في وصف مدارك علمه، قال عنه المؤرخ العلامة الفتح بن محمد بن خاقان في كتابه “قلائد العقيان ومحاسن الأعيان“، إنه “عالم الأوان ومصنَّفه، ومقرط البيان ومشنَّفه، بتواليف كأنها الخرائد، وتصانيف أبهى من القلائد، حلى بها من الزمان عاطلًا، وأرسل بها غمام الإحسان هاطلًا، ووضعها في فنون مختلفة وأنواع، وأقطعها ما شاء من إتقان وإبداع. وأما الأدب فهو كان منتهاه، ومحل سهاه، وقطب مداره، وفلك تمامه وإبداره. وكان كل ملك من ملوك الأندلس يتهاداه، تهادي المقل للكرى، والآذان للبشرى..”.
وفي كتابه “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة“، مدحه أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني قائلًا: “ومنهم الوزير أبو عبيد البكري، وكان بأفقنا آخر علماء الجزيرة بالزمان، وأولهم بالبراعة والإحسان، أبرعهم في العلوم طلقًا، وأنصعهم في المنظور والمنثور أنقًا، كأن العرب استخلفته على لسانها، والأيام ولّته زمام حدثانها، ولولا تأخُّر ولادته، لأنسى ذكر كنيه المتقدم الأوان: ذرب لسان، وبراعة إتقان”.
وعن براعة ودقة منهجه في الكتابة، يصفه المؤرّخ أبو القاسم خلف الأنصاري الخزرجي بن عبد الملك الأندلسي القرطبي المعروف بـ”ابن بشكوال” بأنه كان “من أهل اللغة والآداب الواسعة والمعرفة بمعاني الأشعار والغريب والأنساب والأخبار متقنًا لما قيّده، ضابطًا لما كتبه، جميل الكتب متهيمًا بها، كان يمسكها في سبابي الشرب وغيرها إكرامًا لها وصيانة”.
في عام 1949 أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” اسمه على فوهة من فوهات القمر، تقديرًا لإسهاماته المتميزة في حقل الجغرافيا، فهو صاحب الموسوعات الخالدة في وصف البلاد والأمصار، بيئات وشعوبًا، وكان يتّسم بالموضوعية والانسيابية والمنهج العلمي الصارم، فاستحقّ أن يكون “جغرافي الأندلس الأول”.. فماذا نعرف عن أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي، الشهير بـ”أبو عبيد البكري”، الذي كانت ملوك الأندلس تتهادى مصنّفاته تهادي المقل للكرى والآذان للقرى، بحسب وصف الرحّالة ياقوت الحموي؟
نشأة إمارة وسيادة
يعود أبو عبيد في نسبه إلى الأديب والمؤرخ والنباتي الأندلسي بكر بن وائل (1014-1094)، وينتمي إلى عائلة ذات جذور عربية خالصة، ولها باع طويل في الوجاهة والسيادة والإماراة، حيث وُلد عام 1021 في قصر والده عبد العزيز في مدينة ولبة (غرب الأندلس)، الذي كان يعدّ من أمراء الطوائف وكان يلقَّب بـ”معز الدولة”.
وكانت عائلة البكري تتمتّع بنفوذ قوي في الأندلس، استمدّوه من ماضيهم الحربي المشرّف في فتح بلاد الغرب، وهو ما أهّلهم لأن يتولّوا العديد من المناصب الراقية وكان على رأسها الوزارة والقضاء، حيث كان جدّه أيوب بن عمرو البكري هو من تولى خطة رد المظالم بقرطبة زمن الدولة الأموية، وهو المنصب الذي لا يتولّاه سوى المقرّبين من بلاط قرطبة وإشبيلية، أنصار المنصور بن أبي عامر وبني عباد.
وما إن سقطت الدولة الأموية في الأندلس في ثلاثينيات القرن الحادي عشر الميلادي، حتى سيطر ملوك الطوائف على ما تحت أيديهم من المدن والقوى والنفوذ، فكان للبكريين مدن ولبة وشلطيش وغيرها من المناطق غرب إشبيلية، حيث أحكموا السيطرة عليها، وفرضوا إمرتهم قرابة 40 عامًا (1011-1051) قبل أن يستولي المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية على كل تلك الإمارات الصغيرة عام 1051، ليضطر أبو عبيد ووالده الذي كان آخر أمراء المدينة للخروج والفرار إلى قرطبة.
“كانت ملوك الأندلس تتهادى مصنّفاته تهادي المقل للكرى والآذان للقرى”.. الرحّالة ياقوت الحموي
كان أبو عبيد في العقد الثالث من عمره حين انتقل مع أهله إلى قرطبة، التي قضى فيها فترة لم تحدّدها الروايات التاريخية الموثّقة، لكنها كانت أكثر محطات حياته ثراءً في المعرفة والعلوم، حيث كانت عاصمة الأندلس في ذلك الوقت ومنارتها العلمية وقبلة العلماء من كل حدب وصوب، وعلى الراجح أن معظم مؤلفاته الخالدة تمَّ تأليفها وهو في قرطبة.
