ترجمة وتحرير: نون بوست
الاقتصاد المصري يعاني بعد أن فقدت العملة الوطنية قرابة نصف قيمتها خلال أقل من عام، لتصل إلى أدنى مستوى تاريخي لها يتمثّل في 32 جنيهًا للدولار الأسبوع الماضي، قبل أن تتراجع قليلا. كذلك؛ ارتفع معدل التضخم السنوي إلى أكثر من 20 بالمئة وأصبحت محلات البقالة خالية بشكل واضح، حيث إن العديد من المنتجات المستوردة لم تعد متوفرة، كما تضاعف سعر الأغذية الأساسية، مثل البيض وزيت الطهي.
لا عجب أن انهيار الجنيه وارتفاع الأسعار هما حديث الساعة في مصر؛ حيث قال أحد العملاء في أحد المقاهي الشعبية في القاهرة: “البلاد في حالة سقوط حر”، بينما يشير العديد من المصريين في السر بأصابع الاتهام إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي باعتباره مسؤولًا عن الأزمة.
أدت المجهودات المبذولة للتخفيف من حدة الوضع إلى تفاقم المشكلة بشكل مؤقت على الأقل؛ فقد أعلن صندوق النقد الدولي أن الحكومة المصرية وافقت الأسبوع الماضي على الانتقال إلى سعر صرف مرن وخصخصة الشركات المملوكة للدولة وإبطاء الاستثمار العام في المشروعات القومية. وكان تعويم الجنيه، على وجه الخصوص، أحد الشروط المهمة بالنسبة لصفقة القرض البالغة 3 مليارات دولار التي أبرمتها مصر مع صندوق النقد الدولي الشهر الماضي من أجل حل الأزمة الاقتصادية ونقص العملات الأجنبية.
وألقى الرئيس السيسي باللوم على حرب أوكرانيا فيما يتعلّق بالصعوبات الاقتصادية، ففي الأسابيع التي أعقبت اندلاع الحرب، باع المستثمرون الأجانب أذون الخزانة المصرية، مما أدى إلى تدفق ما يقدر بنحو 20 مليار دولار إلى خارج البلاد. ومن أجل الاحتفاظ بالدولار، فرضت مصر قيودًا على الاستيراد، مما أضر بدوره بالصناعة المحلية التي تعتمد بشدة على الاستيراد، كما وضعت البنوك أيضًا قيودًا رسمية على عمليات سحب العملات الأجنبية والمدفوعات.
في المقابل؛ يجادل المحللون بأن الحرب الأوكرانية كشفت فقط عن المشاكل الهيكلية الموجودة مسبقًا في الاقتصاد المصري وأظهرت أن النموذج الاقتصادي لم يكن مستدامًا. ويعتقد محمود سالم، المحلل والكاتب المقيم في برلين، أن ربط البنك المركزي لسعر الصرف، وإبقاء قيمة الجنيه مرتفعة بشكل مصطنع، كان السبب الجذري للمشكلة؛ حيث قال سالم لقناة الجزيرة: “لقد تحكموا في الأرقام لفترة طويلة جدًا”، وأضاف أنه حتى عندما سمح البنك المركزي بتخفيض قيمة الجنيه، فإنها لم تكن سوى “تخفيضات محكومة، ولم يكن أي منها (التخفيضات منذ مارس/آذار 2022) حقيقيًا.”
ينبع جزء كبير من شرعية السيسي من “عامل الإبهار” للمشاريع العملاقة، والذي من شأنه أن يقنع السكان بأن السيسي يبني مصر جديدة ومزدهرة وقوية
وحتى لو انتقلت العملة إلى التعويم الحر؛ فإن المشاكل الاقتصادية لمصر لن تنتهي بعد؛ حيث يأتي اشتراط صندوق النقد الدولي على مصر بإبطاء الاستثمارات العامة وخصخصة أصول الدولة في الوقت الذي تضخ فيه الدولة مليارات الدولارات في مشاريع البناء الضخمة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، ومشتريات الأسلحة من دول مثل ألمانيا وإيطاليا. وفي غضون ذلك؛ تضاعف الدين الخارجي لمصر أربع مرات خلال العقد الماضي.
ووصف وائل جمال، الخبير الاقتصادي من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، المشاريع القومية بـ”الفيَلة البيضاء”، مشيرًا إلى أنها “تبتلع الأموال” لكنها ليست ذات قيمة حقيقية، كما أنها “تجعلك تبدو في صورة جيّدة، لكنها تدمّرك”.
ووفقًا لجمال؛ لا يوجد اجتهاد مناسب في إطار المشاريع الوطنية، إذ أنها “تمتلك عقلانية اقتصادية ضعيفة للغاية ولا تخلق وظائف مستدامة”. ويوافق سالم على هذا الكلام مضيفا أنه “ليس هناك عائد من استثمار المشاريع العملاقة”، لكن ما إذا كانت الحكومة ستوقف بالفعل مثل هذه المشاريع لا يزال موضع شك.
وفي مؤتمر اقتصادي عُقد في أكتوبر/تشرين الأول لمعالجة الأزمة الاقتصادية؛ تعهد السيسي بمواصلة المشاريع الوطنية وأن يظل الجيش نشطًا فيها، لكن هذه التصريحات تتعارض بشكل مباشر مع تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في 10 يناير/كانون الثاني، الذي ذكر أن مصر وافقت على إبطاء الاستثمارات العامة والحد من دور الجيش.
في الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة أن المشاريع العملاقة حيوية لتنمية مصر؛ أعرب السيسي عن كرهه لدراسات الجدوى في عدة مناسبات خلال السنوات القليلة الماضية، لأنها ستعيق سرعة تنفيذ المشاريع. وفي وقت سابق من هذا الشهر؛ أقر السيسي بأن مصر تمر بفترة صعبة، لكنه حذر المصريين من الاستماع فقط للحكومة فيما يتعلق بالاقتصاد، وعدم تصديق “الهراء” بأن أموال الدولة قد ضاعت.
خبير اقتصادي: بيع أصول الدولة، مثلما يرغب صندوق النقد الدولي، هو مجرد وسيلة “لربح الوقت، لكن هناك خطر من أن يؤدي هذا إلى استنزافك حتى لا يظل هناك المزيد من الرهانات للبيع
وقال تيموثي كالداس، الزميل السياسي في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط ومقره واشنطن إن: “المشاريع الوطنية هي وسيلة لتوزيع الرعاية على النظام”؛ فإلى جانب الشركات المصرية والأجنبية الكبرى، كثيرًا ما تُمنح الكيانات المملوكة للجيش عقودًا في مشاريع البناء والبنية التحتية، الأمر الذي يربط الجيش بقيادة السيسي، حيث أن المشاريع هي أيضا وسيلة لنمو الناتج المحلي الإجمالي، وقال كالداس أيضًا: “بفضلهم، ظلت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تحت السيطرة إلى حد ما”.
علاوة على ذلك؛ فإن المشاريع العملاقة هي مفتاح “الجمهورية الجديدة” التي أعلن عنها السيسي في عام 2021. وينبع جزء كبير من شرعية السيسي من “عامل الإبهار” للمشاريع العملاقة، كما وصفه الاقتصادي روبرت سبرينغبورغ في مقال العام الماضي، والذي من شأنه أن يقنع السكان بأن السيسي يبني مصر جديدة ومزدهرة وقوية.
بالقرب من ميدان التحرير في القاهرة؛ وُضعت العديد من اللافتات التي تحمل صورة السيسي على طول الطريق، والتي تقول: “ثماني سنوات من الإنجازات”، في إشارة إلى السنوات التي قضاها الرئيس في السلطة، والإنجازات هي: الجسور والطرق والسكك الحديدية والمدن الجديدة.
إذن ماذا سيحدث إذا لم تتبع مصر الإصلاحات التي حددها صندوق النقد الدولي، واستمرت، على سبيل المثال، في ضخ الأموال في المشاريع العملاقة بينما تواصل الشركات العسكرية التوسع؟
يعتقد سالم أن شروط صندوق النقد الدولي جيدة من الناحية النظرية، لكنها ليست واقعية من الناحية العملية، حيث لا يمكن فرضها، مضيفا: “كيف يمكنك ضمان خروج الجيش من الاقتصاد؟ وفي أي واقع يتمتع صندوق النقد الدولي بهذا النفوذ لتحقيق ذلك؟”
من ناحية أخرى؛ يعتقد كالداس أن صندوق النقد الدولي لديه النفوذ فعلًا، حيث قال إن “مصر تعتمد على التمويل الخارجي من الخليج وصندوق النقد الدولي، لذلك يحتاج صندوق النقد الدولي إلى الإصرار على تنفيذ قراراته”.
يبقى السؤال الكبير: هل سيحاسب صندوق النقد الدولي مصر، من خلال عدم تقديم الجزء التالية من القرض – في حال عدم استيفاء الشروط؟
قال كالداس: “لست متأكدا”، كما أن حقيقة استمرار صندوق النقد الدولي في الإشادة بالسياسة الاقتصادية لمصر باعتبارها قصة نجاح على مدار السنوات الماضية، بينما اتضح أنه تم ربط الجنيه واقتراض المليارات من أجل مشروعات وطنية، لا يبشر بالخير للمستقبل.
لا يثق جمال في نجاعة خطة الإصلاح التابعة لصندوق النقد الدولي. ففي عام 2016؛ تلقت مصر قرضًا بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، والذي كان مرتبطًا بإجراءات التقشف والتعهدات لتحفيز القطاع الخاص؛ حيث أشار جمال إلى أن ذلك “قد زاد الوضع سوءًا”، كما يعتقد أنه بدلًا من الخصخصة، فإن استثمار المال العام هو الخيار المناسب.
ومع ذلك، بالنسبة لجمال، لن يكون ذلك في شكل مشاريع عملاقة حالية، بل في شكل مساعدة اجتماعية و”مشاريع حقيقية” تعزز الإنتاج وتفتح أسواقًا جديدة. وقال جمال إن بيع أصول الدولة، مثلما يرغب صندوق النقد الدولي، هو مجرد وسيلة “لربح الوقت، لكن هناك خطر من أن يؤدي هذا إلى استنزافك حتى لا يظل هناك المزيد من الرهانات للبيع، كما يمكن أن تؤدي هذه الأنواع من السياسات إلى التخلف عن السداد”.
المصدر: الجزيرة