شكّل الفيديو الذي نشرته كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، للأسير الإسرائيلي لديها أفراهام منغيستو، صدمة بالنسبة إلى الاحتلال الإسرائيلي، كونه جاء متزامنًا مع تولّي رئيس أركان جديد المهمة، وهو هرتسي هليفي، خلفًا للرئيس السابق أفيف كوخافي. جاء الفيديو المقتضب الذي تحدث فيه الأسير الإسرائيلي لمدة لم تتجاوز 9 ثوانٍ، ليطرح سؤالًا واضحًا يعبّر عن حالة الجنود الأسرى لدى المقاومة في غزة “إلى متى سنبقى هنا؟”، في إشارة إلى طول مدة أسرهم المتواصلة للعام التاسع على التوالي.
على مدار السنوات الماضية، فشلت جميع الوساطات التي تدخلت في هذا الملف في الوصول إلى صفقة تبادل جديدة، لا سيما الوساطة المصرية، إذ إن الفجوة بين ما تطرحه المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي كبيرة للغاية، ولم يتم الوصول إلى نقاط التقاء تدفع الملف للمضيّ قدمًا.
في أعقاب صفقة التبادل الأولى التي أطلقت عليها المقاومة “وفاء الأحرار”، لجأ الاحتلال إلى سنّ قوانين وقرارات تعرقل الوصول إلى أي اتفاقيات، لا سيما تلك التي تمنع الإفراج عن الأسرى أصحاب المؤبّدات، أو من يطلق عليهم الاحتلال وصف “الملطخة أيديهم بالدماء”. بالتوازي مع ذلك، تصرُّ المقاومة على مطالبها بالإفراج عن محرَّري الصفقة السابقة الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم عام 2014، وقام بإعادة الأحكام السابقة إليهم ضمن محاولته للضغط على المقاومة في غزة لإبرام صفقة على المقاييس الإسرائيلية.
اتجه الإسرائيلي، لتكبيل قدرة المقاومة على تحقيق المزيد من الأهداف في هذه القضية، إلى إطالة أمد التفاوض لضرب الوعي النضالي نفسه، حول قيمة أسر الجنود الإسرائيليين في هذا السياق.
رغم تدخل أطراف أخرى إلى جانب الوسيط المصري، كالوساطة الألمانية أو الوساطة القطرية، إلا أن الملف يراوح مكانه، رغم كل العروض التي قدمتها المقاومة علنًا لتحريك هذا الملف، لا سيما في ظل جائحة كورونا التي عصفت بالعالم عام 2019.
يرتكز الطرح الذي قدّمته المقاومة الفلسطينية على إبرام مرحلة أولى من التبادل تقوم على إنجاز “صفقة إنسانية”، تتمثل في تسليم الأسيرَين هشام السيد وأفراهام منغيستو، بالإضافة إلى معلومات عن هدار غولدين وشاؤول أرون مقابل الإفراج عن الأسرى المرضى والسيدات والأطفال وأسرى صفقة وفاء الأحرار، ثم الانتقال إلى التفاوض على آلية تسليم الجنديَّين غولدين وأرون والثمن الذي سيدفعه الاحتلال مقابل ذلك، وهو ما يرفضه الإسرائيليون بشكلٍ قاطع.
على مدار تلك السنوات، تولّى 4 رؤساء أركان إدارة جيش الاحتلال وما يزيد عن 6 حكومات إسرائيلية، غير أن الملف بقيَ يراوح مكانه دون جدّية إسرائيلية حقيقية في هذا الملف، رغم مطالبات عوائل الجنود إبرام صفقة تبادل جديدة.
سبق أن نشرت المقاومة مقطع فيديو للجندي الأسير هشام السيد وهو في حالة صحية صعبة من داخل أسره في القطاع، من أجل دفع الاحتلال لتحريك الملف إلا أنه لم يستجب لذلك، عدا عن تسجيل صوتي خاص بمنغيستو سرّبته لوسائل إعلامية، إضافة إلى رسائل أخرى بشكل مباشر وغير مباشر.
مفاوضات التبادل
اتجه الاحتلال الإسرائيلي، لتكبيل قدرة المقاومة على تحقيق المزيد من الأهداف في هذه القضية، إلى إطالة أمد التفاوض لضرب الوعي النضالي نفسه حول قيمة أسر الجنود الإسرائيليين في هذا السياق (مضت 9 سنوات على عمليات أسر العام 2014)، وتكليف المقاومة وبيئتها الاجتماعية أثمانًا كبيرة إزاء ذلك، ليس أقلّها الحصار المفروض على قطاع غزة.
