ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما تغلّب فريق “لوس أنجلوس رامز” على فريق “سينسيناتي بنغلس” في مباراة بطولة الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية في شباط/ فبراير الماضي، حققت مجموعة غير متوقعة من اللاعبين نجاحًا كبيرًا من نوع آخر دون أن يبرحوا غرف المعيشة في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
في إحدى أهم الليالي التلفزيونية الأمريكية التي يتابعها 99 مليون مشاهد، تخلل بثّ مباراة السوبر بول (المباراة النهائية السنوية للدوري الوطني لكرة القدم) سلسلة من إعلانات العملات المشفرة. ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن كيفية بلوغ هذه الأصول الرقمية مرحلة النضج عندما استحوذت على فترات ذروات البث التي كان يهيمن عليها في السابق عمالقة مثل كوكا كولا وجنرال موتورز.
ظهر في إحدى إعلانات تلك الليلة الممثل الكوميدي لاري ديفيد في دور “لوديت” وهو يستبعد أكبر الاختراعات البشرية – من العجلة إلى مصباح إديسون، في إطار إعلان حول منصة تبادل العملات المشفرة “إف تي إكس” التي تقدم “طريقة آمنة وسهلة للدخول إلى عالم العملات المشفرة”. وعندما أتى دوره، قالت شخصية ديفيد: “لا أعتقد ذلك – وأنا لست مخطئًا أبدًا بشأن هذه الأمور”.
لكن لم يمرّ وقت طويل على هذا الإعلان قبل انهيار العديد من شركات العملات الرقمية الكبيرة في الأشهر الأخيرة، حيث يواجه القطاع الذي وعد ببديل للنموذج المالي العالمي التقليدي أسئلة وجودية. في أيار/ مايو من السنة الماضية، انهارت عملتا “تيرا يو إس دي” و”لونا”، وفقدت كل منهما قيمتهما تقريبًا بين عشية وضحاها لتُمسح 45 مليار دولار من سوق التشفير في يوم واحد. اُغلِق صندوق التحوط “ثري آروز كابيتال” ومقره سنغافورة فجأة، وسرعان ما تقدم مقرضو شركتي “كريبتو فوايجر ديجيتال” و”سليسيوز نيتورك” – اللتان أقرضتا أموالًا لشركة “ثري آروز كابيتال” – بطلب إفلاس.
في تشرين الثاني/ نوفمبر، انهارت “إف تي إكس” – وهي منصة تداول العملات المشفرة الشهيرة في التي سيطرت على الإعلانات خلال مباراة السوبر بول. واُلقي القبض على مؤسسها سام بانكمان فريد في جزر الباهاما في كانون الأول/ ديسمبر ووُجهت إليه تهمة الاحتيال. أما بيتكوين، أشهر العملات المشفرة في العالم، تساوي اليوم ثلث ما كانت عليه في ذروتها المسجلة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
ينتهي إعلان “إف تي إكس” بقول ديفيد لشعار: “لا تكن مثل لاري”. لكن اليوم، يتمنى الكثيرون من بين 420 مليون شخص استثمروا في العملات المشفرة لو كانوا مثل لاري.
فهل العملات المشفرة على وشك الانقراض؟
الإجابة المختصرة: من حيث المفهوم، من المحتمل أن تنجو العملات المشفرة حسب ما قاله الخبراء لشبكة الجزيرة. لكن من المرجح أن يواجه القطاع زيادة في التنظيم وفترة ممتدة من عدم الاستقرار. وفي الأثناء، ستفنى العديد من الشركات والعملات. وحتى تنجوا، ستواجه الشركات تحديًا واحدًا قبل كل شيء ألا وهو استعادة ثقة العملاء.
هل دخلت العملات المشفرة “العصر الجليدي”
دأبت منصات تداول العملات المشفرة على جذب العملاء من خلال الترويج لوعود تحقيق عوائد سريعة على الاستثمار. ويتمثل العرض في: قم بتجميع الأموال في ما يسمى بالمحافظ المشفرة – التي تعمل بطريقة مشابهة لحسابات التوفير المصرفية – واكسب معدلات فائدة عالية، وأحيانًا بأرقام مزدوجة. وبالنسبة لأولئك الذين لا يثقون في التمويل التقليدي، كانت فرصة إجراء المعاملات دون القلق بشأن الجهة التنظيمية التي تمثل الوسيط عامل جذب إضافي.
