العراق: قاآني في بغداد لإنقاذ حكومة الإطار التنسيقي

تأتي زيارة قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد يوم أمس، كما روّجت لذلك العديد من وسائل الإعلام التابعة لفصائل مسلحة موالية لإيران، في وقت يشهد فيه “تحالف إدارة الدولة” المكوّن من الإطار التنسيقي “الشيعي” وتحالف السيادة “السنّي” والحزب الديمقراطي الكردستاني مزيدًا من التفكُّك، سواء على مستوى كل تحالف من هذه التحالفات، أو على مستوى التفاهمات والاتفاقات التي جمعت التحالفات الثلاثة.
يأتي هذا أيضًا مع تزايد حدّة الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يواجهها العراق، والتي يمكن أن تخلق ظروفًا احتجاجية مشابهة لتلك التي واجهت حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، إذ تدرك إيران أهمية الحفاظ على استمرارية حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني المنبثقة عن “تحالف إدارة الدولة”، كونها جاءت بعد جهود حثيثة مارستها إيران في الفترة الماضية، وتحديدًا بعد نجاحها في دفع زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إلى الانسحاب من العملية السياسية وترك الساحة مفتوحة لحلفائها، كي يعيدوا تشكيل المشهد السياسي في العراق بالشكل الذي ترغب فيه إيران، أو على الأقل تلبّي الحد الأدنى من الأهداف الإيرانية في العراق.
إن التفكُّك السياسي الذي شهدته الجماعات الموالية لإيران، وتعدد الخطابات داخل الإطار التنسيقي، سواء بعد انسحاب الصدر من العملية السياسية أو بعد تشكيل الحكومة، يشير بما لا يقبل الشك إلى أن إيران لم تعد قادرة على ضبط مسار الصراع الحالي، ليس بين الصدر والإطار فحسب، وإنما داخل الإطار أيضًا.
ومردّ ذلك أن طبيعة التحول السياسي الذي مرَّ فيه العراق بعد اغتيال قاسم سليماني، وانتقال الصراع إلى داخل البيت السياسي الشيعي، جعلا إيران تواجه مخاوف واضحة، وهي الخشية من أن يتمَّ خسارة الاستحقاق السياسي لحلفائها، وهي مخاوف تأتي مترافقة مع دعوات وجّهها الصدر في خطبة الجمعة الماضية، أرسل من خلالها رسائل سياسية أكثر من كونها ذات طابع ديني، ما أثار بدوره العديد من التكهُّنات عن قرب عودته إلى الساحة السياسية من جديد.
تحرُّكات الصدر تربك إيران
إن المعارضة المستمرة التي يظهرها الصدر لإيران، والتي كان آخرها إصراره على تسمية الخليج بـ”الخليج العربي”، لا تتعلق بحالة عداء يحملها الصدر، وإنما بمحاولة الصدر إعادة تشكيل صورته ضمن المخيّلة الإيرانية، فهو يدرك جيدًا أن إيران لم تعد تراهن عليه في المشهد السياسي، وإنما ذهبت بدلًا من ذلك إلى دعم مركزية زعيم تيار الحكمة، عمار الحكيم، ضمن البيت السياسي الشيعي.
والأكثر من ذلك، يشعر الصدر بخيبة أمل كبيرة من إيران، فهو كان يطمح بأن تلجأ إليه إيران بعد اغتيال سليماني لإدارة الوضع العراقي، إلا أن إيران بدلًا من ذلك لجأت إلى قيادات محلية أخرى، فضلًا عن ذلك يعتقد الصدر بضرورة الحفاظ على ثنائية “قم والنجف”، ولا يجوز أن تغيّر إيران هذه المعادلة، ولعلّ هذا ما يوضّح لجوءه مؤخرًا إلى إدامة عملية إقامة صلاة الجمعة، ومحاولة إظهار نفسه بمظهر رجل الدين أكثر من كونه رجل سياسة.