وما أن ذاع صيت أبو عبيد، كأديب مفوّه، وشاعر لا يشق له غبار، وعالم ذي أفق واسع، حتى دعاه أمير ولاية المرية، المعتصم بن صمادح، الذي استقبله بكل ترحاب، وأغدق عليه الحفاوة والنفوذ والجاه، وجعله من المقرّبين منه، ولذا أطلق عليه بعض المؤرّخين لقب “الوزير” واختلفوا هنا بين ما إذا كان تولى الوزارة فعلًا أم مجرد لقب لقربه من الملوك والحكام، وإن كان الرأي الغالب يميل إلى أنه كان لقبًا كما جرى العُرف الأندلسي حيث التوسُّع في الألقاب.
أديب وفلكي قبل كل شيء
نشأته المترفة، كغالب علماء الأندلس التي كانت تتمتع بمستوى معيشي واقتصادي متطور خلال القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، وثراء قرطبة علميًّا، حيث كانت قبلة العلماء وحاضرة العلوم والثقافات؛ ساعدته على التتلمُذ على أيدي كبار المشايخ وأئمة العلماء، فنهل منهم جميعًا في شتى مجالات العلم.
وتلقّى أبو عبيد تعليمه الشرعي واللغوي والأدبي على أيدي ابن حيان القرطبي وأبي العباس أحمد بن عمر العذري وأبي بكر المصحفي وأبي بن عبد البر الحافظ الذي تسلّم منه إجازة رواية، وتفوق فيها بشكل لفت أنظار الجميع، كما برع في الفلسفة والتاريخ، وصار من أكثر أدباء الأندلس شهرة وصيتًا.
بعض الباحثين يصرّون عن جهالة قصر علم أبي عبيد على الجغرافيا دون غيرها من بقية العلوم، مستندين إلى أن كتاباته في بقية العلوم لم تَنَل ما نالته موسوعاته الجغرافية من شهرة واهتمام، لكن الاستناد غير مبرر، فما قرّبه أمير ولاية المرية المعتصم بن صمادح إلا لصيته كأديب رصين، فيما أجمعت الثقات من الروايات التاريخية على أنه لغوي وأديب قبل كل شيء.
وخلال تواجده في المرية كان لقاء أبي عبيد مع الجغرافي الشهير أحمد بن عمر بن أنس، المعروف بـ”أبو العباس العذري” (1003-1085)، وتتلمذ على يده وحضر دروسه، وهنا يميل العلماء إلى أن العذري كان السبب في اهتمام وحبّ البكري للجغرافيا، وتوجيه دفته إليها بعدما كان مشغولًا بالأدب والفلسفة.
“المسالك والممالك”.. جغرافي الأندلس الأكبر
تمثّل موسوعة “المسالك والممالك” للبكري بوابة العبور الرئيسية نحو العالمية، إذ نجح من خلالها في أن يحفرَ اسمه بمداد من ذهب في سجلّات التاريخ كأحد الجغرافيين العظام على مرّ العصور، فبإجماع العلماء والمؤرخين فإن هذا المؤلف أحد المجلدات الرئيسية التي وثّقت جغرافيا الأرض بشكل علمي رصين.
وخصّص أبو عبيد القسم الأول من الكتاب المقسّم إلى قسمَين للحديث عن مدّة عمارة الأرض، مستعرضًا بالتفصيل أبرز الأنبياء والمرسلين ومواطن نزول الوحي، منذ آدم عليه السلام، ومن بعده حواء، ثم الحديث عن كيفية تصور الجنين مرورًا بنوح وعيسى، وصولًا إلى محمد عليه وعلى جميع الأنبياء السلام.
كما تطرّق في هذا القسم إلى تناول بعض الأخبار الخاصة بالعرب قديمًا، كسِيَر الغول والنسناس وعنقاء مغرب والقيافة والزجر والكهانة والعرافة، ثم انتقل إلى عبادات العرب وآلهتهم القديمة، وبيوت النار والصابئة، مشرّحًا حال العرب وبلدانهم بشكل تفصيلي.
وبعد هذه الإطلالة العابرة، بدأ أبو عبيد في الحديث عن بحار العالم السبعة، تاريخها وجغرافيتها، ثم انتقل إلى الأنهار والعيون، مركّزًا على تلك المتواجدة في جيحون وصحراء المغرب وبلاد الأندلس، وصولًا إلى أنهار أوروبا وبلاد الإفرنجة وغيرها من العيون الممتدة على مسار قارّات العالم.
موسوعة “المسالك والممالك” تمثّل بوابة العبور الرئيسية للبكري نحو العالمية، إذ نجح من خلالها في أن يحفرَ اسمه بمداد من ذهب في سجلّات التاريخ كأحد الجغرافيين العظام على مرّ العصور
ثم انتقل إلى الممالك، الهند والصين والترك والسريانيين، وبلاد التبت والسند، ومن بعدهم ملوك الفرس، الأولى والثانية، وملوك اليونان والروم والسودان، وبعدهم البربر والواحات والصقالب والجلالقة، كما ذكر الأكراد وملوك اليمن والحيرة وممالك شبه الجزيرة العربية القديمة، وقد خصّص أبو عبيدة في القسم الأول من كتابه فصلًا طويلًا للحديث عن مكة المكرمة، تاريخها وتضاريسها وأماكنها المقدسة.
