نشرت مؤسسة (U.S. News and World Report) في أكتوبر الماضي تقريرها السنوي عن ترتيب الجامعات حول العالم، هذا التقرير هو وسيلة لقياس المستوى العلمي للجامعات عن طريق تقدير مدى انتشار أبحاثها ومنشوراتها وحساب سمعتها بشكل عام، وكالعادة احتل قسم الرياضيات بجامعة بيركلي بالولايات المتحدة المركز الأول على مستوى التخصص، إلا أن الغرابة تأتي من التالي: فقد احتل قسم الرياضيات بجامعة الملك عبد العزيز بجدة المركز الثالث؛ أي أن هذا القسم قد تم اقتباس ومشاركة أبحاثه في مجال الرياضيات أكثر من أقسام الرياضيات بجامعة برينستون ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
كان هذا غريبًا بعض الشيء، خصيصًا وأن هاتين الجامعتين قد أنتجت إحداهما المعادلات الرياضية اللازمة لتصنيع القنبلة النووية والأخرى قد وصلت نسبة البطالة بين خريجيها إلى صفر بالمائة، بينما لم يكن هناك برنامج لدراسة الدكتوراة بتخصص الرياضيات بجامعة الملك عبدالعزيز قبل سنتين.
استغرب الأستاذ الدكتور بجامعة بيركلي “ليور باشتر” هذا التناقض عند مراجعته للتقرير الذي احتل قسمه المركز الأول به، ليقرر التقصي عن هذا الأمر الذي وصفه بـ “الشاذ”؛ ليكتشف لاحقًا أن إدارة جامعة الملك عبد العزيز كانت تقوم بعملية توظيف واسعة لما يسمى بـ “الأساتذة الزائرين”، في الأوساط الجامعية يُعرف الأستاذ الزائر على أنه أستاذ تستقبله إحدى الجامعات للقيام بمشروع بحثي محدد مع تقديم عدد بسيط من المحاضرات على هامش المشروع.
استطاع باشتر التواصل مع عدد من هؤلاء الأساتذة الزائرين بجامعة الملك عبد العزيز للاستقصاء عن الأمر؛ ليتضح له أن الجامعة كانت تتواصل مع الأساتذة ذوي المنشورات الأكثر انتشارًا في كل جامعات العالم عارضة عليهم راتب 75 ألف دولارًا سنويًا وتذاكر سفر على درجة رجال الأعمال وسكن بفنادق الخمس نجوم مقابل الانضمام لأسطول الأساتذة الزائرين بالجامعة، ويتوجب على الأستاذ أن يقوم بتغيير اسم الجامعة التي ينتمي لها بقاعدة بيانات رويترز إلى جامعة الملك عبد العزيز، وجدير بالذكر أن قاعدة البيانات هذه هي حجر الأساس المبني عليه التقييم المذكور أعلاه.
إلا أن الواقع يختلف بعد تغيير الأستاذ لاسم جامعته في قاعدة البيانات وأخذه للأموال، فعمليًا تصبح الخطوة التالية هي إرسال مشروع بحثي للجامعة من أجل الحصول على تمويل له والبدء فيه، إلا أن أغلب الأساتذة الذين حصل باتشر على شهادات منهم لم يحصلوا حتى اليوم على رد على مشاريعهم.
استطاع باشتر الحصول على نسخة من المراسلات الإلكترونية بين الجامعة والأساتذة، تُظهر الرسائل مطالبة الجامعة للأساتذة بالانضمام لصفوف أساتذتها، إلا أنها تقول إنه ليس عليهم التواجد بالحرم الجامعي لأكثر من ثلاثة أسابيع في العام، وأيضًا تدعي أن لكل أستاذ الحق في الحصول على تمويل لمشروع واحد بمبلغ مليون ونصف دولارًا أمريكيًا، ومشروعين بمبلغ ربع مليون دولار، إلا أن مصير ما قدمه هؤلاء الأساتذة من مشاريع مازال مجهولاً كما ذكر أعلاه.
الصورة: خريطة توضح نسبة توزيع الباحثين الذين تعاقدت معهم جامعة الملك عبدالعزيز في دول العالم المختلفة
الملف: عدد من الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين أستاذ أمريكي، وأستاذ مساعد بجامعة الملك عبدالعزيز، يوضح طريقة استقطاب الأساتذة للجامعة.
في نهاية الأمر، أشار باشتر إلى أن باستخدام حسبة رياضية بسيطة لما تدفعه الجامعة للأساتذة؛ يتضح أن قيمة العمل البحثي الواحد واقتباساته تحوم حول ثلاثة دولارات، وفي مقابل ذلك تتسلق الجامعة حديثة السن التصنيفات والتقارير بسرعة البرق، والخطير في هذا أن هذه الأبحاث في نهاية الأمر لا تمت لهذه الجامعة بصلة، في حالة من الممكن وصفها بالنخاسة الأكاديمية، والتي أيضًا لا تعود على الجامعة أو المملكة بأي نوع من الفائدة أصلاً، فجامعة عالية الترتيب لا تقوم فعلاً بالأبحاث أو التدريب هي في نهاية الأمر نكتة كبيرة باهظة الثمن.
