حراك دبلوماسي مكثف تشهده ليبيا منذ بداية السنة الحاليّة، بعد أشهر من الجمود السياسي، فقد أصبحت طرابلس وبنغازي قبلة المسؤولين الأجانب المتدخلين في الشأن الليبي، ما يُفهم منه وجود إرادة خارجية لإنهاء الأزمة في هذا البلد العربي الغارق في الفوضى وعنف السلاح منذ سنوات عديدة.
أبرز المسؤولين الذين زاروا ليبيا بداية هذه السنة، هو مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية وليام بيرنز الذي زار البلاد الأسبوع الماضي والتقى كبار مسؤولي الدولة هناك على رأسهم رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة واللواء المتقاعد خليفة حفتر، ما مثّل إعلانًا مباشرًا عن عودة الاهتمام الأمريكي بليبيا في ظل أزمة المحروقات التي تشهدها الأسواق العالمية وخشية واشنطن من خسارة نفوذها إلى الأبد في هذا البلد.
تزامن ذلك، مع دعوة مبعوث الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عبد الله باتيلي إلى دعم أعمال اللجنة العسكرية “5+5” الرامية إلى حل ملفات خلافية، بينها السبيل إلى توحيد القوى الحاملة للسلاح تحت مظلة المؤسسات الشرعية للدولة.
عجز الأطراف الليبية المختلفة – التي دخلت في نزاعات مسلحة لسنوات – عن إجراء تغيير حقيقي، جعلها تراهن اليوم بجدية على التحرك الدولي لحل الأزمة، ومستعدة لخوض المسار السياسي والتسليم للأطراف الدولية من أجل إيجاد حل للأزمة من الخارج.
شاهدنا مؤشرات ذلك، في اللقاءات الأخيرة التي جمعت مختلف المسؤولين في ليبيا والاتفاقات الحاصلة بينها واستعدادها للحوار للخروج من المأزق الذي تعيش على وقعه البلاد منذ سنوات، ما يعني أن ليبيا مقبلة على تحولات كبرى.
هاكان فيدان في طرابلس
زيارة مدير الاستخبارات التركية هاكان فيدان إلى ليبيا ولقائه رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في العاصمة الليبية طرابلس، تتنزل ضمن هذا السياق.
بعد زيارته للسودان ولقائه كبار المسؤولين هناك والاطلاع عن مجريات الأمور وجديد الاتفاق الإطاري السياسي بين مختلف الأطراف السياسية، تحول “كاتم أسرار أردوغان” والفريق المرافق له على جناح السرعة إلى ليبيا.
تعلم أنقرة يقينًا أن هناك تحركات دبلوماسية مكثفة في ليبيا وتطورات جديدة بهدف وضع ملامح مستقبل الوضع السياسي في البلاد، لذلك أرسلت أقوى رجالها، وهو رئيس الاستخبارات، إلى هناك ليشارك في الحفلة.
تعتبر تركيا الدولة الوحيدة الموجودة في ليبيا كقوة عسكرية أجنبية شرعية، وذلك بموجب الاتفاق الذي أبرم بين البلدين في ديسمبر/كانون الأول 2019
تحدثت العديد من التقارير مؤخرًا، عن وجود مشاورات تجري بين الدبيبة والمنفي وحفتر، لتقاسم السلطة فيما بينها، بالتزامن مع المشاورات الحاصلة بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة الاستشاري خالد المشري.
أي تأخير أو تردد في التحرك، ستكون نتائجه وخيمة على تركيا، فالعديد من القوى الإقليمية تسعى لبسط نفوذها في هذا البلد العربي الغني بالثروات الطبيعية على رأسها المحروقات التي تسعى خلفها كل دول العالم، نتيجة تواصل الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
رئيس المخابرات التركية”هاكان فيدان”يؤكد خلال لقائه رئيس المجلس الأعلى للدولة في #ليبيا خالد المشري على ماوصفه”عمق العلاقات التاريخية بين ليبيا و #تركيا“وأهمية تعزيزها في المجالات كافة”ويدعو إلى”ضرورة التنسيق بشأن القضايا والملفات الثنائية والدولية المشتركة”بين بلاده وليبيا pic.twitter.com/vMHTxi47QS
— أحمد خليفة (@ahmad_khalifa78) January 17, 2023
حتم هذا الأمر، سرعة التحرك وزيارة هاكان فيدان شخصيًا لطرابلس ولقاء كبار المسؤولين المحليين، فتركيا لا تريد خسارة مكانتها في ليبيا التي تدعمت عقب مساعدتها لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج في التصدي لعدوان اللواء المتقاعد خليفة حفتر ضد العاصمة طرابلس.
إلى جانب الاطلاع على فحوى التحركات الدبلوماسية والمشاركة في صناعة القرار مباشرة، هناك سبب آخر لزيارة رئيس الاستخبارات التركية لليبيا، وهو تعليق محكمة في طرابلس الاتفاقية التي جرى التوصل إليها بين أنقرة وحكومة الدبيبة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بشأن التنقيب عن الغاز والنفط في البحر الأبيض المتوسط.
في منزل رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة وعلى شرف رئيس المخابرات التركية “هاكان فيدان”اجتمع رئيس مجلس الدولة ومحافظ ليبيا المركزي وغيرهم، استطاع الحليف التركي ما لم يستطيعه غيرهم أن يقاربوا بين الاطراف ولم شملهم لصالح بناء بلادهم.#تركيا #ليبيا pic.twitter.com/ztK68B0JsC
— alagouz2 (@ahmed_alagouz) January 18, 2023
كانت محكمة الاستئناف في طرابلس، قد ألغت الاتفاقية بناءً على طلب من خمسة محامين، أن حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة لا تملك سلطة التوقيع على اتفاقية دولية، وتضمنت الاتفاقية إمكانية استكشاف النفط والغاز في مياه قالت أنقرة وطرابلس إنها تابعة لهما، بينما تقول مصر واليونان أيضًا إن مساحات منها ضمن نطاق حدودهما البحرية.
