“الخبز أو الكتاب” ربما تصلح تلك الجملة لأن تكون شعارًا لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 54، ففي ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يواجهها الاقتصاد المصري، والتي تلقي بتبعاتها الشديدة على كاهل المواطن المصري بمختلف شرائحه، أصبحت خيارات المواطن تشبه المعادلات الصفرية، كل شيء في كفّة والخبز في كفّة أخرى.
تأثر الكتاب في مصر كغيره من السلع بارتفاع سعر الدولار، لكن الاختلاف الحقيقي في كون الكتاب يمكن له أن يتراجع إلى مكانة الكماليات على عكس السلع الأساسية كالطعام والشراب، والتي مهما غلا ثمنها لن يتوقف الناس عن شرائها، وهو ما يجعل المعرض في دورته القادمة مهددًا بالكثير من الخسائر التي ستلاحق دور النشر العربية والمحلية على حد سواء.
سوق محلي
تسبّبت الإجراءات الاقتصادية المختلفة منذ اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية في مطلع عام 2022، في أعقاب معرض القاهرة الدولي للكتاب في نسخته الـ 53 في الكثير من التغيرات التي شكلت محددات جديدة للواردات المتعلقة بصناعة النشر والكتب في مصر، خاصة فيما يتعلق بدور النشر المحلية المصرية.
فقد زادت أسعار مدخلات الطباعة وأهمها الورق بشكل غير مسبوق، في مقابل ثبات لزيادة الحد الأدنى لأجور المواطن المصري العادي، ففي النسخة الأخيرة من معرض القاهرة، بلغ سعر طنّ الورق 16 ألف جنيه مصري، أما اليوم 62 ألف جنيه هي قيمة سعر طن الورق المستورد، أي إننا نتحدث عن زيادة جنونية بلغت ما يقارب 400%.
وتلجأ دور النشر المصرية إلى استيراد الورق من الخارج، نظرًا إلى ضعف إنتاج مصر من الورق والذي يغطي 35% فقط من احتياجاتها، كما أن دور النشر تعاني من اختفاء بعض ألوان الحبر من السوق المصري وارتفاع أسعارها، والحبر بدوره مكوّن هامّ من مكونات صناعة النشر.
ومن أجل مواجهة تلك الأزمة، تلجأ دور النشر المصرية إلى رفع أسعار الكتب، وذلك الرفع منطقي في ظل الانفجار الحادث في أسعار مكونات الصناعة، لكن الأزمة الأخرى التي تواجه المُشتري للكتاب المصري هي الشك في أن الكثير من دور النشر تقوم بالمبالغة في رفع السعر، رغم أن بعض الكتب من الطبعات القديمة، وفي بعض الأحيان يكون مستوى الكتاب في إخراجه الفني وجودة الورق غير متناسب مع السعر المطلوب فيه، ما يصنع حالة من الشك المتبادلة بين القارئ والبائع.
هناك سر لتحقيق الربح لا يخفى على أحد، خصوصًا حينما يتعلق الأمر بالبيع في معرض الكتاب بالتحديد، ونظرًا إلى تجربة شخصية كبائع سابق في معرض الكتاب، وعلى معرفة شخصية بأصدقاء يبيعون في مجال الكتب خاصة في موسم المعرض، فنحن نعلم أن دور النشر، خاصة في الإصدارات الجديدة لكتبها، تقوم برفع السعر أكثر من سعر الكتاب الحقيقي، وأكثر من الثمن المبتغى، ثم تضع عليه خصمًا مغريًا أو بسيطًا حسب قيمة الكتاب والطلب عليه، حتى يصل إلى سعره الحقيقي.
ففي النسخة الأخيرة من معرض القاهرة، بلغ سعر طنّ الورق 16 ألف جنيه مصري، أما اليوم 62 ألف جنيه هي قيمة سعر طن الورق المستورد، أي إننا نتحدث عن زيادة جنونية بلغت ما يقارب 400%.
ولا يمكن الظن أن الجمهور لا يعلم بتلك المراوغة التي تقوم بها الدور، لكنه كان يتقبّلها على مضض لأنه كان يمتلك القدرة على الشراء في النهاية، لكن في معرض هذه السنة كيف سيراوغ الجمهور غلاء الأسعار؟ ودور النشر بدورها هل ستلجأ إلى تلك الحيلة أم أنها تخشى أن تزيد من عسر عملية البيع فوق عسرها الذي تفرضه الأزمة الاقتصادية الحالية؟
وبينما كانت توفّر دور النشر المحلية الحكومية بديلًا لغلاء الأسعار، يبدو أن مكانتها تتراجع لدى الجمهور، بل أسعار إصدارتها تزيد، وتلك الدور تتمثل في منفذَين هامَّين هما الهيئة العامة للكتاب والمركز القومي للترجمة.
