مدحه العز بن عبد السلام، فقال في حقه: “ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل “المحلى” لابن حزم و”المغنى” لابن قدامة”، وسار على نهجه جلال الدين السيوطي حين وصفه بأنه “كان صاحب فنون وورع وزهد وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار”.
وعلى الجهة المقابلة انتقده ابن تيمية، فقال عنه: “وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيمًا له ولأهله من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى”.
أما أبو بكر بن العربي، فسلّط سهام نقده الحامية تجاهه: “وجدت القول بالظاهر قد ملأ به المغربَ سخيفٌ كان من بادية إشبيلية يعرف بابن حزم، نشأ وتعلق بمذهب الشافعي، ثم انتسب إلى داود، ثم خلع الكل، واستقل بنفسه، وزعم أنه إمام الأمة يضع ويرفع، ويحكم ويشرع، ينسب إلى دين الله ما ليس فيه”.
لم يذكر التاريخ الإسلامي عالمًا انقسم الأئمة بشأنه كما هو الحال مع أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الأندلسي القرطبي، المعروف بـ”ابن حزم” المولود في قرطبة في الأندلس في 30 رمضان 384هـ/ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 994م، وتوفي 28 شعبان 456هـ/ 15 أغسطس/ آب 1064م.
كان الإمام ابن حزم نابغة عصره، وفهّامة زمانه، كما لقّبه أقرانه من الأئمة والعلماء، غير أنه ارتأى أن يغرّد بعيدًا خارج السرب الأندلسي، فتبنّى مذهبًا حديث عهد على الأندلسيين، هو المذهب الظاهري، في وقت كان المذهب المالكي هو المهيمن بأمر السلطان.
واُعتبر هذا شذوذًا من قبل البعض وتطويرًا فكريًّا حضاريًّا من قبل آخرين، لذا تأتي الكتابات عنه متأرجحة بين المدح حد التقديس والانتقاد حد التسطيح والتطاول وتبرُّؤ تلامذته منه، فماذا نعرف عن شمس العلوم، صاحب أول مشروع متكامل لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي من فقه وأصول؟
نشأة مترفة
قبل نهاية رمضان عام 384هـ، شهدت قرطبة ميلاد واحد من نوابغها العظام، ذلك الطفل الذي تربّى وترعرع في كنف الترف والرخاء، حيث قصر أبيه أحمد بن سعيد الذي كان وزيرًا ضمن وزراء مستشار الخلافة الأموية، أبو عامر محمد بن أبي عامر، الملقب بالحاجب المنصور، حاجب الخليفة هشام المؤيد بالله والحاكم الفعلي للخلافة.
واتسمت أسرة ابن حزم بالعراقة والأصالة، فهذا جدّه يزيد بن أبي سفيان الذي شارك في عدد من الفتوحات الإسلامية في الشام، كما كان للأسرة ملك عظيم في الأندلس، حيث كانوا يملكون قرية بأكملها هي “منت ليشم” المعروفة بمونتيخار حاليًّا، وهي محل ميلاد ووفاة العلامة الأندلسي.
لم تنقل كتب التاريخ عن والدة ابن حزم وزوجته وأشقائه شيئًا من المعلومات الدقيقة، فكانت معظمها اجتهادًا يفتقد للحدّ الأدنى من التحري، ومن ثم لم تكن بالثقة الكبيرة من الباحثين أن يتناقلوها، فظلت سيرتهم مجهولة إلى حد كبير، أما عن سلالته فيقول ابن حزم عن نفسه إنه من سلالة فارسية، ورغم هذا الاعتراف إلا أن البعض شكّك فيه، كما هو حال جابر بن حيان الذي مال إلى أن سلالة الإمام إشبيليّة وليست فارسية.