عمد الاحتلال إلى جانب ذلك الأسلوب، إلى بروتوكول “هانيبال” الذي ابتكره في ثمانينيات القرن الماضي، أثناء الهجوم على لبنان، والقاضي باستخدام القوة النارية الهائلة ضدّ المجموعة الآسرة ولو أفضى ذلك إلى قتل الجنود الأسرى، ومن ثم تصير القضية إسرائيليًّا قضية تفاوض على رفات أموات لا على جنود أحياء. ولذلك أسرعت دولة الاحتلال للإعلان عن كون كلّ من شاؤول آرون وهدار غولدين ميتَين، لا لتقوّي موقفها التفاوضي مقابل حماس فحسب، ولكن أيضًا لتحشد المجتمع الإسرائيلي خلف موقفها، ولذلك فإنّ عائلتَي الجنديَّين المذكورَين تبدوان، في الغالب، متفهّمتَين لموقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 2014.
في المقابل، عمدت حركة حماس إلى أسلوبها الذي أعلنه الناطق باسم ذراعها العسكري أبو عبيدة في نيسان/ أبريل 2016، بأنه لا معلومات دون ثمن، وأن هناك استحقاقات سيدفعها الاحتلال الإسرائيلي قبل إتمام الصفقة وبعد إتمام الصفقة.
رغم أن هذه السياسة وضعت الحركة في بعض المرّات تحت الانتقاد الداخلي، بما في ذلك من كوادرها وحتى الحركة الأسيرة المحسوبة عليها، إلا أنها واصلت اتّباع أسلوب المناورة والمراوغة على مدار هذه السنوات دون أن تقدم معلومات واضحة عن أرون وغولدن، وأمام نشر الحركة عبر ذراعها العسكري في أكثر من مرة تلميحات تدلّ على وجود أحد الجنديَّين أرون وغولدن أحياء، تعالت الأصوات المطالبة بنشر شيء واضح وعلني يجبر الاحتلال عبر رأيه العام الداخلي على التفاوض.
المشهد الإسرائيلي.. هل عرقل إتمام التبادل؟
لا يمكن القول إن الفجوة الواسعة بين المقاومة الفلسطينية في غزة والكيان الإسرائيلي هي السبب الرئيسي في عرقلة إتمام التبادل، إذ إن حالة عدم الاستقرار السياسي في الاحتلال وإجراء 5 انتخابات خلال 4 سنوات أسهم هو الآخر في ذلك، إذ انعكست هذه الحالة على الآلية التي يتم بها إدارة ملف الجنود والمفقودين الإسرائيليين، وهو ما دفع أكثر من مسؤول إسرائيلي نحو الاستقالة من هذا الملف كان من ضمنهم الضابط موشيه تال، إلى جانب استقالة منسّق شؤون الأسرى والمفقودين يارون بلوم في أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
يمكن هنا استحضار الانتقاد الشديد الذي وجّهه الضابط تال لحكومته قبيل استقالته، حين قال: “الحكومة الإسرائيلية تتصرف بلا حول ولا قوة وتقف عاجزة في ملف الأسرى والمفقودين، ولا تعمل بما فيه الكفاية باتجاه تحرير الأسرى والمفقودين الذين تحتجزهم حركة حماس في غزة”.
إسرائيليًّا، يُرجع المراسلون العسكريون أسباب امتناع الحكومات الإسرائيلية عن إبرام صفقة تبادل إلى ما وصفوه “صدمة ثمن صفقة شاليط” المبرمة عام 2011، وبموجبها أفرجت حماس عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط المحتجَز لديها منذ عام 2006، مقابل إفراج “إسرائيل” عن 1027 أسيرًا فلسطينيًّا من ذوي الأحكام العالية، وأجمعوا أن هذه الصدمة تمنع المستوى السياسي الإسرائيلي من التقدُّم نحو صفقة جديدة.
إلى جانب صدمة صفقة شاليط، اعتمدت الحكومات الإسرائيلية السابقة والحالية نهجًا خاطئًا في ملف الأسرى والمفقودين، حيث تربط ملف إعمار غزة بصفقة التبادل، وأيضًا تساوم حماس من خلال إحكام حصار المدنيين لإجبارها على تقديم تنازلات بملف الأسرى.
خيارات وأدوات المقاومة.. بين إغلاق الملف وأسر المزيد؟
في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2022 تحدّث رئيس حركة حماس في غزة، يحيى السنوار، أن حركته “نمهل الاحتلال وقتًا محدودًا لإتمام هذه الصفقة، وإلا سنغلق ملف الجنود الأربعة إلى الأبد، وسنجد طريقة أخرى لتحرير أسرانا بإذن الله”، وجاء هذا التهديد بمثابة رسالة مختلفة عن الرسائل السابقة التي وجّهتها حركته للاحتلال، إذ كان علنيًّا وأمام الجمهور وليس من خلال الوسطاء.