منذ انتهاء مشروع “القراءة للجميع”، وسلسلة “آفاق عالمية”، وسلسلة “الجوائز”، تراجعت أهمية العناوين التي تطرحها تلك المنافذ الحكومية، واحتكر باعة الكتب القديمة تلك الإصدارات ليبيعونها بأسعار تناسب الوقت الحالي، وليس بأسعارها الحقيقية وقت طرحها والتي كانت أسعارًا رمزية.
لا تطرح الدور الحكومية الآن عناوين مثيرة للاهتمام بقدر الذي تطرحه دور النشر الخاصة الكبرى، وتفتقد تلك الدور إلى الأسماء المصرية اللامعة في مجال الكتابة الأدبية، وحقول الدراسات الإنسانية، وبالإضافة إلى هذا الأمر تطرح تلك الدور طبعات جديدة تختلف في مستوى جودتها من الناحية الفنية الإخراجية وجودة الورق عن الطبعات القديمة، ما يجعل تلك الطبعات تتكلف أموالًا أكثر، وتُعرَض بأسعار أغلى من التي اعتادها الجمهور، بل أسعار تقارب أسعار دور النشر الخاصة.
فعلى سبيل المثال نرى في آخر كتاب طرحه المركز القومي للترجمة، وهو “في أثر الملوك والغزاة جيرترود بيل وأركيولوجيا الشرق الأوسط” للباحثة ليزا كوبر، قد وصل سعره إلى 400 جنيه مصري، أي ما يعادل 13 دولارًا أمريكيًّا، ورغم أن المركز القومي يقدّم تخفيضات للطلبة وبعض الفئات بخلاف تخفيضات المعرض، إلا أن التخفيض على سعر كتاب مثل هذا وإذا وصل 50% مثلًا، فما زال باهظ السعر، وهذا مثال كغيض من فيض.
صالة 3 والقارئ البرجوازي
منذ نقله إلى موقعه الجديد في أرض المعارض الدولية عام 2018، تحددت صالة 3 من معرض القاهرة كونها صالة دور النشر العربية، والتي يسعّر فيها الكتاب بشكل أساسي بالدولار الأمريكي، كقيمة ثابتة لتلك الدور التي تشارك في جميع المعارض الدولية، بغضّ النظر عن اختلاف سعر الدولار الأمريكي من مكان إلى آخر.
ولأن أزمة الدولار الأمريكي ليست وليدة الأمس، كانت صالة 3 هي الصالة الأبهظ سعرًا على القارئ المصري في معرض الكتاب في دوراته الأخيرة منذ أزمة الدولار عام 2016، ما جعل من تلك الصالة هي المكان الأهدأ والأقل ازدحامًا في معرض القاهرة، نظرًا إلى أنها تستهدف شريحة معيّنة من القرّاء، أغلبهم يمتلكون رفاهية مادية، لكنها كانت تستقطب جزءًا آخر من الجماهير من شرائح الطبقة المتوسطة والذي يكلف نفسه عناء شراء الكتاب الباهظ من أجل غرض بحثي هام، أو قراءة شديدة الانتقائية.
وبالتأكيد سيواجه الناشرون في صالة 3 هذا العام أزمة كبرى، حتى مع كون جمهورهم يتشكّل من النخبة القادرة ماديًّا لأن زيادة الأسعار قد بلغت 100% عن المعرض الأخير، بالإضافة إلى أن سعر الإيجار قد زاد عليهم أيضًا أكثر من الناشر المحلي المصري.
إذا أراد القارئ أن يتبضع بـ 100 دولار هذا العام فإنه سيتكلف 2965 جنيهًا مصريًّا، أي ما يفوق من الأساس متوسط الحد الأدنى للأجور لقارئ عادي من الطبقة المتوسطة
وتتجلى الأزمة حينما تقاس على قارئ عادي من الطبقة المتوسطة، ففي آخر زيادة للحد الأدنى للأجور في مصر قد وصل إلى 2700 جنيه مصري، وهي زيادة لا تزيد كثيرًا عن العام الماضي حيث كان 2400 جنيه مصري، وفي مقابل تلك الزيادة الضئيلة ما الذي حدث في أسعار كتب دور النشر العربية؟
يمكننا أن نفترض حسبة بسيطة من متوسط أسعار الكتب في صالة 3، فالقارئ الذي تبضّع في العام الماضي بما يوازي 100 دولار على أقصى تقدير، فإنه قد تكلّف 1600 جنيه مصري تقريبًا، وفي موسم استثنائي كموسم معرض الكتاب يمكن للقارئ الشغوف أن يقتطع من راتبه ذلك الشهر لصالح هذا الأمر.