لكن تضاءلت هذه الجاذبية بمجرد قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية الرئيسية الأخرى في جميع أنحاء العالم بالترفيع في أسعار الفائدة بشكل حاد خلال سنة 2022، مما جعل خيارات الاستثمار التقليدية أكثر ربحًا من ذي قبل. فعلى سبيل المثال، ارتفع المعدل في الولايات المتحدة بأكثر من 4 نقاط مئوية على مدار سنة 2022.
بمجرد أن شهدت كل من “تيرا يو إس دي” و”لونا” تدهوراً ملحوظاً، ساهمت مجموعة من البدائل الأكثر أمانًا وانخفاض الثقة في العملات المشفرة في اندلاع أزمة لم تنته بعد، وفقًا للخبراء. قال تيم ليونغ، مدير برنامج التمويل الحاسوبي وإدارة المخاطر في جامعة واشنطن في سياتل لشبكة الجزيرة: “أعتقد أننا سنشهد المزيد من الأخبار السيئة قبل أن تبدأ الأمور بالتحسن بشكل أفضل بالنسبة للقطاع”.
بعد أن أصبح العديد من العملاء المحتملين متشككين الآن، من المحتمل أن تشهد منصات العملات المشفرة معدلات تداول منخفضة لبعض الوقت، على حد قول ليونغ. يفخر قطاع العملات المشفرة باستقلاليته، لكنه يعتمد على التمويل من الأسواق التقليدية. وأشار ليونغ إلى أن حجم هذا التمويل الذي سيستمر في المناخ الحالي غير واضح. وقد حذّر من أنه مع انخفاض التداول وقلة التمويل، فإن العديد من الشركات الصغيرة قد تنهار.
أشار ليونغ إلى أن شركات تعدين العملات المشفرة، التي تحقق أموالًا افتراضية باستخدام أجهزة حاسوب عملاقة تستهلك الكثير من الطاقة ستعاني أيضًا. سيؤدي انخفاض الطلب على العملات المشفرة بسبب معدلات التداول المنخفضة وارتفاع أسعار الطاقة إلى ضائقة على جدوى نماذجهم التجارية. وأضاف: “أرى أن هذه المرحلة قد تستمر حتى سنة 2023 ومن المرجح أن يشهد قطاع التشفير عصراً جليدياً بدلاً من شتاء”.
لكن الخبراء لا يعتبرون هذا التدهور الاقتصادي مفاجئًا. قال ديفيد يرماك، أستاذ التمويل في كلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك: “هذا قطاع ناشئ يضم مئات الشركات والكثير من الإبداع”. وأفاد لشبكة الجزيرة أنه يتوقع فترة فوضوية للعملات المشفرة في المستقبل المنظور لكنه يعتقد أن “أفضل الأساليب ستظهر من خلال المنافسة في نهاية المطاف”. وقد أشارت الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى خطط للتدخل لحماية العملاء من تلك الفوضى. لكن يبدو أن المنظمين والمحللين منقسمون حول أفضل السبل للتدخل.
قوانين قديمة لتكنولوجيا جديدة؟
في أيلول/ سبتمبر، جادل غاري جينسلر، رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، بأن القوانين الحالية مناسبة لقطاع العملات المشفرة. ومن وجهة نظره، فإن معظم العملات المشفرة تشبه الأوراق المالية التقليدية – أي الأصول المالية القابلة للتداول مثل الأسهم أو السندات.
توافقه الرأي هيلاري ألين، أستاذة القانون بالجامعة الأمريكية في واشنطن، موضحةً أن العملات المشفرة ومنصات التداول يجب أن تفي بمعايير الحوكمة التي تطلبها هيئة الأوراق المالية والبورصات من الأوراق المالية القديمة – بما في ذلك التسجيل لدى الجهة التنظيمية وإظهار الشفافية بشأن الأصول – أو إغلاقها.
وهي ترى أنه سيكون من الخطأ استحداث قواعد جديدة لأجل صناعة العملات الرقمية، لأن “هذا من شأنه إضفاء الشرعية على فكرة أن العملة المشفرة، بطريقة ما، فريدة من نوعها ولا يمكن أن نتوقع منها أن تفي بنفس معايير الأصول المالية السائدة، وهذه الرسالة لا تخلو من الخطورة”.
يختلف العديد من الخبراء الآخرين معها. من جهته، يرى برونو بيايس، أستاذ المالية في كلية “إتش إي سي باريس” لإدارة الأعمال، أن “هناك فرقًا جوهريًا بين الأوراق المالية والعملات”. وأضاف أن الناس يستثمرون في الأسهم أو السندات بناءً على التدفق النقدي أو الأصول التي تعرضها الشركة، وهم يشترون العملة – سواء كانت دولارًا أو يورو أو عملةً مشفرة – ويثقون في أن العملات أو الأذونات ستكون مقبولة لدى الآخرين في وقت لاحق.
