ترجمة حفصة جودة
يتجول تجار الفنون المتحمسون وبأيديهم الكتالوجات، في الطابق الأول من فندق دروو بباريس، أكبر سوق للفنون في فرنسا، وفي مزاد خاص، يحضر دار المزادات الفرنسي آدير “Ader” 536 قطعة فاخرة تتضمن أرائك وطاولات ولوحات فنية وثريات وأطقم عشاء من البورسلين وسجاد، هذه الأشياء موزعة على 4 غرف حيث ستُعرض في المزاد خلال اليومين القادمين.
وفقًا لآدير فإن هذه القطع جاءت من أحد المنازل الضخمة في جادة فوش، وهي منطقة ثرية غرب باريس، لم يُذكر في أي مكان أن هذه القطع جاءت من القصر السابق لعم بشار الأسد، نائب الرئيس السوري السابق رفعت الأسد – 85 عامًا – الذي غادر فرنسا عائدًا إلى سوريا العام الماضي.
وفقًا لتقارير جريدتي “Le Journal du Dimanche” و”L’Orient le Jour”، فإن هذا العقار الذي اشتراه بأموال الحكومة السورية المختلسة، واحد من عدة عقارات يملكها. ورغم أن الدولة بإمكانها الاستحواذ على المنزل، فإن ثغرة قانونية مكّنت من بيع الأثاث عن طريق بائع مجهول، وبالتالي سيستمر في بيع ما قيمته 1.8 مليون دولار من القطع.
يبدو أن القلة القليلة من التجار والمقامرين الذين كانوا يسيرون عبر قاعات المعرض أدركوا قيمة ما هو أمامهم، فقد كانت امرأة أنيقة في الخمسينيات تهمس في هاتفها قائلة: “أردت أن أحدثك فورًا، يجب أن تأتي، فجميع القطع جميلة”.
وسط هذا الضجيج، أدرك شابان سوريان – وصلا إلى فرنسا عام 2015 فرارًا من حكومة الأسد وقمعها الوحشي للمعارضة – ما يحيط بهما، يقول أحدهما بصوت منخفض: “هذه الأشياء تخص السوريين، لقد سرقتها عائلة الأسد، لكن لا أحد يتحدث عن ذلك”.
تواصلت ميدل إيست أي مع آدير عدة مرات لكن الدار رفضت الإفصاح عن هوية العميل ورفضت التأكيد على مصدر البضائع قائلة: “هذه المعلومات سرية والبيع متوافق مع القوانين المتصلة به”.
جرائم حرب وفساد
نُفي رفعت الأسد من سوريا عام 1984 بعد محاولة انقلاب فاشلة ضد شقيقه حافظ الأسد، ومنذ ذلك الحين، عاش في فرنسا وقدم معلومات استخبارية لفرنسا عن المنظمات الإرهابية مقابل الحصول على حمايتها.
في 2013، فتحت السلطات السويسرية تحقيقًا بجرائم حرب لدوره في مقتل مئات الآلاف في أثناء مذبحة حماة، وأخرى في تدمر في بداية الثمانينيات، لكنه أنكر ذلك، وفي 2017 صادرت السلطات الإسبانية أكثر من 500 عقار يملكه بقيمة 736 مليون دلار.
حُكم على الأسد بالسجن 4 سنوات في فرنسا في يونيو/حزيران 2020 لاستخدامه أموال الدولة السورية بشكل غير قانوني لبناء إمبراطورية عقارات فرنسية قيمتها على الأقل 9.7 مليون دولار، وصُودرت أصوله.
يمكن التعرف على بعض البضائع التي يعرضها المزاد – بما في ذلك العديد من الأرائك والكراسي الفاخرة – من الصور التي التُقطت في أثناء مقابلات مع الأسد قبل إدانته
عندما أيدت المحكمة العليا الفرنسية القرار في سبتمبر/أيلول 2022، عاد الأسد إلى سوريا بعد أكثر من 30 عامًا في المنفى بموافقة ابن أخيه بشار، ولخيبة أمله في فرنسا، أعاد الأسد وسام جوقة الشرف الذي منحه إياه الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران عام 1986.
من أجل سعادته
بيعت نصف الأشياء من كتالوج آدير في اليوم الأول بمبلغ 1.8 مليون دولار، ولم يُكشف بعد عن معلومات مبيعات اليوم الثاني، يمكن التعرف على بعض البضائع التي يعرضها المزاد – بما في ذلك العديد من الأرائك والكراسي الفاخرة – من الصور التي التُقطت في أثناء مقابلات مع الأسد قبل إدانته، كما يتضمن كتالوج آدير أيضًا طقمين عشاء صُنعا خصيصًا لأجل سعادته.
تعرفت ميدل إيست آي على لوحتين معروضتين في المزاد: الأولى للرسام الفرنسي كلود جيليه من القرن الـ17 وبيعت بمبلغ 3200 دولار، والأخرى للرسام الروسي جاسبرد تورسكي من القرن الـ19 التي بيعت بمبلغ 1298 دولارًا.
صادرت السلطات الفرنسية ذلك المنزل في جادة فوش بعد قرار المحكمة في 2022، لكنها لم تصادر الأثاث بداخله، ووفقًا لآلية القانون الجديد الذي أصدرته فرنسا في يوليو/تموز 2021 لاستعادة الأصول المنهوبة عبر الفساد، فإنه لا بد من إعادة قيمة هذا المنزل بشكل ما للشعب السوري (لكن طريقة القيام بذلك ما زالت مصدر قلق لفرنسا التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية بسوريا منذ 2012 التي تخضع حكومتها لعقوبات دولية).