لم يكن النظام الإيراني مستعدًّا بالأساس للتعامُل مع قضية بحجم اغتيال سليماني، أو حتى في تحديد الأولويات الاستراتيجية الإيرانية في العراق بعد اغتياله.
إن الإشكال الرئيسي الذي يواجهه قاآني اليوم في العراق، وتحديدًا على مستوى ترميم البيت السياسي الشيعي، والحفاظ على التوافقات الشيعية السنّية الكردية ضمن سقف المصالح الإيرانية في البلاد، نابع بالأساس من أن النظام الإيراني لم يكن مستعدًّا بالأساس للتعامُل مع قضية بحجم اغتيال سليماني، أو حتى في تحديد الأولويات الاستراتيجية الإيرانية في العراق بعد اغتياله، فعلى ما يبدو إن النظام فكّر في كيفية ملء فراغ سليماني، أكثر من التفكير في مواجهة التداعيات داخل العراق.
زيارة لتدارُك الأخطر
تشير زيارة قاآني إلى بغداد بوضوح إلى أنها تأتي في إطار محاولات يبذلها لتخفيف مستوى الخلاف المتصاعد بين أطراف الإطار التنسيقي، وتحديدًا زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي وزعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي من جهة، والسوداني من جهة أخرى، وذلك بعد تصاعُد حدّة الخلافات مؤخرًا حول العديد من القضايا، أبرزها أزمة تصاعد الدولار والمناصب الأمنية والتغييرات الإدارية، فضلًا عن توجُّهات السوداني على الصعيد الخارجي، وخصوصًا حيال الدول العربية.
كما أن زيارة قاآني تأتي على ما يبدو في محاولة إيرانية لاستباق زيارة السوداني إلى واشنطن في الشهر المقبل، خصوصًا أن السوداني سيبحث هناك ملف تواجد القوات الأمريكية في العراق، وقد تكون لقاآني تحفُّظات في هذا السياق.
ممّا لا شكّ فيه أن إيران تواجه وضعًا سياسيًّا صعبًا في العراق بالوقت الحاضر، فنجاح حلفائها بتشكيل الحكومة رافقه فشل في معالجة أغلب المشاكل التي تواجه الشارع، كما أن التفاعل العراقي مع بطولة خليجي 25 المقامة في البصرة، أظهرت الهوة الكبيرة بين رؤية إيران لدورها في العراق ورؤية الشارع العراقي لهويته وانتمائه، وهي هوة جاءت كردّ فعل على سياسة القسر الهوياتي الذي مارسته إيران في العراق الفترة الماضية، عبر محاولات مستمرة لربط العراق بها، كدولة وهوية وانتماء.
ومن ثم، هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها على هامش زيارة قاآني إلى بغداد: ماذا لو فشلت المهمة الإيرانية التي يقودها قاآني في إنقاذ “تحالف إدارة الدولة” من التفكك والانهيار؟ وكيف ستتفاعل إيران مع سيناريو الفشل؟ وهل ستكون هناك خيارات بديلة يمكن التعويل عليها؟ إذ إن الحديث عن مستقبل المشهد السياسي في مرحلة ما بعد زيارة قاآني سيكون أمام امتحان صعب للغاية.
وتنكُّر قوى الإطار التنسيقي لأغلب الاتفاقات السياسية مع الكرد والسنّة، إلى جانب عدم تمكُّن إيران من ضبط “الشهوة السياسية” لحلفائها نحو مزيد من السيطرة والهيمنة، سيمهّدان الطريق نحو مزيد من العقبات أمام قاآني، وإيران هي الأخرى لن تقبل بمزيد من الإخفاقات في الداخل العراقي، وبين هاتين المعادلتَين ما زال الرأي العام العراقي بانتظار إجراءات فاعلة تقدم عليها حكومة السوداني لانتشال الواقع العراقي من الأزمات التي يواجهها.