ترجمة وتحرير: نون بوست
تتنقل المركبات ذاتية القيادة على خمسة أرصفة جديدة في ميناء تواس ميجا، الذي يقع على مساحة شاسعة من الأراضي المستصلحة في أغلبها في الطرف الغربي لسنغافورة، حيث تعمل الرافعات الآلية بينما تحيط بها طائرات دون طيار مزودة بكاميرا. هذه الأرصفة هي الأولى من بين 21 رصيفا ستبنى بحلول عام 2027. وعند اكتمالها في عام 2040، سيكون المجمع أكبر ميناء للحاويات على وجه الأرض، والذي تمتلكه شركة بي إس إيه انترناشيونال السنغافورية.
يمثّل ميناء تواس رؤية مستقبلية على جبهتين؛ إذ يوضح كيف يقوم مشغلو الموانئ في جميع أنحاء العالم بنشر تقنيات ذكية لتلبية الطلب على خدماتهم في مواجهة العقبات التي تحول دون تطوير مرافق جديدة، من نقص المساحة إلى المخاوف البيئية. والأهم من ذلك، أن استثمار الدولة المدينة، مع تكاليف البناء المقدرة بـ 15 مليار دولار، هو جزء من موجة من الرهانات الضخمة من قبل صناعة الخدمات اللوجستية الأوسع على الأهمية المتزايدة لآسيا وجنوب شرق آسيا على وجه الخصوص.
ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تكون أكبر خمسة اقتصادات في المنطقة؛ إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين وتايلاند، الكتلة الأسرع نموًا في العالم من حيث حجم التجارة بين سنتي 2022 و2027. ونتيجة لذلك؛ يتم إعادة رسم خريطة ومخططات عُقد التجارة العالمية المهمة في آن واحد.
يلاحظ جان بول رودريغ، أستاذ جغرافيا النقل في جامعة هوفسترا في لونغ آيلاند، أن التوسع في الموانئ البحرية أصبح أكثر صعوبة عبر الكوكب، إلى جانب ندرة توفر المساحات في المواقع المناسبة. في المقابل لا يتفق منتقدو التنمية، خاصة منهم دعاة حماية البيئة، مع ذلك. ففي العام الماضي، حظرت المحاكم توسعة كبيرة لميناء بيرايوس باليونان بسبب فشلها في تقديم التقييم الصحيح لتأثيرها البيئي، كما تم إيقاف عملية توسعة أخرى في فيراكروز بالمكسيك لأسباب بيئية أيضا.
يتمثل أحد الحلول في جعل الشبكات اللوجستية الحالية أكثر كفاءة عوضا عن توسيعها أكثر؛ ففي نيسان/أبريل، أنهت شركة بي إس إيه إنترناشيونال عمليّة شراء شركة بي دي بي إنترناشيونال، وهي شركة شحن أمريكية متخصصة في إدارة سلسلة التوريد، مقابل مبلغ لم تكشف عنه (وقد ورد أن مالكها السابق للأسهم الخاصة كان يريد 1.5 مليار دولار).
على مدار العامين الماضيين؛ اشترت شركة دي بي ورلد، وهي شركة إماراتية لتشغيل الموانئ، اثنين من المتخصصين في سلسلة التوريد: شركة إمبريال لوجستيكس، وهي شركة من جنوب أفريقيا، مقابل 890 مليون دولار، وشركة سينكريون الأمريكية، مقابل 1.2 مليار دولار.
ومع ذلك؛ فإن توحيد سلاسل التوريد لا يحقق سوى القليل. ففي مرحلة ما، ستكون هناك حاجة إلى توفير سعة جديدة؛ حيث تتمثل إحدى طرق تحقيق ذلك في استصلاح الأرض من البحر، وهذا يتطلب إنجازات في الهندسة المدنية وتكلفة باهظة، فقد أنفقت هيئة الملاحة البحرية والموانئ في سنغافورة حوالي 1.8 مليار دولار على بناء الأرض في البحر كمرحلة أولى من منشأة تواس الجديدة. وقد كلف توسع ميناء ماسفلاكت الضخم – وهو الذي افتتحت المرحلة الثانية منه في عام 2015، حوالي 2.9 مليار يورو (3.1 مليار دولار)، وهو ما يماثل تكلفة ميناء روتردام، وهو مشروع مملوك بشكل مشترك من قبل الدولة الهولندية وحكومة المدينة.
