما قد يدفع شريحة كبيرة من المواطنين لإيداع أموالهم في تلك المصارف بعيدًا عن استثمارها في العقارات أو الذهب كما هو معتاد.
وأوضح في حديثه لـ”نون بوست” أن الدولة تحاول جمع أكبر قدر ممكن من السيولة النقدية في السوق، على أمل وقف فوضى البيع وشره الشراء عند كثير من المصريين، ما يسهم في النهاية في زيادة أسعار السلع بهذا الشكل العشوائي في ظل فشل الحكومة في ممارسة الرقابة المنشودة للسيطرة على السوق.
التضخم وما أسفر عنه من قفزات جنونية في أسعار مواد البناء وإغراء الشارع بالفوائد المرتفعة والاضطرابات التي يعاني منها السوق العالمي وتراجع مدخرات المواطنين خلال السنوات الأخيرة والضربات السابقة التي تلقاها سوق العقارات، كل هذا كان له صداه القوي في إحداث حالة من الركود لهذا السوق الهائل
الرأي ذاته ذهب إليه حمدي سالم (50 عامًا) الذي يعمل تاجر ذهب، منوهًا أن الهدف من إعلان تلك الشهادات ذات العائد الكبير الذي سيكبد الحكومة خسائر فادحة لتدبير قيمة تلك الفوائد التي تمثل 25% من إجمالي المدخرات، هو دفع المواطنين لبيع ما يملكونه من عملات أجنبية من أجل شراء تلك الشهادات، على أمل أن تُسيل تلك الإجراءات لعابهم في الحصول على هامش ربح مرتفع يعوضهم نسبيًا عن فارق السعر بين السوق الرسمي للعملات والسوق الموازي (السوق السوداء).
غير أنه أوضح أن هذا القرار رغم مغرياته يحمل الكثير من المخاطر والشكوك بالنسبة للمواطنين وهو ما حدث مع التعويم الثالث للجنيه، حين فقد قرابة 8% من قيمته، ما يعني أن الفائدة الحاليّة على تلك الشهادات تساوي 17% فقط (25 – 8) مع الوضع في الاعتبار احتمالية تراجع قيمة الجنيه خلال الفترة المقبلة، إذ من الممكن بعد مرور عام، وهي الفترة الزمنية المخصصة لشهادة الادخار، لا يتجاوز معدل الربح 5% فقط أو 10% على أقصى تقدير، في ظل تأرجح سعر الصرف بين الحين والآخر، وهنا مصدر قلق الكثير من المصريين إزاء مثل هذا النوع من المغريات، وفق حديثه لـ”نون بوست”.
وبعيدًا عن جدلية تلك القرارات وتباين وجهات النظر إزائها، فإن سوق العقارات تأثر بها بشكل كبير، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل ميداني من خلال تراجع حركة البيع والشراء، وعزوف المواطنين عن التخلي عن سيولة مدخراتهم وإيداعها في استثمارات في ظل الوضع الاقتصادي المضطرب، والهزة التي تعرضت لها العقارات في مختلف دول العالم خلال الآونة الأخيرة.
زحمة البنك الأهلي المصري يوم الجمعة علشان شهادات ال 25% ? pic.twitter.com/WRpwRAGRxb
— Rania (@RaniaAbdallah) January 6, 2023
ركود وتضخم
التضخم وما أسفر عنه من قفزات جنونية في أسعار مواد البناء وإغراء الشارع بالفوائد المرتفعة والاضطرابات التي يعاني منها السوق العالمي وتراجع مدخرات المواطنين خلال السنوات الأخيرة والضربات السابقة التي تلقاها سوق العقارات، كل هذا كان له صداه القوي في إحداث حالة من الركود لهذا السوق الهائل.
يقول رضا الحجار، صاحب أحد المحاجز لبيع مواد البناء في محافظة الجيزة، إن العامين الماضيين تحديدًا تراجعت المبيعات بشكل لافت للنظر، مرجعًا ذلك إلى بعض القوانين والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفترة الماضية وعلى رأسها وقف أعمال البناء وفرض غرامات كبيرة على كل من يخالف هذا القرار.
وأوضح الحجار في حديثه لـ”نون بوست” أن حركة البيع والشراء في سوق العقارات خلال الفترة الماضية كانت مقتصرة على العقارات المبنية بالفعل، ومع ذلك تراجع الأداء بشكل كبير بسبب انخفاض حجم المدخرات ولجوء البعض إلى الاحتفاظ بما لديهم من سيولة خشية ما هو قادم في ظل المؤشرات والتقارير الدولية والمحلية التي تنذر من أن الفترات المقبلة قد تكون أسوأ مما مضى.
