قبل أيام، أعلنت مصالح الرصد الجوي في تونس تسجيل انخفاض حاد في درجات الحرارة القصوى بين 5 و12 درجة بالشمال والمرتفعات، وبين 12 و17 ببقية الجهات، وذلك بعد أسابيع من موجة حر غير عادية دفعت بعض التونسيين للذهاب إلى الشواطئ في مشهد يذكرنا بفصل الصيف.
استبشر التونسيون خيرًا بهذا الخبر، خاصة أن انخفاض الحرارة رافقه نزول أمطار متفرقة بعدة مناطق في البلاد، وأمطار غزيرة بالشمال الغربي مع تساقط البَرَد بأماكن محدودة، إضافة إلى تساقطات ثلجية بالمناطق الجبلية الغربية التي يتجاوز ارتفاعها 800 متر.
صور وفيديوهات كثيرة للأمطار والثلوج غزت مواقع التواصل الاجتماعي، ما يؤكد حجم استبشار التونسيين بالأمطار وفرحهم بالغيث النافع، ذلك أن بلادهم تشهد جفافًا لم تعرف له مثيلًا في السنوات الأخيرة نظرًا إلى انخفاض معدل التساقطات.
جفاف يمكن معاينته في السدود الفارغة وفي المراعي وبين قطعان الماشية، ما من شأنه أن يؤثر سلبًا على قوت التونسيين وأمنهم الغذائي، خاصة أن السلطات الحاكمة لم تحرك ساكنًا في هذا الخصوص، فهي منشغلة بمسائل “أهم” وفق نظرها.
سدود فارغة
مر أكثر من شهر ونصف على دخول فصل الشتاء في تونس، فعادة ما يشهد هذا الفصل تساقط كميات كبيرة من الأمطار، لكن هذه السنة كان الوضع استثنائيًا، في ظل انخفاض معدلات تساقط الأمطار وارتفاع متواصل لدرجات الحرارة خلال الأشهر الماضية.
وفقًا للمعهد الوطني للرصد الجوي، احتل شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي المركز الثالث لأشهر نوفمبر/تشرين الثاني الأشد حرارة في البلاد التونسية منذ عام 1950، وتجاوز فيه متوسط درجات الحرارة المعدل المرجعي بمقدار 1.5+ درجة، فيما سجل شهر ديسمبر/كانون الأول درجات حرارة تجاوزت 25 درجة في العديد من مناطق البلاد.
تغيرات مناخية أثرت سلبًا على منسوب الموارد المائية في البلاد، خاصة السدود، وقد أظهرت العديد من الصور المتداولة سدودًا خاوية في العديد من مناطق البلاد، ما يؤكد حجم الخطر الذي تعيشه تونس في هذه الفترة.
عرفت الأسواق ندرة في عدة خضراوات، ما انعكس على أسعارها التي شهدت ارتفاعًا قياسيًّا
كشفت أحدث الأرقام الصادرة عن المرصد الوطني للفلاحة (حكومي) عن نزول المخزون العام بالسدود يوم 16 يناير/ كانون الأول الحاليّ إلى 635 مليون متر مكعب فقط، فيما بلغت نسبة امتلاء السدود في الفترة نفسها معدل 27.4% من طاقتها للخزن.
وسجّل سد سيدي سالم – أكبر السدود التونسية – نسبة امتلاء بـ15% من طاقته للخزن، وتتقلص نسبة الامتلاء من يوم إلى آخر، فيما يكاد الماء ينضب في سد سيدي البراق بنفزة الواقعة شمال العاصمة التونسية، أما في سد سليانة (شمال غرب) فالكميات الحاليّة لا تتجاوز 4 ملايين متر مكعب، ويتسع السد لنحو 27 مليون متر مكعب.
وتمتلك تونس نحو 37 سدًا أبرزهم سد سيدي سالم، إضافة إلى البحيرات الجبلية وتقع أغلبها في شمال البلاد، لذلك يشهد توزيع الثروة المائية بين الجهات تفاوتًا شديدًا، إذ يحتكر إقليم الشمال وحده 60% من المياه السطحية والجوفية، وفقًا لدراسة أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
الأمن الغذائي في خطر
بداية يناير/كانون الثاني الحاليّ، سجّلت تونس هطول بعض الأمطار المتفرقة، إلا أنها تظل غير كافية، ما من شأنه أن ينعكس سلبًا على الأمن الغذائي في البلاد، فالأولوية الآن تتمثل في توفير مياه الشرب ثم الزراعات الكبرى والأشجار المثمرة وأخيرًا الخضراوات.
ويقدر النصيب السنوي للفرد من الماء في تونس بـ450 مترًا مكعبًا، متجهًا نحو مزيد من الانخفاض في عام 2030 ليبلغ 350 مترًا مكعبًا، فيما يحدد العالم مقياسًا لشح المياه في أي بلد وهو ألا تقل حصة الفرد عن 1000 متر مكعب سنويًا، وحدد خط الندرة والشح المطلق أو الفقر المدقع إذا قل عن 500 متر مكعب للفرد سنويًّا.