لكن السلطات الفرنسية تقول إنها ليست مشاركة في عملية بيع الأثاث، فقد قالت هيئة إدارة واستعادة الأصول المصادرة – هيئة فرنسية عامة تبيع الأصول التي استولت عليها الدولة – إنها لم تكن مسؤولة عن المزاد الذي نظمته آدير.
تقول شانيز مينسوس رئيسة قسم المناصرة والتقاضي بشأن الدفقات المالية غير القانونية بمنظمة “Sherpa” الفرنسية غير الحكومية التي كانت طرفًا مدنيًا في الإجراءات الفرنسية ضد رفعت الأسد منذ 2013: “لم يكن ممكنًا اكتشاف كيفية الاستحواذ على تلك الممتلكات”.
وتضيف “كانت التحقيقات في تلك القضية طويلة جدًا، فقد بدأت الإجراءات في 2013، هناك أحكام قانونية تُطبق عند مصادرة عقارات، لكن الوضع ليس نفسه بالنسبة للأثاث”.
تقول مينسوس: “بخلاف البضائع التي تصادرها المحكمة، ففي تلك الحالة تذهب أرباح البيع لمالك هذه البضائع، من الناحية القانونية فعملية البيع هذه تعد قانونية”، تحصل آدير على 25% من أرباح المزاد، أما البقية فتذهب لمجهول.
بائع مجهول
في الغرفة رقم 9 بفندق دروو، قفزت الأسعار في اليوم الثاني للمزاد 13 يناير/كانون الثاني، حين اتجه بائعو المزاد للأغراض الأكثر قيمة، يقول بائع المزاد الشاب وهو ينظر إلى المتفرجين ممسكًا مطرقته: “ماذا لدينا هنا؟” بعد أن باع 70 كأسًا من الكريستال بمبلغ 5400 دولار.
ثم قال: “القطعة 294، مكتب مسطح من عصر نابليون، نبدأ بسعر ألف يورو”، ارتفعت الأيدي المزايدة سريعًا وعلى الهاتف كان هناك من يرفع الأسعار، وخلال دقيقتين بيع المكتب بسعر 10 آلاف يورو أي 10 أضعاف قيمته الأولية، ما زال المشترون مجهولون وكذلك البائع.
أنكر المستشار الفرنسي لرفعت الأسد، إيلي حاتم، أن تلك البضائع في المزاد بباريس تخص موكله، وقال: “إنه حاليًا في دمشق يمتثل للقانون الفرنسي وقانون بلاده، وبالتالي لا ينوي استعادة أي من ممتلكاته المصادرة”، وأضاف أن هناك المزيد من الإجراءات القانونية المعلقة ضده في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وأن الدولة السورية ستتقدم بطلب لاستعادة أي ممتلكات أُعلن عن نقلها من البلاد بمجرد انتهاء القضية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان”.
وفقًا لحاتم فإن مزاد البضائع الذي تديره آدير جاء من الطابق الثالث بمنزل جادة فوش الذي تنازل عنه الأسد لزوجته السابقة منذ وقت طويل في سياق إجراءات طلاق صعبة، وأضاف “يبدو أنها تبيع هذه البضائع لتحقيق ربح دون موافقة موكلي”.
تملك كل من لينا الخير ورجاء بركات – زوجتي الأسد السابقتين – شقتها الخاصة في البيت حيث تصل كل منهما إلى شقتها بمصعد خاص لمنع الاحتكاك بينهما، لكن حاتم لم يحدد أي الزوجتين السابقتين وراء هذا المزاد.
هناك أيضًا سوار الأسد – ابن رفعت وبركات – الذي عمل متحدثًا رسميًا باسم رفعت في لندن، وهناك يرأس مؤسسة “أراميا” التي يُقال إنها تساعد اللاجئين السوريين وتعمل على حماية التراث التاريخي لمنطقة الشام.
لم يفوت سوار يومًا واحدًا من جلسات الاستماع في محاكمة 2022 بباريس، كما أنه حليف تجاري لوالده، وقد قال أحد المطلعين على قضية رفعت الأسد في فرنسا – طلب عدم كشف هويته -: “اسم سوار ظهر كمستفيد من جميع الشركات الصورية التي أسهها رفعت لإخفاء مصدر أمواله”.
ظهرت الخير وبركات أيضًا في شبكة من الشركات التي ذُكرت في التحقيقات الفرنسية بالإضافة لسوار الأسد.
مفاجآت مزعجة
يقول الناشط والقانوني السوري الفرنسي فراس قنطار: “أخشى أن تعود هذه الأموال في النهاية إلى جيوب عائلة الأسد، بالطبع من حق الجهة المنظمة للمزاد أن تفعل ذلك، لكن هل سأل هؤلاء الأشخاص أنفسهم عن الأخلاق والمسؤولية؟ إنهم يختبئون خلف القانون، هذا هو الأمر”.
بينما يقول فنسينت برينغارث، المستشار الفرنسي لمؤسسة “Sherpa”: “إذا كانت إدانة رفعت الأسد تُعد انتصارًا في المعركة ضد انتهاك النزاهة، فإن بيع هذه الأصول للأسف يُضاف إلى العديد من المفاجآت غير السارة التالية للإدانة”.
“في ضوء ما كشفته التحقيقات الفرنسية عن الطرق المخادعة التي تمكن من خلالها رفعت الأسد من بناء جزء كبير من أصوله، فإن ذلك يكشف أن العدالة المكافحة للفساد يمكن تطويرها، فرغم مصادرة عدد كبير من البضائع، من الواضح أن بضائع المزاد – ذات القيمة الضخمة – فرّت من العدالة”.
المصدر: ميدل إيست آي