أكثر من نصف الشركات العاملة في المجال العقاري فقدت حصتها السوقية، ما دفع بعضها إلى البحث عن مجالات بديلة، أما الآخرون فلجأوا للعمل عبر الأبواب الخلفية، من الباطن، من أجل الوفاء بالتزاماتهم المالية
فيما ذكر المدير المسؤول بإحدى شركات توزيع الأسمنت في مصر، ياسر محمد، أنه منذ صدور قرار شهادات الادخار ذات العائد 25%، تراجعت مبيعاته بنسبة تقترب من 30%، إذ انخفضت المبيعات إلى الثلث في عشرة أيام فقط، بسبب اتجاه معظم المتعاملين في السوق العقاري إلى الوعاء الادخاري، وفق تصريحات صحفية له.
وكشف أن المضطر فقط هو من يتجه اليوم إلى شراء وحدة عقارية بغرض السكن، أما أصحاب التوجهات الاستثمارية فهناك حالة من النكوص والتراجع، بسبب الشهادات من جانب واضطراب سوق العقارات من جانب آخر، منوهًا أن الأمر هنا يشترك فيه المصريون في الداخل والخارج على حد سواء، فالعاملون في الخارج يسعون للاستفادة من فارق سعر العملة من خلال شهادات الادخار كنوع من الادخار الآمن، على حد قوله.
وأعرب عدد من المطورين العقاريين عن مخاوفهم من لجوء كثير من العاملين في هذا القطاع إلى تصفية أعمالهم وشركاتهم والبحث عن مجالات أخرى أقل نسبة في مخاطرها السوقية، وما لذلك من مخاطر اقتصادية واجتماعية مقلقة، وهو ما يمكن تلمسه بشكل واضح في غلق مئات الشركات العقارية خلال الأعوام الثلاث الأخيرة وتسريح الجزء الأكبر من العمالة بسبب حالة الجمود التي أصابت القطاع.
عصب الاقتصاد المصري على المحك
يبدو أن القادم بالنسبة للسوق الذي يحتضن أكثر من نصف العمالة المصرية ليس بالأفضل في ظل الأجواء الضبابية التي تخيم على سمائه وأرضه، فالمؤشرات العامة تتعارض وحالة التفاؤل التي يحاول البعض أن يمني نفسه بها، على أمل إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل انهيار عصب الاقتصاد الوطني المصري.
ما يتعرض له هذا السوق اليوم هو نتاج منطقي ومتوقع لسلسلة من الانهيارات (قرارات وإجراءات وقوانين) التي شهدتها السنوات الماضية، وكان من أبرزها تهديد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يناير/كانون الثاني 2022 بوقف البناء لمدة 10 سنوات، وحث المواطنين على إيداع أموالهم في البنوك، وهو التلويح الذي أحدث انقلابًا في القطاع ودفع الكثير من الشركات للتخارج قبل تكبد الخسائر.
وقبل هذا التهديد بعامين، وتحديدًا في منتصف 2020، كان إصدار السلطات المصرية لقرار منع تراخيص البناء لمدة 6 أشهر، سبقه ما سمي بـ”قانون التصالح في مخالفات البناء” الذي هدف إلى جمع عشرات المليارات من المواطنين بزعم البناء بالمخالفة دون الحصول على تراخيص، وهو القانون الذي زلزل القطاع برمته، وتراجعت الدولة عنه خلال الأشهر الماضية بشكل غير رسمي في ظل ردود الفعل القاسية من الشارع.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف أن أكثر من نصف الشركات العاملة في المجال العقاري فقدت حصتها السوقية، ما دفع بعضها إلى البحث عن مجالات بديلة، أما الآخرون فلجأوا للعمل عبر الأبواب الخلفية، من الباطن، من أجل الوفاء بالتزاماتهم المالية، حسب شهادات أدلى بها أصحاب بعض تلك الشركات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أزمة العقارات في حقيقتها أزمة عالمية، ضربت أكبر الأسواق العقارية في العالم منذ 2019 وحتى اليوم، بسبب جائحة كورونا ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أصيبت أسواق العقارات في أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا والسويد وألمانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية والصين بحالة من الركود الكبير الذي أثر على هذا السوق العملاق في العالم، بحسب التقارير الرسمية الصادرة عن مؤسسة “بلومبرغ” وغيرها.