تربّى أبو محمد على يد جواري قصر والده الوزير وقصر حاجب الخليفة الذي دناه منه بداية الأمر هو ووالده، فنشأ سنواته الأولى لا يختلط بالرجال حتى صار شابًّا يافعًا، وهو ما فسّره العلماء كأحد الأسباب التي دفعته إلى عدم ذكر أي من المعلومات الخاصة بوالدته وزوجته من باب الغيرة عليهما، وإن كانت تلك الرواية ليس لها سند تأريخي يؤكدها أو ينفيها، غير أنها ترددت بين أقوال عدد من الباحثين والمؤرّخين.
نهم التعلُّم
من حسن حظ أبو محمد أنه نشأ في أوج ازدهار قرطبة علمًا وحضارة، فكانت الأندلس في ذلك الوقت عاصمة الحضارة الإنسانية، وكانت الوِرَاقة وصناعة الكتب والتأليف أبرز تجاراتها الرائجة، وكان أهل العلم وطلابه ذوي مكانة مرموقة من العامة والسلطة معًا، ومن ثم توفرت البيئة الخصبة للنبوغ والتفوق والتعلم.
يقول الإمام في مؤلفاته إنه تلقى تعليمه الأولي على يد جواري القصر، فهنّ من أحببنه في العلم والتعلم، ودفعنه نحو تنمية قدراته وتوسعة دائرة معارفه من العلوم، فبدأ بالاطّلاع على كافة العلوم ثم درس العلوم الشرعية ومعها علم اللسان والبلاغة والشعر والسِّيَر والأخبار، وكان من فطاحل الأندلس فيها وفق شهادات مشايخه وتلامذته.
وباستطلاع قائمة مشايخ ابن حزم، يمكن التعرُّف إلى حجم نبوغه وتفوقه، حيث كان تلميذًا لأفضل مشايخ الأندلس وأكبر علمائها، ممّن درّسوه العلوم الفقهية والتاريخ والفلسفة والطب، ومن أبرز تلك الأسماء أحمد بن محمد بن سعيد بن الجسور القرطبي، الإمام مسعود بن سليمان بن مفلت الشنتريني القرطبي المعروف بأبي الخيار القاضي، والعلامة أبو بكر حمام بن أحمد الأطروش القرطبي.
وهناك آخرون ممّن شُهد لهم بالعلم والثقة والنبوغ مثل أبو علي الحسين بن سلمون محمد بن الحسن الرازي الصوفي، ومحمد بن سعيد بن نبات أبو الفتوح، وثابت بن محمد الجرجاني العدوي، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الكناني القرطبي، وأبو عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري قاضي بلنسية، وأبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس.
وفي أحضان تلك الكوكبة العلمية التي أنارت سماء الأندلس بأشعّة العلم المشرقة لعشرات السنين، خرج ذلك النور القرطبي الذي وصفه المؤرّخ صاعد الأندلسي، حسبما نقل عنه الإمام شمس الدين الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء“: “كان ابن حزم أجمعَ أهلِ الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعَهم معرفة، مع توسّعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسِّيَر والأخبار”.
وتعددت مفاتيح نبوغ ابن حزم منذ الصغر، فرغم بعض الروايات التي تقول إنه تلقّى العلم وهو في سنٍّ متأخرة (هناك أقاويل تشير إلى أنه لم يبدأ تلقي العلم إلا في سن الـ 26 عامًا)، إلا أنه لم يكن هناك ما يثبت ذلك، وكان يتمتع الإمام بمجموعة من الدوافع والأسباب التي أوصلته إلى تلك المرحلة النورانية من النبوغ، منها كما أشار الباحثون استعداده الفطري، وهو ما يعني أنه تلقى العلم صغيرًا، كذلك ما كان يتمتع به من حافظة قوية وذاكرة فولاذية حيث كان سريع الحفظ قليل النسيان، إضافة إلى تعلُّقه الشديد بالعلم والتعلم غير مستكبر رغم وجاهته ومكانته، فهو ابن وزير وتقلّد منصب الوزارة عدة أشهر.