حتى مياه الشرب ليست بمأمن عن الأزمة، وغالبًا ما تسجل عدة مناطق من البلاد عشرات التبليغات عن انقطاع المياه يوميًّا، خاصة في فصل الصيف، في الوقت الذي يزداد فيه الاستهلاك نتيجة ارتفاع درجات حرارة الطقس.
هذا الوضع دفع السلطات الجهوية في عدد من المحافظات، على غرار سليانة وباجة، إلى دعوة الفلاحين بالمناطق السقوية إلى عدم برمجة زراعة الخضراوات السقوية، والتركيز فقط على الزراعات الكبرى والغراسات دون سواها، كونها لا تتطلب مياهًا كثيرةً.
تجليات هذه الأزمة ظهرت في الأسواق التونسية، إذ عرفت الأسواق ندرة في عدة خضراوات، ما انعكس على أسعارها التي شهدت ارتفاعًا قياسيًا أثر على المقدرة الشرائية للمواطنين التونسيين، فقد بلغ سعر الكيلوغرام من الطماطم مثلًا 0.65 دولار، فيما بلغ سعر كيلوغرام البطاطا 0.65 دولار.
كما يتوقع اتحاد الفلاحة حصادًا هزيلًا للحبوب هذه السنة، بسبب الشح الكبير في الأمطار، فأغلب الزراعات الكبرى في تونس رعوية وليست سقوية، أي أن لها علاقة مباشرة بالأمطار، فإن كانت التساقطات جيدة يكون المحصول جيدًا، وإن كانت ضعيفة لا يكون هناك محصول من الحبوب.
هذا الوضع نتيجة حتمية لسنوات متتالية من تراجع تساقط الأمطار وغياب سياسات فعلية لترشيد استهلاك المياه في بلد يقبع تحت خط الشح المائي
سيزيد نقص الأمطار من متاعب المواطنين والدولة التونسية، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها وعجزها عن اقتناء الحبوب من الأسواق العالمية لارتفاع سعرها، منذ بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا التي لا يبدو أنها ستعرف نهاية في وقت قريب.
وسجل الميزان التجاري الغذائي حتى شهر ديسمبر/كانون الأول 2022 عجزًا بقيمة 2920.2 مليون دينار، أي ارتفاع بنسبة 50% مقارنة بعام 2021 (1942.1 مليون دينار)، وفق المرصد الوطني للفلاحة.
تظهر تجليات الأزمة أيضًا في سوق الدواب، إذ اضطر العديد من مربي الماشية إلى بيع قطعانهم لصعوبة توفير الأعلاف، وشهدت أسعار الماشية في أسواق تونس ارتفاعًا كبيرًا ووصلت مستويات قياسية لم تشهدها من قبل.
ويخشى التونسيون أن يبقى الوضع على حاله، خاصة أنهم على أبواب شهر رمضان المعظم الذي يشهد عادة ارتفاع استهلاك الخضراوات والغلال، فضلًا عن لحوم الأغنام والأبقار، ما سيزيد من أزماتهم المتعددة.
سُلطة في سُبات
هذا الوضع نتيجة حتمية لسنوات متتالية من تراجع تساقط الأمطار وغياب سياسات فعلية لترشيد استهلاك المياه في بلد يقبع تحت خط الشح المائي، فضلًا عن كونه نتيجة صمت السلطة وعدم اهتمامها بهذا الملف بالدرجة المطلوبة.
حتى صلاة الاستسقاء وقفت السلطة ضدها بعض المرات وأمرت بإلغائها في مناسبات، كون الداعين لها لم يتبعوا الإجراءات القانونية في هذا الشأن، ما أثار حفيظة العديد من التونسيين وجعل عددًا كبيرًا منهم يعدلون عن المشاركة.
تعلم السلطة أن السدود الحاليّة تجاوزت عمرها الافتراضي، وتحتاج إلى صيانة ورفع الأتربة عنها حتى توسع من طاقة تخزينها، لكنها لم تحرك ساكنًا، وتفاقمت المشكلة في العديد من السدود، ما أدى إلى خروج بعضها عن الخدمة لتأخُّر الصيانة.
كما أن السدود الموجودة لا تفي بالحاجة، وتحتاج البلاد إلى سدود وبحيرات جبلية جديدة، بشهادة مسؤولي وزارة الفلاحة وباقي الإدارات المعنية، لكن الدولة لم تخصص أي اعتمادات مالية لهذا الشأن.
التوعية أيضًا ضعيفة، فالدولة لم تستغل وسائل الإعلام لتوعية التونسيين بمدى خطورة الوضع في البلاد فيما يخص المياه، وركزت كل اهتمامها على المناكفات السياسية والصراعات الحزبية.
وضع خطير للغاية تعيشه تونس على وقع تراجع سقوط الأمطار وسنوات الجفاف المستمرة، ما يفرض على الدولة والشعب بحث الحلول الكفيلة بتجاوز هذه الأزمة، حتى لا تتفاقم أكثر وتصبح حياتهم وحياة الأجيال القادمة في خطر.