لكن بالعودة إلى الوراء قليلًا، فقد شهدت معركة “سيف القدس” عام 2021 محاولة أسر لم تنجح حاولت كتائب القسام القيام بها، وهو ما كشف عنه أحد قادة الذراع العسكرية لحماس، حين كشف عن استشهاد 18 مقاومًا خلال المعركة أثناء محاولتهم تنفيذ هذه العملية.
وأمام ما يجري حاليًّا، تبدو حركة حماس مجبرة على مسارَين هما أسر المزيد من الجنود، سواء من خلال ذراعها في غزة أو من خلال المجموعات المقاومة العاملة في الضفة على غرار عملية خطف المستوطنين الثلاثة عام 2014، وإن كان المشهد في الضفة الغربية المحتلة لا يساعد على تنفيذ عملية أسر ناجحة بشكل كامل، نظرًا إلى التعقيدات الأمنية القائمة وصعوبة التخفّي.
إلى جانب تنفيذ عملية أسر جديدة، قد تبدو الحركة مجبرة في نهاية المطاف على تقديم دليل ملموس ومجاني أمام الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي بشأن مصير الجنود، لا سيما إن كان أحدهم أحياء، أو التوجُّه نحو إغلاق الملف على غرار تجربة الجندي المفقود في لبنان رون أراد.
خلال السنوات التي تلت أسر الجنود الأربعة لدى المقاومة، استخدمت ذراع حماس العسكرية الدعاية كوسيلة للضغط على الاحتلال، لا سيما عبر المواد المرئية والصوتية أملًا في تشكُّل رأي عام ضاغط على الحكومات المتعاقبة، وهو ما لم يتحقق، ففي 5 فبراير/ شباط 2020 كشفت الذراع العسكرية لحركة حماس عن تعرُّض جنود أسرى لديه للإصابة خلال قصف إسرائيلي طاولهم ضمن جولة التصعيد التي اندلعت مع المقاومة في مايو/ أيار 2019، وفي 7 يونيو/ حزيران 2021 سرّب القسام تسجيلًا صوتيًّا للجندي الإسرائيلي أفراهام منغستو، وهو يتحدث من أسره ويطالب حكومته بالتدخل من أجل إعادته إلى عائلته هو ورفاقه الجنود الأسرى في القطاع.
وكان الظهور الأول والمصوَّر لأحد الجنود الأسرى في 27 يونيو/ حزيران 2022، حينما كشفت القسام عن تدهور حالة الجندي الإسرائيلي هشام السيد، حيث ظهر الجندي وهو على أجهزة التنفس من داخل محبسه في القطاع.
الأسرى ينتظرون
خلال العامَين الماضيَين تعددت الرسائل الواردة للمقاومة الفلسطينية من داخل السجون الإسرائيلية التي تطالبها بالعمل على تحريرهم من القيود الإسرائيلية، والضغط بكافة الوسائل العسكرية وغير العسكرية لإنجاز صفقة تبادل جديدة أو أسر المزيد من الجنود.
يعكس ما يجري في السجون حاليًّا من قمع إسرائيلي للأسرى وقرارات تنكيلية بحقهم في ظل حكومة بنيامين نتنياهو الائتلافية، حجم الضغط الذي يعاني منه الأسرى الفلسطينيون وصعوبة الواقع داخل السجون الإسرائيلية مع طول المدة.
وبكل تأكيد فإن تكرار الرسائل الواردة من السجون الإسرائيلية يسهم في زيادة الضغط على المقاومة في غزة، التي تعتبر هي الأكثر قدرة على تنفيذ عمليات أسر ناجحة وإبرام صفقة تبادل على غرار ما حصل في الصفقة الماضية عام 2011.
يمكن القول إن المنظر القريب لا يبدو أنه يحمل فرصة إتمام صفقة تبادل جديدة بين الإسرائيليين والمقاومة الفلسطينية، في ظل الأزمات الكثيرة التي يعاني منها الاحتلال وعدم الاستقرار السياسي ونظام الحكم خلال السنوات الأخيرة.
لكن المرجّح أن استمرار التجاهل الإسرائيلي سيدفع المقاومة نحو تنفيذ عمليات أسر جديدة خلال الفترة المقبلة، تلزم الحكومات الإسرائيلية الموجودة على إنجاز صفقة تبادل جديدة يتمّ من خلالها حسم ملف الأسرى الفلسطينيين.