والقارئ نفسه إذا أراد أن يتبضع بـ 100 دولار هذا العام فإنه سيتكلف 2965 جنيهًا مصريًّا، أي ما يفوق من الأساس متوسط الحد الأدنى للأجور لقارئ عادي من الطبقة المتوسطة، وهي زيادة تفوق نسبة 100%، لذلك سيتوجب على دور النشر العربية أن تتنازل في تقديم خصومات مجزية تستطيع أن تحافظ لهم على القارئ من شرائح الطبقة المتوسطة، أما أن يتحوّل جمهورها بالكامل إلى جمهور برجوازي، فهو عدد قليل.
كتب بالتقسيط!
منذ سنتَين، وبسبب الغلاء، طرحت بعض من محلات الحلويات الشرقية، كسلسلة محلات “العبد” وسلسلة محلات “إيتوال” الشهيرة في مصر، مقترحًا لشراء “كحك وبسكويت” عيد الفطر، حيث إن سوق شرائهما كان مهددًا بسبب أزمة كورونا التي أثّرت على الوضع الاقتصادي للمصريين وجعلتهم يعيدون ترتيب الأولويات الخاصة باحتياجاتهم في عالم لا يمكن التنبؤ به، وكان المقترح هو شراء الكحك والبسكويت بالتقسيط من خلال تفعيل نظام مشترَك مع البنوك من خلال البطاقات الائتمانية، وقد فشل المشروع حتى أن الشركات لم تطرحه مرة أخرى.
وفي هذا العام، يبدو أن عبقريًّا من نوعٍ ما قد اقترح على الحكومة فكرة أن يتمَّ استخدام ذلك النظام للتغلب على غلاء أسعار الكتب، والبدء في تجريب ذلك الاقتراح من خلال الدورة الجارية، لكن يبدو أن صاحب الاقتراح قد أغفل أمرًا هامًّا ربما يؤدي إلى فشل المقترح، وهو في طرح السؤال التالي: “لماذا يلجأ المصريون إلى التقسيط؟”.
ما يدفع المصريون من ذوي الدخل المتوسط والمتدني إلى التقسيط ببساطة هو عدم القدرة على الدفع الفوري للاحتياجات الضرورية لحياتهم اليومية، فمثلًا نجد أن نظام التقسيط متّبع بفعالية كبرى ومستمرة حينما يتعلق الأمر بشراء الأجهزة الكهربائية المنزلية، وأجهزة الاستخدام الشخصي كالمحمول، وبدرجة أقل يتبع المصريون في الأحياء الفقيرة نظامًا أهليًّا يبسّط من المعاناة الاقتصادية يسمّى نظام “الشكك”، أي السحب على مدار الشهر والحساب في نهايته، ويكون متبعًا مع محلات البقالة والطعام والصيدليات، نظرًا إلى الضرورة التي تفرضها تلك السلع على حياة المواطن.
أما في مجال الكتب، فلا شك في أن الأزمنة الصعبة تفرض على الكتب كسلعة أن تتراجع إلى هامش الأولويات، وهو ما لن يدفع مواطنًا إلى أن يقع في فخ الدين والتقسيط وإضافة همّ إلى همومه اليومية والاحتياجات التي يحتاج سدادها بشكل شهري، ربما ينجح نظام التقسيط في شراء الكتب الدراسية والتي يتوافر لها مكانًا في المعرض، وذلك لحيوية الكتاب الدراسي الذي تسعى الأسر لتوفيره لأبنائها لرفع مستواهم التعليمي.
إن العوامل السابقة في المقال تجعلنا نتوقع أن تكون هذه الدورة في معرض القاهرة الدولي للكتاب مفصلية في التنبؤ بمستقبل النشر الورقي وسوق الكتب، ولا شكّ أن نجاحها أو فشلها سيكون حدثًا هامًّا سيثير الكثير من النقاشات، مثلما كان الحال في الدورة الأخيرة لمعرض بيروت الدولي للكتاب، حيث أصبحت تتشابه الأزمات من بلد عربي إلى آخر.