صراع السياسة والفقه
لا يمكن الحديث عن إسهامات ابن جزم بمعزل عن السياق العام الذي عايشه في ريعان شبابه، حيث كانت تعاني الدولة الأموية من صراع سياسي مدمّر، نزاع على السلطة بين الأمراء، وصل إلى حد إطلاق الناس على 3 أمراء في الوقت نفسه لقب “أمير المؤمنين”، ما يعكس حالة التشرذم التي كان عليها الشارع الأندلسي آنذاك.
وفي كتابه “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة“، ينقل أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني عن ابن حيان الأندلسي الذي عاصر ابن حزم، واصفًا المشهد العلمي الذي كان سائدًا في الأندلس وقرطبة في ذلك الوقت، قائلًا: “ولم تزل آفة الناس -مذ خُلقوا- في صنفين منهم، هم كالملح فيهم: الأمراء والفقهاء.. فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن الطريق.. والفقهاء أئمتهم صُموتٌ عنهم، صُدوفٌ عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، وقد أصبحوا بين آكل من حلوائهم خائض في أهوائهم، ومُستشعِرٍ مخافتَهم.. وأولئك هم الأقلون”.
كان أهل العلم في ذلك الوقت في ركاب السلطة، وإن شئت دقة فقل هم “علماء السلطان”، كانوا لا يتورّعون عن مناصرة الحاكم أيًّا كانت المسألة، حتى أنهم اقتصروا في دراستهم وتعليمهم على كتب الفروع وتركوا الأصول، ما قادهم في النهاية إلى هذا المسار من التسطيح الذي انتقل بطبيعة الحال إلى طلبة العلم والمشهد العلمي برمّته.
وفي ظل هذا الجمود الذي خيّم على الساحة، أصيب الاجتهاد بحالة من الشلل التام، ليمارس المذهب المالكي سلطته المطلقة، متحولًا إلى المذهب الرسمي للأندلس بأمر السلطان وحاشيته وعلمائه وفقهائه، ومن كان يتبنّى غيره مذهبًا كان يعرّض نفسه للعقوبة، ما أحدث حالة من الروتينية الفقهية التي أعادت الأندلس سنوات إلى الخلف بعدما كانت منارة التعدد والاجتهاد البنّاء.
ويحكي لنا القاضي المالكي أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي (توفي 544هـ) في موسوعته ثُمانية المجلدات “ترتيب المدارك وتقريب المسالك“، كيف دخل المذهب المالكي إلى الأندلس وكيف تمَّ تعميمه بأوامر السلطان، قائلًا: “أما أهل الأندلس فكان رأيهم -منذ فُتحت [البلاد]- على رأي الأوزاعي (ت 157هـ/ 775م)، إلى أن رحل إلى مالكٍ [تلامذتُه]: زياد بن عبد الرحمن (الملقب “شَبَطون” ت 193هـ/ 209م)، وقِـرْعوس بن العباس (ت 220هـ/ 835م)، والغازي بن قيس (ت 199هـ/ 815م) ومَن بَعدهم؛ فجاؤوا بعلمه وأبانوا للناس فضله واقتداءَ الأمّة به، فعُرف حقه ودُرّس مذهبه، إلى أن أخذ أمير الأندلس -إذ ذاك- هشام بن عبد الرحمن [الداخل] بن معاوية (ت 180هـ/ 796م).. الناس جميعًا بالتزامهم مذهب مالك، وصيّر القضاء والفتيا عليه”.
في تلك الأثناء ما كان أحد يجرؤ على التغريد خارج السرب المرسوم بأوامر السلطان وحاشيته المعمّمة، وكان الحديث عن مخالفة المالكية جريمة يؤخذ صاحبها بالنواصي والأقدام، جريمة سياسية قبل أن تكون جريمة فقهية.