صحيح أن حكومة الوحدة الوطنية الليبية طلبت من تركيا “ألا تأخذ على محمل الجد” قرار المحكمة وأنها ستبقى ملتزمة بالاتفاقية، وفق ما أكده وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو قبل أيام، لكن كان من المهم التعرف على موقف المسؤولين الليبيين من هذا القرار مباشرة، لمعرفة كيفية التحرك مستقبلًا.
وتخشى الحكومة التركية من أن يكون الدبيبة قد خرج عن طوعها، وأراد من وراء قرار المحكمة إيصال رسائل لها، لذلك سارعت لملاقاته حتى تزيح كل الإشكالات العالقة وتعيد الدبيبة إلى صفها، خاصة أنه الطرف الأقوى في المعادلة الليبية الآن، وذلك بفضل دعم الأتراك له.
جهود إحلال السلام
لا تريد تركيا أن تترك الملعب الليبي فارغًا، ذلك أن العديد من القوى التي تدعي دعم الحكومة الشرعية وإيجاد حل سلمي للأزمة في البلاد، تقوم سرًا بدعم الميلشيات المسلحة التي يقودها حفتر، بهدف تحويل الفوضى الحاصلة في البلاد إلى ميزة لصالحها، فهي تستثمر في الأزمة.
وترى تركيا أن على عاتقها المساهمة بقوة في جهود إحلال السلام في ليبيا، وعدم ترك البلاد لقمة سائغة للقوى الغربية، وظهرت الجهود التركية لإحلال السلام جليًا نهاية سنة 2019، عندما لبت بسرعة دعوة رئيس حكومة الوفاق الوطنية حينها فائز السراج للوقوف بجانب الشعب الليبي للتصدي لعدوان حفتر.
تخشى باريس أن يمتد التعاون التركي الإيطالي إلى مناطق أخرى بعيدًا عن ليبيا، منها شرق المتوسط الغني بالغاز
منذ مساعدتها في التصدي لحرب حفتر، وإعادة موازين القوى إلى نصابها، عملت تركيا جاهدة على نشر السلام والاستقرار في البلاد، خاصة في المنطقة الغربية التي يتركز فيها جنودها طبقًا لاتفاقية تم توقيعها بين الطرفين الليبي والتركي.
وتعد تركيا الدولة الوحيدة الموجودة في ليبيا كقوة عسكرية أجنبية شرعية، وذلك بموجب الاتفاق الذي أبرم بين البلدين في ديسمبر/كانون الأول 2019، وهو ما زاد من مسؤولياتها تجاه الحكومة الشرعية والشعب الليبي.
تقارب تركي إيطالي
التحركات التركية الأخيرة في ليبيا، ليست بمعزل عن تحركات حلفائها هناك، إذ ظهر في الفترة الأخيرة تقارب دبلوماسي بين روما وأنقرة بشأن الأزمة الليبية ترجم على أرض الواقع بسلسلة محادثات ولقاءات ثنائية احتضنتها أنقرة.
آخر هذه اللقاءات، جمع وزير الداخلية الإيطالي ماتيو بيانتيدوسي، بنظيره التركي سليمان صويلو، حيث أكد الوزير الإيطالي أن “بلاده بحاجة إلى تعاون تركيا في ملفات مثل ليبيا وغيرها”، وفقًا لما ذكرته وكالة “نوفا” الإيطالية للأنباء.
قبلها، زار وزير الخارجية والتعاون الدولي الإيطالي أنطونيو تاياني، أنقرة حيث بحث مع نظيره التركي مولود تشاويش أوغلو وعدد من المسؤولين الأتراك قضية تدفق المهاجرين غير الشرعيين وإجراء انتخابات في ليبيا، وفق ما جاء في بيان صادر عن الخارجية الإيطالية.
متفوقة على الصين.. #إيطاليا تؤكد زيادة صادراتها إلى #ليبيا بنسبة 80.48% خلال الأشهر الـ10 الأولى من عام 2022، مقارنة بنفس الفترة من عام 2021، حيث بلغت قيمة صادرتها 1.765 مليار يورو وحصتها السوقية بلغت 13.21%، لتتقدم على #الصين وهي ثاني دولة موردة إلى ليبيا بعد #تركيا. #فواصل pic.twitter.com/QoUGaXKcEe
— فواصل (@fawaselmedia) January 18, 2023
يشترك الأتراك والإيطاليون في نفس الرؤية بالنسبة لليبيا، فهما يؤكدان ضرورة تعزيز العملية السياسية في ليبيا تحت رعاية الأمم المتحدة بهدف إجراء انتخابات تضفي الشرعية على مؤسسات الدولة الشمال إفريقية.
هذا التقارب من شأنه أن يُقلق المحور الفرنسي المصري الإماراتي وبدرجة أقل روسيا، فهذا المحور يرى التعاون التركي الإيطالي خطرًا يهدد وجودهم وامتيازاتهم هناك، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية توافق أنقرة وروما على رؤيتهما لحل الأزمة في ليبيا.
وتخشى باريس أن يمتد التعاون التركي الإيطالي إلى مناطق أخرى بعيدًا عن ليبيا، منها شرق المتوسط الغني بالغاز، لكن السؤال الذي يطرح الآن، ما الأوراق التي تملكها باريس لكبح هذا التعاون وقلب الطاولة لصالحها؟