أحيانا ما تكون العديد من الموانئ عميقة للغاية بحيث لا يكون استصلاح الأراضي قابلا للتطبيق فيها، لذلك قرر البعض التوسع عموديا. خلال عمليات البناء التقليدية، من غير العملي تكديس أكثر من ست حاويات فوق بعضها البعض، وفي حال تكديسها بذلك الشكل سيتطلب الأمر تحريك الحاويات باستمرار لإخراج الحاوية الصحيحة.
قال ماتياس دوبنر، الرئيس التنفيذي لبوكس باي، وهو مشروع مشترك بين دي بي ورلد ومجموعة إس إم إس، وهي شركة هندسية، إن عملية تحريك الحاويات قد تستغرق وقتًا أطول من نقل الحاويات فعليًا حول الميناء وعلى السفن. وفي نظام التخزين “هاي باي” الخاص ببوكس باي، توضع كل حاوية في رف فردي، حيث يمكن للرافعات الآلية إخراجها بشكل فردي، وفي ميناء جبل علي بدبي، الذي تديره شركة دي بي ورلد، يتيح ذلك تكديس 11 حاوية فوق بعضها البعض.
وفي حال لم يكن البناء الأفقي أو العمودي ممكنًا، هناك خيار آخر وهو البناء في مكان آخر، وهذا ما يفسر تزايد شعبية “الموانئ الجافة” الداخلية، التي توضع فيها البضائع في حاويات في وقت مبكر، وتكون جاهزة للتحميل على السفن عند وصولها إلى الرصيف دون الحاجة إلى تخزينها لعدة أيام في الميناء، مما من شأنه أن يخفف أيضًا من ازدحام المحطات.
على بعد حوالي 150 كم (90 ميلًا) من ساحل كاليفورنيا، في صحراء موهافي، قامت شركة بايونير بارتنرز، وهي شركة استثمارية، بتأمين الأرض والتصاريح لبناء مثل هذا المرفق لتخفيف الازدحام في موانئ لوس أنجلوس ولونغ بيتش غير الفعالة.
وفي عام 2016 دخلت شركة بي إس إيه إنترناشيونال مشروعا مشتركًا مع مشغلي السكك الحديدية المملوكة للدولة في الصين لتشغيل شبكة من الموانئ الجافة في الصين؛ حيث يقوم المصنعون بتحميل البضائع على القطارات في واحدة من بين 13 محطة سكة حديد داخلية لنقلها إلى الساحل، حيث إن بعض هذه المحطات بعيدة نوعا ما عن أي خط ساحلي.
وتبعد أورومتشي التابعة لمقاطعة سنجان عن البحر أكثر من أي مدينة أخرى في العالم، إذ تقع على بعد حوالي 2400 كيلومتر من خليج البنغال. وفي عام 2022، وقعت مؤسسة التمويل الدولية، التي تعدّ ذراع القطاع الخاص للبنك الدولي، اتفاقية مع شركة لوجستية سنغافورية أخرى، وهي مجموعة واي سي آيتش، ومجموعة تي أند تي، وهي تكتل فيتنامي، وذلك لتطوير مستودع حاويات داخلي بقيمة 300 مليون دولار في فينه فوك، في شمال فيتنام. وسينطلق المشروع، المعروف باسم فيتنام سوبر بورت، في عام 2024، مما يوفر بعض الراحة المنتظرة في بلد ارتفعت فيه الصادرات بسرعة أكبر بكثير من الاستثمارات اللوجستية الداخلية.
وتشير جميع عمليات تطوير الموانئ الجافة في آسيا إلى القوة الثانية التي تعيد تشكيل أعمال الموانئ: وتحول مركز ثقلها شرقا. فلعقود من الزمان؛ كانت التجارة الآسيوية تميل إلى أن تكون في اتجاه واحد؛ حيث لطالما أبحرت الحاويات المحملة بالبضائع المصنعة من قبل العمالة الرخيصة في القارة إلى الاقتصادات المتقدمة وعادت فارغة في أغلب الوقت. وفي أواخر التسعينيات؛ ذهب أكثر من 70 بالمئة من الصادرات الآسيوية من حيث القيمة إلى أجزاء أخرى من العالم. وبعد مرور ربع قرن؛ وبفضل تلك التدفقات التجارية وسلاسل التوريد الأكثر تعقيدًا، تحوّلت الاقتصادات الآسيوية إلى أسواق كبرى، واليوم، يتدفق ما يقارب 60 بالمئة من صادرات آسيا داخل المنطقة.