وفي تلك البيئة الطاردة لأي نبوغ أو اجتهاد كان لا بدَّ من كسر هذا الحصار وإحداث انقلاب كامل يعيد الأمور إلى نصابها، ويعيد قرطبة إلى سابق عهدها حين كانت قبلة العلماء وطلاب العلم من كل حدب وصوب، وهي التي قال عنها ابن بسام الشنتريني في كتابه “الذخيرة”: “وحضرة قرطبة منذ استفتحت الجزيرة، هي كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأم القرى، وقرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أولي العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم، وقبّة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمرة الخواطر”.
وصل المذهب الفقهي في الدولة الأموية الأندلسية مبلغًا لم يصل إليه مذهب آخر، وهو ما تؤصله “ثروة الربض” عام 817م، تلك الثورة التي نشبت بين فقهاء المالكية والنظام الأموي، وأسفرت في النهاية عن عقد تحالف بين الدولة والمالكية بعدما باتت ذات نفوذ لا يمكن مقاومته، لتصبح بهذا التحالف كما يسميها البعض “ذات حصانة دستورية” لا يمكن الافتئات عليها من أي أحد، حتى من كبار العلماء، بل إن من يحيد عن هذا المذهب يُرمى بالابتداع والضلال.
وقد نقل القاضي عياض اليحصبي في موسوعته “ترتيب المدارك” عن الأمير الأموي الحكم المستنصر (915-977م) أنه كتب رسالة جاء فيها أن “كلّ مَن زاغ عن مذهب مالك فإنه ممن رِينَ (= طُبِع) على قلبه، وزُيِّن له سوء عمله”.
مؤسّس المدرسة الظاهرية في الأندلس
ارتأى ابن حزم أن يكون الاستثناء في هذا السياق المفعم بالسُّحب الرمادية، فأعلن تمرّده على فرض مذهب بعينه قهرًا وإجبارًا، واصفًا أن الأمر لو كان بأيدي الفقهاء وإجماع العلماء ورغبة المسلمين لكان الأمر مقبولًا، لكن أن تكون المسألة فوقية وتعليمات من السلطان موجبة التنفيذ، فهذا يتعارض مع روح الإسلام ومرونة فقهه.
وأشار أبو محمد في كثير من رسائله إلى أن المالكية والحنفية مذهبان بدأ أمرهما بالرياسة والسلطان، الحنفية على يد القاضي أبو يوسف (توفي عام 798م) حيث كان لا يولي قاضيًا إلا من يعتنق الحنفية، والمالكية في الأندلس، إذ كان لا يولي قاضٍ إلا بمشورة يحيى بن يحيى الليثي المالكي (توفي عام 848م) الذي كان مقرّبًا من السلطان.
ومن هذا الرحم المظلم أدخل ابن حزم المذهب الظاهري، شاهرًا إياه في وجه فقهاء المالكية الأندلسيين، هذا المذهب الذي ينادي بالعودة إلى الأصول متمسكًا بالقرآن والسنّة كمصدرَين وحيدَين للتشريع، وما عداهما من الأمور تعتبَر ظنية (كالرأي والقياس واستحسان ومصالح مرسلة وسد الذرائع وشرع من قبلنا…)، وتسعى المدرسة الظاهرية إلى تقرير مراد الله من العباد في اتّباع البراهين المثبتة من كتاب الله وسنّة نبيه وإجماع الصحابة.
كما طالب ابن حزم بفتح باب الاجتهاد والتخلُّص من التقليد الأعمى، والبُعد عن الرؤى والأفكار والفتاوى غير المستندة إلى الأصول الدينية ومصادر التشريع الثابتة، وهو ما أثار حفيظة المالكيين بشكل دفعهم إلى استهداف أبو محمد، فكالوا التهم والسباب والشتائم وخاضوا في فكره وعقله ورزانته، بل اتُّهم أحيانًا بالزندقة والخروج من الملة.
المخالفون للظاهرية يتّهمون أنصارها بأنهم اخترعوا هذا المنهج لتحقيق أهداف خاصة، وأنهم خالفوا جماهير علماء الإسلام، بل إن منهم من يخرجهم من علماء المسلمين، وهو ما دفع ابن حزم إلى الدفاع عن مذهبه مستخدمًا كل ما أوتي من قوة وبلاغة، حتى أنهم شبّهوه في قسوته في الدفاع عنه بـ”الحجاج بن يوسف الثقفي”.
