يبدو أن الأحداث تتسارع في تونس لإنهاء الوضع المحلي من خارجه. هناك خبر يقين أن رحى معركة تدور بين فرنسا والولايات المتحدة على مستقبل تونس، فهل سيتم تناولنا بـ”إيتكات” المائدة الفرنسية أم على طريقة الكابوي الأمريكي؟ في الحالتين النبيذ سيكون تونسيًّا، فصناعة النبيذ التونسي المرغوب فرنسيًّا لم تتأثر بالجفاف.
يقينًا أن شحنة الصدقة اللييبة كشفت أننا وصلنا إلى التسول الغذائي، سنتشبَّه بمن يرفض الصدقة ويقبل الهدية ونواصل ترويج الغرور الكاذب عن بلد سيد ذي تاريخ مجيد، سنكتب هذه الورقة بلا معلومات يقينية عن اللحظة، إذ يتصاعد علينا بخار كواليس فيزيدنا يقينًا أن مصير البلد لم يعد بيد أبنائه، وأن رأيهم غير محدد في صناعة مستقبلهم، بل إن أقصى مطامحهم أن يستعملهم الخارج في صيانة مصالحه المحلية.
ما يروج عن حركة السفير الفرنسي
يجمّع السفير الفرنسي أدواته المحلية محتفظًا بعنصر مهم ومركزي في تصور بلده للحل، وهو حياكة مخرج سياسي لا يشارك فيه الإسلاميون، هذه الأدوات هي أولًا النقابة لكن بتقديم شق الأمين العام (السيد الطبوبي) أو البيروقراطية النقابية، وإخفاء الوجه المتطرف للنقابة ممثّلًا في الوطد خاصة واليسار المتطرف عامة.
ثانيًا صناعة وجه جميل ومقبول للقوة التجمعية بتقديم السيد فاضل عبد الكافي، لتجميع طبقة الأغنياء خلفه وإخفاء الفاشية وذلك لإعادة تسويق التجمعيين أو بالأحرى القوة المالية الصلبة التي لم تفقد مراكزها، لكنها تستنكف حاليًّا السير وراء الفاشية وقضاياها الاستئصالية.
ثالثًا إعادة تدوير السيد غازي الشواشي بصفته وجهًا معتدلًا ومفاوضًا غير استئصالي لضمّ فلول قوى الحداثة المشتَّتة، ويرجّح أن استقالته من حزب التيار كانت باقتراح فرنسي للتنصُّل من الفريق الاستئصالي في حزبه والتبرُّؤ من إثم تنظير الزوجَين عبو للانقلاب، وهذا التطهُّر ظهر في خطاب الهيئة القيادية الجديدة التي غاب عنها الزوجان.
في الحل الفرنسي تعتبَر هذه الخطوط/ القوى قادرة على التعايش، ويمكنها إرسال رسائل للإسلاميين أن لن يتم استئصالهم لكن بشرط عدم الظهور في الصورة، وليحمدوا ربهم على السلامة حتى حين (لأن هذه المعركة ضرورية لإبقاء درجات التوتر عالية في تونس).
ما هي قدرات هذه الأطراف في التحرك على الأرض وصناعة جمهور يمكن أن يصير قاعدة حكم ولو لفترة انتقالية؟ هل تكفيها الآلة الإعلامية لصناعة كتلة حكم؟ هل ستقبل فكرة أن التجمعيين هم عصب البلد العارف بخفاياه والقادر على القيادة، خاصة بعد أن تمَّ إلصاق فشل العشرية بالإسلاميين وحدهم بقصف إعلامي مركّز؟
في كل الحالات ما زال الفرنسي يخطط لتونس دون إسلاميين، ويجد أدوات مستعدة للتنفيذ.
ما يروج عن حركة السفير الأمريكي
أذكّر القارئ أني أبني على أخبار رائجة لكن دون مصادر مطّلعة، ومن هذه الأخبار أن شحنة الغذاء الليبي التي وُجّهت إلى تونس فجأة وبلا مقدمات كانت بتوجيه من مدير المخابرات الأمريكي، الذي زار ليبيا بالتزامن مع مشاركة رئيسة حكومة الانقلاب في منتدى دافوس بورقة سياسية تتضمن تسويق حلول الانقلاب لأزمات العالم عامة وأزمة تونس خاصة.
وجاءت الشحنة الغذائية هذه لتبرز أن تونس قد وصلت إلى حالة المجاعة بفعل الانقلاب نفسه، بما يجعل انتخابات الدور الثاني النيابية لا تجري على الأرض وإنما في ذهن المنقلب، ولا نتيجة لها على شعب مجوّع (قد نكتب قريبًا أن شحنة الغذاء نسفت برلمان المنقلب قبل انعقاده).
لماذا ليبيا وحكومة الدبيبة؟ وهل هي جزء من خطة أمريكية؟ هنا تتبيّن لنا علامات خط سير السفير/ الإدارة الأمريكية التي تضع تونس ضمن خطة أوسع تضمّ عناصر كثيرة، يكون الإسلاميون في كل المنطقة (لا في تونس وحدها) جزءًا منها أو فاعلًا رئيسيًّا فيها (وهذا جوهر الخلاف مع الموقف الفرنسي).