إن صناعة الخدمات اللوجستية، مثل بي إس آي مع تواس، تخلق رهانًا طويل المدى على أن هذه الحصة ستنمو. ولقد نمت الاستثمارات اللوجستية بالفعل في كل مكان خلال الطفرة في التجارة الإلكترونية أثناء الوباء، والتي تضخمت بشكل هائل في آسيا. وتتوقع سي بي آر إي غروب، وهي شركة استشارية عقارية، أن آسيا (بما في ذلك الصين) ستشكل 90 بالمئة من النمو في التسوق العالمي عبر الإنترنت بين سنتي 2021 و2026، مما سيتطلب توفير ما يصل إلى 130 مليون متر مربع من العقارات اللوجستية الجديدة.
لقد بدأ الاستثمار في مستودعات التخزين ومراكز التوزيع والتنفيذ في الازدهار بالفعل في المنطقة؛ ففي العام الماضي أعلنت شركة جي إل بي الاستثمارية السنغافورية المتخصصة في العقارات اللوجستية، عن إنشاء صندوق بقيمة 1.1 مليار دولار يركز على فيتنام وصندوق بقيمة 3.7 مليار دولار يركز على اليابان، بينما أغلقت صندوقها السادس في الصين، الذي تبلغ قيمته مليار دولار، في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر.
ومن المرجح أن تحصل الهند على دفعة؛ حيث يتطلع المصنعون العالميون إلى تنويع إنتاجهم بعيدًا عن الصين، وتشمل أعمال الموانئ التابعة لأغنى رجل أعمال في الهند، غوتام أداني، ميناء موندرا في ولاية غوجارات، وهو أكبر ميناء في البلاد، إلى جانب 12 ميناء ومحطة أخرى موزعة على سبع ولايات هندية.، وقد ارتفعت أحجام البضائع السنوية المجمعة من 200 مليون طن قبل ثلاث سنوات إلى 300 مليون طن في سنة 2022. ويهدف السيد أداني إلى إنتاج 500 مليون طن بحلول سنة 2025.
تتجه استثمارات عمالقة الشحن نحو نفس الاتجاه الشرقي، وفي تشرين الأول/أكتوبر، بينما كانت أسعار الشحن العالمية تنخفض مع تخفيف آثار الصعوبات في فترة الوباء، أعلنت شركة البحر المتوسط للشحن، وهي أكبر شركة في العالم من حيث السعة الإجمالية، عن إطلاق خمس خدمات جديدة داخل آسيا. وقبل ثلاثة أشهر؛ أعلنت الشركة عن مشروع مشترك بقيمة 6 مليارات دولار مع حكومة مدينة هوشي منه لبناء ميناء فيها بحلول سنة 2027، والذي سيكون أكبر ميناء في فيتنام عند اكتماله.
وفي آب/أغسطس؛ أكملت شركة آي بي مولار-ميرسك، وهي أكبر منافس لشركة البحر المتوسط للشحن، صفقة بقيمة 3.6 مليارات دولار لشركة إل إف لوجيستكس، وهي شركة مقرها هونغ كونغ تركز على التجارة البينية الآسيوية؛ حيث مكنت الصفقة من تحويل 223 مستودعا و10000 موظف في جميع أنحاء القارة تحت إدارة عملاق الشحن الدنماركي، مع التركيز الواضح على المستهلكين الآسيويين.
عندما ازدهرت التجارة البحرية في القرن الماضي؛ عكست الاستثمارات في الخدمات اللوجستية التحولات في الأنماط العالمية نحو الإنتاج والاستهلاك. واليوم يفعلون ذلك مرة أخرى، وهذه المرة يبدو المستقبل أصغر حجمًا وأكثر ذكاءً وأكثر انفتاحا على الشرق.
المصدر: ذي إيكونوميست