موسوعة تمشي على الأرض
قبل أن يصبح ابن حزم مستهدَفًا من فقهاء المالكية، ذاق نفوذ السلطة حين تولى الوزارة في بلنسية في عهد المرتضى، بدايات القرن الخامس الهجري، غير أنه وقع في الأسر ثم أُطلق سراحه بعد ذلك ليعود إلى قرطبة لتولي الوزارة لصديقه عبد الرحمن المستظهر عام 412هـ، إلا أنه لم يستمرَّ في منصبه سوى شهر ونصف فقط، حيث قُتل الحاكم وسُجن ابن حزم ثانية ثم أُفرج عنه، متوليًّا الوزارة للمرة الثالثة في حياته أيام هشام المعتد لمدة 4 سنوات فترة 418-422هـ.
كان أبو محمد موسوعة تمشي على الأرض، بحر علم لا ينضب أبدًا، أثرى الحضارة الإنسانية بإسهاماته الفقهية الجلية عبر عشرات المؤلفات الموسوعية التي ظلت حتى اليوم مرجعية موثوقة لدى العلماء والباحثين، كانت تتميز بالثراء والشمول، فلا يكاد يخلو علم دون أن يدوّن فيه كتاب أو على الأقل رسالة.
ومن أبرز مؤلفاته كتاب “الفِصَل في المِلَلْ والأهواء والنِّحَل”، وكتاب “طوق الحمامة” وكتاب “جمهرة أنساب العرب” وكتاب “نُقَطُ العروس”، وكتاب “التحقيق في نقض كلام الرازي”، وكتاب “التزهيد في بعض كتاب الفريد”، وكتاب “اليقين في النقض على عطاف في كتابه عمدة الأبرار”، وكتاب “النقض على عبد الحق الصقلي”، وكتاب “زجر العاوي وإخسائه ودحر الغاوي وإخزائه”، وكتاب “رواية أبان يزيد العطار عن عاصم”.
وفي التصنيف له كتاب “التقريب في بيان حدود الكلام وكيفية إقامة البرهان”، وكتاب “الأخلاق والسير”، وكتاب “الفصل بين النحل والملل”، وكتاب “الدرة في الاعتقاد”، كما ألّف كتاب “النبذ في الأصول”، وكتاب “النكت الموجزة في إبطال القياس والتعليل والرأي”، وكتاب “النقض على أبي العباس بن سريج”، وكتاب “الرد على المالكية”، وكتاب “الاتصال في شرح كتاب الخصال”، وكتاب “المحلى”، وكتاب “المعلى في شرح المحلى”.
استطاع ابن حزم أن يقدم نموذجًا بارعًا في الجرأة والشجاعة دفاعًا عن رؤية أو موقف، متحديًا كافة الصعاب والعراقيل، مستندًا إلى علم وثيق بأصول الدين وثوابته.
قال عنه العلامة جلال الدين السيوطي: “كان صاحب فنون وورع وزهد وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار”، فيما مدحه ابن كثير بقوله إنه “قرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية وبرز فيها، وفاق أهل زمانه وصنف الكتب المشهورة”.
وقال عنه ابن العماد الحنبلي: “كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنّة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر مع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب”، أما الإمام شمس الدين الذهبي فوصفه بأنه “الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف (…) الفقيه الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير الظاهري، صاحب التصانيف”.
ورغم هذا التاريخ الممتد من صراع الفقه والسياسة، لم ينسَ ابن حزم حظ قلبه من تلك السنوات الطوال، فذاق لوعة الحب والفراق، فيصف حبه الشديد لتلك الجارية التي كانت تسمّى “نَعم” وولعه لفراقها، قائلًا “إني كُنتُ أشدّ الناس كلفًا وأعظمهم حُبًّا بجارية لي كانت فيما خلا اسمها نَعم، وكانت أُمنية المتمني، وغَاية الحُسن خُلقًا وخَلقًا وموافقة لي، وكنا قد تكافأنا المودّة، ففجَعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسِنّي حين وفاتها دُون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمتُ بعدها سبعة أشهر لا أتجردُ عن ثيابي، ولا تفتُر لي دَمعة على جُمود عيني”.