وفي القسم الثاني ألقى الضوء بشيء من التفصيل على حائط يأجوج ومأجوج ومنه إلى الشرق الأوسط، مركّزًا على عواصم الشام، لينتقل منها على جناح السرعة إلى أقصى غرب القارة الأفريقية شمالًا حيث بلاد المغرب، مرورًا بمصر وتضاريسها وسماتها الديموغرافية وقد أفرد لها مساحة كبيرة في هذا القسم.
ومن مصر إلى أوروبا، البداية كانت غربًا حيث بلاد الأندلس التي وصفها بشكل تفصيلي، غير أنه ركّز على قرطبة وإشبيلية، وتحدث عن جليقة وبلاد الإفرنج البوتونيين، ولم يغفل التراث الشعبي لسكان تلك المناطق وغيرها من المناطق والبلدان التي ذكرها في كتابه، وتحتوي تلك الموسوعة على أول وصف مفصّل لإمبراطورية غانا الإسلامية في غرب أفريقيا، وتعدّ أحد أكثر المراجع التاريخية التي تناولت تلك البقعة من القارة الأفريقية موثوقيةً.
معجم ما استعجم
لم يكن “المسالك” هو الإسهام الوحيد للبكري في علم الجغرافيا، فهناك “معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع“، والذي يعدّ أحد المعاجم النادرة على مرّ التاريخ التي وثّقت البلدان والأماكن بشكل علمي، وظلّت كمصدر تاريخي موثوق لدى الباحثين والمؤرخين لمئات السنين.
وتشير مقدمة الكتاب إلى اعتماد البكري في توثيقه لأسماء البلدان على مصدرَين، الأول مصدر تاريخي من خلال الكتب والروايات التاريخية التي تناولت تلك البلدان مثل كتاب “صفة جزيرة العرب” للحسن الهمداني؛ أما المصدر الثاني فهو ما نقله عن طريق الرواة من الرحّالة والتجار والمسافرين الذين كان يلتقيهم أبو عبيدة للوقوف على أحوال الشعوب وأسماء البلدان وما شهدته من تطورات.
وممّا ميّز أبو عبيد في تلك الموسوعة ضبطه للكلمات بالعبارة لا بالحركات، وهو ما حافظ على توازن المعجم ووقاه مغبّة الاختلال وضياع قيمته، كما يعدّ أول معجم مكتوب بالترتيب الأبجدي (الألفبائي)، حيث يجمع كل الأسماء التي تبدأ بحرف الألف تباعًا ثم الحرف الآخر والذي يليه وهكذا.
غير أن ما كان يُعاب على تلك الآلية أنه كان يرتّب الكلمات في كل باب على ترتيب الحرفَين الأول والثاني الأصليَّين من الكلمة دون الحروف الأخرى، وهو ما أوقعه في بعض الأخطاء، رغم ذلك ظلت تلك الموسوعة المرجع الأساسي لعلماء المغاربة والأندلسيين، المحدِّثين والإخباريين، منهم القاضي عياض (ت: 544هـ) في “مشارق الأنوار”، والسهيلي (ت: 581هـ) في “الروض الأنف”، والزبيدي (ت: 1205هـ) صاحب “تاج العروس”، وشيخه محمد بن الطيب الفاسي (ت: 1170هـ) صاحب “الحاشية على القاموس”.
ممّا ميّز أبو عبيد في تلك الموسوعة ضبطه للكلمات بالعبارة لا بالحركات، وهو ما حافظ على توازن المعجم ووقاه مغبّة الاختلال وضياع قيمته
وللعالم الجغرافي الأندلسي العديد من المؤلفات الأخرى في اللغة والأدب، مثل كتاب “الإحصاء لطبقات الشعراء”، كتاب “اشتقاق الأسماء”، كتاب “التنبيه على أغلاط أبي علي في أماليه”، كتاب “شفاء عليل العربية”، كتاب “صلة المفصول في شرح أبيات الغريب المصنف (لأبي عبيد القاسم بن سلام)”، كتاب “اللآلي في شرح أمالي القالي”، كتاب “أعلام نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم”، وكتاب “أعيان النبات والشجيرات الأندلسية” وغيرها.
وبعد سنوات طويلة عاشها البكري في المرية، كان من المحظيين برعاية أميرها محمد بن معن الذي قرّبه منه ومنحه الجاه والنفوذ، عاد إلى قرطبة بعد غزوة المرابطين ليقضي بها ما تبقّى من عمره، ليتوفى بها في شوال عام 487هـ، 1094/1095م، ويدفن بمقبرة أم سلمة، تاركًا خلفه إسهامات جليلة وإرثًا ثريًا في علم الجغرافيا لا تزال مرجعًا للعالم حتى اليوم.