خط السير الأمريكي في ما يبدو لنا يبني مع القوى الفاعلة على الأرض ولا يحوّل رغباته إلى قوانين، والإسلاميون قوى فعلية يمكن أن تساهم في تهدئة المنطقة، كما يمكن أن تبقى بؤر التوتر ساخنة إذا تمَّ تهميشهم على الطريقة الفرنسية، وقد تعلّم الأمريكي في أفغانستان أن حتى القصف السجادي لا ينهي وجود الإسلاميين، المعتدلين منهم والمتطرفين.
السؤال الجانبي ماذا يقدم الأمريكيون البراغماتيون لحكومة الدبيبة لتدخل في خطتهم للمنطقة؟ يعاني الدبيبة وحكومة طرابلس من ضغط النظام المصري في الشرق بدعمه لحفتر الذي يعطّل كل الحلول السياسية ومنع الحفاظ على وحدة القطر الليبي، وقد اطّلعنا قبل هذا على أخبار كثيرة تفيد أن النظام المصري قايض دعمه لحفتر بالنفط خارج مسالك التوزيع المعروفة، ولذلك فإن إنهاء التخريب المصري في الشرق الليبي قد يكون ثمنًا مقبولًا في طرابلس تهون دونه شحنة الغذاء إلى تونس.
شحنة الغذاء المتزامنة مع منتدى دافوس تركت يقينًا لا يحتاج إلى أخبار ثابتة، لا يمكن استثمار أموال في بلد موشك على المجاعة، وهناك يقين عام بأن فرنسا لن تحل المشكلة الاقتصادية للمنقلب بإمكاناتها الذاتية، لقد استكمل الحصار حتى آخر فصوله وهذا بعض الخطة الأمريكية التي تغنيها عن تدخُّل مباشر على طريقة بنما.
ماذا في الخطة الأمريكية أكثر من إدماج الإسلاميين في الحل؟ خاصة أن المرغوب ليس منحهم كل السلطة وإنما إشراكهم بغاية تحييدهم.
اجتماع نقابة العمال ونقابة الأعراف في النرويج قابل للقراءة على أنه أكثر من مشاركة في دورة تدريبية على الحوار الاجتماعي (الكيوت)، بل هو عمل منهجي (بعيدًا عن الأضواء) لإلزام القوى الداخلية بحدود العمل النقابي والابتعاد عن المشاركة السياسة بواجهة نقابية، وهو ما كان يجري منذ الثورة فيفسد العمل السياسي، وتقليم أظافر النقابات محليًّا هو أيضًا تقليم أظافر الغريم الفرنسي بحرمانه من أقوى أداة بين يدَيه في الداخل التونسي.
اليقين الثابت لقد تخلّى التونسيون بكل قواهم الصلبة والليّنة عن بلدهم، وأن الحل لم يعد تونسيًّا بل نحن على طاولة تشريح دولية والجميع لديه مباضع إلا جثتنا.
بل نذهب إلى حد القول إن خطة اللبرلة المرغوبة أمريكيًّا قد فُرضت في هذا المنتدى، ولم يبقَ إلا التسليم والتنفيذ.
من جانب آخر، تبدو الخطة الأمريكية متأنّية في بلد يقف على حدود المجاعة، بينما يبدو أن الفرنسيين مرّوا إلى التنفيذ بصناعة فريقهم المحلي. هل ينتظر الأمريكيون إعلان فشل الدور الثاني من انتخابات المنقلب ثم إعلان خطتهم كاملة؟ سيقول المنقلب وجوقته الإعلامية إن الانتخابات ناجحة، فهو لا يرى إلا ما يريد، لكن عيون الآخرين أحدُّ من عينيه ولهم مناظيرهم الدقيقة.
الكلمة المناسبة بعد الإشعار بالمجاعة القريبة هي بدء الحديث عن احتمال الاضطراب الاجتماعي الشامل (أو لنقل شرارة احتراب أهلي)، ويمكن للإسلاميين المشاركة في الخطة بإشعال عجلات مطاطية ونقل الحرب إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
منع الحرب الأهلية يقتضي الاحتياط/ الاستباق بتحريك القوة الصلبة لفرض الهدوء، وهذا مدخل لغوي معقول لمنع القول بانقلاب عسكري ترفضه الولايات المتحدة نفسها فضلًا عن المحكمة الأفريقية.
هل لدى الأمريكيين حكومة مدنية في درج مكتب السفير تغطي على الدبابة إذا تحرّكت للحسم؟ لا يمكن الإجابة بأي درجة من اليقين بناءً على قراءة في بخار أخبار من غير مصدر رسمي.
لكن اليقين الثابت لقد تخلى التونسيون بكل قواهم الصلبة والليّنة عن بلدهم، وأن الحل لم يعد تونسيًّا، بل نحن على طاولة تشريح دولية والجميع لديه مباضع إلا جثتنا، ولا نرى الأمريكيين يخسرون صداقتهم التاريخية مع الفرنسيين من أجل تونس أو من أجل الإسلاميين، ومدار الخلاف من يقف خلف كاميرا الإخراج.
يقين أخير: المنقلب لم يعد جزءًا من أية خطة دولية، وقد كشف توتُّره العالي عن معرفته بمصيره.