وعن عشقه لجارية أخرى، يقول كما ورد في كتابه السيري “طوق الحمامة“: “إني لأخبرُ عني أني ألفتُ في أيام صباي ألفة المحبة جارية نشأَت في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عامًا، وكانت غاية في حُسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، بديعة البِشْر، مُسْبلة السِّتر، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب، دائمة القُطوب، كثيرة الوقار، مستلذَّة النّفار، لا توجه الأراجي نحوها، ولا تقفُ المطامع عليها، ولا معرس للأمل لديها، فوجهها جالب كل القلوب، وحالها طارد من أمها… موقوفة على الجد في أمرها غير راغبة في اللهو، على أنها كانت تُحسن العود إحسانًا جيدًا، فجنحت إليها وأحببتها حبًّا مفرطًا شديدًا، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة، غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة”.
ونجح ابن حزم في هزيمة صناديد الجمود الفكري والفقهي في الأندلس، فاتحًا الباب على مصراعيه أمام الاجتهاد والتطوير وفق الأصول، حيث خاض عشرات المعارك مع أئمة المالكية من الأقزام فكرًا، المتشبّثين بالنمطية، المغلقين لباب الاجتهاد، المتزلفين للحاكم، المتربّحين من مناصبهم، وهو ما أوغر صدورهم تجاهه، فألّبوا عليه المعتضد بن عباد أمير إشبيلية الذي أصدر قرارًا بهدم منزله وحرق كتبه ومصادرة أمواله، وفرض عليه إقامة جبرية في بلدته منت ليشم التي وُلد فيها حتى وافته المنية عام 1064م.
شعر فقهاء الأندلس بعد حرق كتب ابن حزم بالخزي والعار وتأنيب الضمير، الشعور ذاته انتقل إلى بعض السلاطين، ورغم أن تلامذة الإمام نجحوا في إنقاذ العديد من مؤلفاته، إلا أن أغلبها دُمّر في المحرقة التي أطاحت بمنزله، لتظل تلك الجريمة وصمة عار في تاريخ الأندلس وقرطبة حتى اليوم.
وبعد عقود من موته حكم الأندلس دولة الموحدين (1121م-1269م) وخرج من بينهم سلطانًا يُدعى المنصور يعقوب الموحدي (توفى عام 1199م)، وكان معجبًا بابن حزم ومؤلفاته وشجاعته في مواجهة فقهاء السلطان، وقد رُوي عنه أنه وقف على قبر أبو محمد قائلًا: “كل العلماء عيال على ابن حزم”.
وأراد هذا السلطان أن يردَّ اعتبار ابن حزم بعد وفاته ممّن ظلموه في حياته وانتقموا منه وأحرقوا بيته وأجبروه على عدم الخروج من قريته حتى مات فيها، ففرض المذهب الظاهري على أهل الأندلس عام 1195م، وحرق كتب المذهب المالكي بأكملها في الأندلس والمغرب، ثأرًا وأسوة بما فُعل مع أبو محمد.
وفي النهاية، استطاع ابن حزم أن يقدّم نموذجًا بارعًا في الجرأة والشجاعة دفاعًا عن رؤية أو موقف، متحديًا كافة الصعاب والعراقيل، مستندًا إلى علم وثيق بأصول الدين وثوابته، مؤكدًا على أن العلم هو السلاح البتّار في مواجهة الجهلاء، تاركًا خلفه إرثًا من العلم والثقافة قلّما جاد به الزمان، ليستحقّ وعن جدارة لقب “منجنيق العرب” كما وصفه العلّامة ابن القيم الجوزي.