هنا يصبح من الجدير التساؤل عما ستستطيع القاعدة الصناعية السعودية فعله بأبحاث في مجالات مثل الخرائط الجينية وهندسة أشباه الموصلات، فتجارة البترول تمثل قرابة 90% من مجمل الاقتصاد السعودي، بينما لا تكاد تتواجد أي صناعة تذكر على أي من المستويين المتوسط والمتقدم تكنولوجيًا، فالمملكة تعتبر سوق العمالة المستوردة الأكبر بالمنطقة، وواقعيًا فهي تفتقد لمقومات قيام أي صناعة حقيقية لافتقادها لكل من الموارد البشرية والسوق القادر على استيعاب إنتاج صناعي محلي، وقد تشكل الهيكل الاقتصادي والبيروقراطي للدولة حول البترول كإنتاج وحيد على مدار الأربعين سنة الماضية، فما الذي سيحدث للمئات والآلاف من الأوراق البحثية والمبتعثين على حساب الموازنة السعودية إلا أن يستخدمها هؤلاء الذين يشترون البترول من السعودية ثم يبيعوها إياه في صورة منتجات إلكترونية لامعة وطائرات عسكرية تستخدم في الحملات الأمريكية.
ولمعرفة الهدف من الجامعة، نحاول العودة إلى الخلف قليلا، فقد قام محمد علي والي مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر بإرسال أولى البعثات العلمية إلى فرنسا عام 1826، كانت هذه هي البعثة العلمية الرسمية الأولى على الإطلاق في تاريخ المنطقة العربية، كان الهدف الرئيس من هذه البعثة هو تكوين عدد من الكوادر العلمية القادرة على تأسيس مدارس بتخصاصاتها في مصر عند عودتها، وكانت تخصصات أعضاء البعثة محصورة في ثلاثة مجالات تقريبًا؛ المجال العسكري والمجال الصناعي والمجال الطبي، وبالفعل نجح محمد على إلى حد ما بعد ذلك في تأسيس مجموعة من المدارس العليا في هذه التخصصات؛ وانعكس أثر ذلك لاحقًا على الصناعة والجيش المصري لوهلة، إلا أن التجربة فشلت في نهاية الأمر لعدد من الأسباب لا مجال لذكرها هنا.
كانت إحدى الآثار المترتبة على تجربة البعثات في مصر هي بقاء المدارس العليا حتى بعد فشل مشروع محمد علي التوسعي والصناعي، وبالرغم من أن هذه المدارس قد تعرضت لشكل حاد من تقليص تمويلها وأهميتها، إلا أنها استمرت بشكل أو بآخر في إنتاج الشباب المتخصص في المجالات المختلفة، ويصبح من الجدير التذكير هنا بأن الإمبراطورية الصناعية للدولة في عهد محمد علي قد تم خنقها وتفكيكها وفقًا لاتفاق لندن 1840.
لم تحقق هذه المدارس التي تم تجميعها لاحقًا تحت راية الجامعات المصرية في تقديم مساهمة علمية ضخمة واحدة منذ هذه الفترة.
نشأت الجامعات بشكلها الحديث في أوروبا وبعد ذلك في الولايات المتحدة نتيجة لعدد من العوامل، كان الفضول العلمي لطبقة صغيرة من أغنياء المجتمع أحدها، وسمحت وفرة الأموال الناتجة إما عن الممتلكات الأرستوقراطية أو الممتلكات الصناعية بالتفرغ لإشباع الفضول العلمي؛ ترتب على ذلك لاحقًا تكوين ما يسمى بالجمعيات العلمية حيث يجتمع هؤلاء السادة لمناقشة اكتشافاتهم وملاحظاتهم، كانت هذه الجمعيات هي نواة ما يعرف حاليًا بالجامعات البحثية (المعنية بالبحث العلمي وتعليم عدد قليل جدًا من الطلبة النجباء) على عكس الجامعات التعليمية (المعنية بالأساس بتعليم أكبر قدر ممكن من الطلبة) التي بدأت قبل ذلك بمئات السنين في كل أنحاء العالم وكانت تعنى غالبًا بدراسة الشرع والكهنوت والفلسفة.
ما دعم هذه الجمعيات العلمية في مسعاها كان تزامن توسعها مع توسع القواعد الصناعية في أوروبا تحديدًا، اعتمدت الثورة الصناعية بالأساس على مجموعة من الاكتشافات التي وصل إليها العلماء فيما يسمى بالثورة العلمية، وعن طريق اعتماد هذه المجموعة من الاكتشافات والمبادئ العلمية؛ استطاعت أوروبا تكوين صناعة غير مسبوقة في كل من التطور والحجم؛ وبالتالي أصبح الاستثمار في البحث العلمي أمرًا بديهيًا لما له من محورية في قلب النظام الصناعي.
يتضح من مقارنة ما سبق أن وجود واستمرار ما يعرف بالجامعة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقاعدة الصناعية والاقتصادية لكل من المجتمع والدولة المتواجدة بهما، فقد كانت الثورة الصناعية الأوروبية كفيلة بدفع الإنتاج العلمي الأوروبي للصدارة حتى يومنا هذا، وكان فشل المشروع الصناعي الحداثي لمحمد علي كفيلاً بخلق وسط جامعي وعلمي شديد الترهل والفشل في مصر؛ وسط لا يشارك في إنتاج المعرفة العلمية بل يقف كحجر عثرة في طريق السبل غير الرسمية لإنتاجها، ويبدو أن السعودية تعيد تكرار الفشل، لكن عبر طريق آخر.