ذكرنا في المقال السابق أن الافتراق الأساسي بين الإسلام والمناهج الأخرى في فلسفة العلم قائمة على “مصدر العلم”، فبينما تقصره المناهج المادية على الكون وما تُدركه الحواس، فإن العلم في الإسلام له مصدران: الوحي والكون، فالوحي هو ما لا طاقة للإنسان بأن يصل إليه بمجرد العقل وفيه الإجابة عن الأسئلة الكبرى وتحديد للغايات والطرائق المسلوكة الموصلة إليها، والكون هو موضع التأمل والتدبر والتعلم والعمل.
هذا في المصدر، أما في الطريقة والوجهة والسبيل، فيمكننا إجمال ملامح “فلسفة العلم في الإسلام” -لنفهم مواضع تميزه وافتراقه عن المناهج والفلسفات الأخرى وآثار ذلك على طبيعة العلم- عبر التوقف والتدبر في ثلاث آيات[1]:
أولها قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]
وثانيها قول الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]
وثالثها قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
لقد حددت هذه الآيات طبيعة ومفهوم العلم في الرؤية الإسلامية، ومنها ترشدت وتوجهت الحركة العلمية الإسلامية في التعامل مع الكون، عقلاً وقلبًا، لتأسس على هذه القواعد والمبادئ والمفاهيم.
أولاً: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]
ومن هذه الآية نفهم أن:
- العلم أساس للدين والدنيا، فأول ما حدث في حياة الإنسان أن علمه الله، وبغير العلم لا يكون الإنسان مؤهلاً للاستخلاف في الأرض، بل “لا بد أن نضيف هنا حقيقة أخرى في غاية الأهمية، تلك هي أن كلمة “العلم” وردت في القرآن الكريم مرارًا كمصطلح على “الدين” نفسه الذي علمه الله لأنبيائه عليهم السلام (وذلك) في مقابلة الأهواء والظنون البشرية، ومن ثم يغدو العلم والدين سواء في لغة القرآن”[2]، فالعلم مطلوب لتحقيق مصالح الإنسان ومنفعته.
- مصدر العلم هو الله، وموضوع هذه العلوم هو خَلْقُه: الإنسان أو الكون، ومن ثَمَّ فإنه لن يتعارض موضوع العلم مع الدين أبدًا، وأي تعارض ظاهري مرده إلى سوء فهم الدين أو سوء تحقيق وتحرير الموضوع العلمي.
- العلم منحة من الله، فهو نعمة تستوجب الشكر، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80]، ومن شُكرها أن تُبذل في مرضاة الله وإصلاح الأرض والقيام بواجب الاستخلاف، وأن لا تستعمل فيما هو محرم أو باطل أو إفساد في الأرض.
- وحيث إن العلم منحة من الله ونعمة، فإن كل ازدياد منه موجب لمزيد من الشكر والامتنان، لا كما اعتقد اليونان في أسطورة برومثيوس[3] التي تجعل العلم شيئًا انتُزع من الآلهة على غير رغبتها، لأنه أداة السيطرة؛ ولذا فإن كل ازدياد في العلم هو خصم وانتزاع من الآلهة وإضافة في رصيد الإنسان الذي يطمح أن يمتلك العلم فيمتلك السيطرة فيصير بنفسه إلهًا، وهذا ما قاله جوليان هكسلي بوضوح: “الإنسان كان يخضع لله في عصر الجهل والعجز، أما الآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يحمل على عاتق نفسه ما كان من قبل في عصر الجهل والعجز يلقيه على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله”[4].
فهذا الفارق الكبير بين الرؤيتين يجعل كل ازدياد في العلم – في التصور الإسلامي – موجبًا للخضوع والخشية والامتنان: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، بينما كل ازدياد في العلم – في التصور الغربي – موجب لمزيد من الكبر والغرور والتحدي واللامبالاة وحب السيطرة لدى الإنسان.
- العلم للعمل، فلقد علم الله الأسماء لآدم ليقوم بواجب الخلافة في الأرض، ولهذا فالعلم – في الرؤية الإسلامية – مهتم بالعمل والتطبيق، وحائد عن الإسراف والإغراق في التنظير وما لا ينبني عليه عمل، وهذه هي حقيقة المسألة التي افترق فيها المسلمون عن اليونان؛ فأسس المسلمون المنهج العملي التجريبي وانطلقوا من الجزئيات ليُحكموا الكليات بالتجربة والقياس والبرهان، بينما أسرف اليونان في النظر والتأمل والتنظير، وحاولوا الوصول من الكليات (المجهولة) إلى الجزئيات فتخبطوا كثيرًا[5]، وقد ورد كثيرًا النهي عن التعلق بالظنون والأوهام والحث على طلب البراهين والدلائل والحقائق: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]، {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
- العلم – بما أنه صادر عن الله، ويُتَقَرَّب به إلى الله، ويحاسب الله عليه – هو مظنة الإخلاص والعدل وتحري الحق والإنصاف، وهذا كله ضد الهوى والظلم والانحراف، فيتحقق بذلك البصر المطلوب والبحث المتجرد، فاتباع الهوى مذموم وهو طريق الضلال {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، وهذا هو مفتاح القضية الكبرى التي تمثل مشكلة عويصة، وهي استخدام العلم لخدمة الغرض المسبق، ولَيّ حقائق العلوم أو طمسها لتحقيق الغرض، وتلك مشكلة مازالت بغير حل، ولا يُتوقع أن يكون لها حل مهما حاولت العلوم وضع الشروط والضوابط المنهجية لعملية البحث (خصوصًا في العلوم الإنسانية)، إذ مجالها النفس والعقل، وكل بحث يمكن للباحث أن يُزينه بطلاء يبدو علميًا منهجيًا، وكلما كان متقنًا لصنعته كلما كانت زخرفته أحكم.
ونكتفي الآن بهذا، لنواصل الحديث عن الآيتيْن الأخريين وما تبثانهما من معان ومبادئ ومفاهيم في موضوع العلم في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
——————————————-
[1] هذه الملامح مستفادة من مؤلفات عديدة اهتمت ببحث “إسلامية المعرفة” و”تميز الحضارة الإسلامية” و”التوحيد” برؤية معاصرة، وأخذت منها ما له ارتباط ظاهر بموضوع بحثنا هذا، ولمن أراد الاستزادة فعليه بمؤلفات: سيد قطب ومحمد قطب ويوسف القرضاوي وإسماعيل راجي الفاروقي وأنور الجندي ومحمد عمارة وعماد الدين خليل وطه جابر علواني، وبإصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وخصوصا مجلة إسلامية المعرفة.
وكل هذه المؤلفات تدور في هذا الموضوع حول معاني واحدة وإن كانت بأساليب وصيغ ومداخل متعددة، وضعت هذه المعاني تحت ثلاث آيات لتكون أسهل في الانضباط والاسترجاع والمذاكرة.
[2] د. عماد الدين خليل: حول تشكيل العقل المسلم ص76.
[3] تقول الأسطورة عن برومثيوس “سارق النار”: استطاع برومثيوس سرقة النار المقدسة من الآلهة (التي هي العلم والمعرفة والنور) وأعطاها للإنسان، فأغضب هذا الآلهة التي تريد احتكار العلم لنفسها لتستمر سيطرتها على الإنسان، فانتقمت من برومثيوس ثم ألقت في الأرض الشرور.
[4] محمد قطب: واقعنا المعاصر ص89.
[5] أنور الجندي: معلمة الإسلام 1/355 وما بعدها.