ويعتقد كريستيان كاتاليني، مؤسس مختبر “كريبتو إيكونوميكس” التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن محاولة تطويع الإطار التنظيمي الحالي ليلائم العملات المشفرة دون تكييفه مع التكنولوجيا الجديدة لن تنجح، مضيفًا أن ذلك لن يضمن حماية المستهلك، بل “الأسوأ من ذلك، أنه قد يقتل إمكانات الابتكار في المجال دون أي فائدة مجدية للجمهور”. ويتفق معظم المحللين على أن اللوائح الخاصة بالقطاع يجب أن تركز على نوع واحد من العملات المشفرة على وجه الخصوص ألا وهي العملات المستقرة.
ضمان استقرار “العملات المستقرة”
على عكس العملات الرقمية مثل “بيتكوين” التي يتقلب سعرها بشكل كبير، فإن قيمة العملات المستقرة مرتبطة بعملة عادية مثل الدولار الأمريكي أو الأصول التقليدية الأخرى مثل الذهب. فعلى سبيل المثال، تبلغ قيمة كل عملة تيثر، وهي العملة المستقرة الأكثر شهرة في العالم – والتي يتم تداولها غالبًا بسعر أعلى من البيتكوين – بقيمة دولار واحد. وفي الواقع، تضفي هذه القيمة بعض الاستقرار على تداولات العملات المستقرة، وفي حين أنها لا تزال تحقق أرباحًا جيدة من خلال محافظ العملات المشفرة إلا أنه من المفترض أنها أكثر أمانًا من العملات المشفرة الأخرى.
وحسب بيايس فإن مصطلح “العملة المستقرة” يستحضر صورة عملة موثوقة تمنح العملاء إحساسًا زائفًا بالأمان، وتكمن المشكلة في أنها على عكس العملات والبنوك العادية، فإن العملات المستقرة لا تخضع للتنظيم تمامًا”.
من الناحية النظرية، يعني ذلك أن من يملكون ما قيمته 100 دولار من العملات المستقرة يجب أن يكونوا قادرين على استرداد هذا المبلغ متى أرادوا – كما هو الحال مع الأوراق النقدية – إلا أنه لا يوجد في الحقيقة ضمان فعلي بأنهم سيستردون هذه الأموال، وذلك حسب ما قاله بيايس.
يحثّ مجلس الاستقرار المالي، وهي هيئة استشارية عالمية أنشأتها مجموعة العشرين بعد الأزمة المالية لسنة 2008، الاقتصادات الكبرى على اعتماد لوائح لضمان أن تُظهر العملات المستقرة قدرتها على السداد للعملاء. وفي تقرير نُشر في تشرين الأول/أكتوبر 2022، حذّر مجلس الاستقرار المالي من أن العديد من العملات المستقرة الحالية “يتم إصدارها من قبل كيانات غير مسجلة وغير مرخصة وليس لديها آليات موثوقة لدعم وعدهم باستقرار الأسعار”.
بينما يبدو المنظمون الأمريكيون مترددين بشأن الحاجة إلى قواعد جديدة، تتجه العديد من الدول والمناطق الأخرى نحو سنّ قوانين مصممة خصيصًا للتحكم في قطاع العملات المشفرة، وبالأخص، العملات المستقرة. قال كاتاليني إن هذه القواعد يمكن أن تساعد في ضمان “ازدهار الجهات الفاعلة الجيدة، واختفاء الأطراف السيئة من نظام التشفير الرقمي”.
تفرض اللائحة الجديدة للاتحاد الأوروبي، المعروفة باسم أسواق الأصول المشفرة “ميكا”، على جميع شركات التشفير التسجيل لدى السلطات. وستحتاج العملات المستقرة إلى ضمان وجود أصول لتسديد الأموال للعملاء في أي وقت، وستدخل لائحة أسواق الأصول المشفرة “ميكا” حيز التنفيذ في سنة 2024.
في حزيران/ يونيو الماضي، أصدرت اليابان قانونًا يقتصر بموجبه تقديم العملات المستقرة على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى المنظمة بشكل صارم. كما اقترحت الحكومة البريطانية أن تقوم سلطة السلوك المالي، أكبر منظم للخدمات المالية في البلاد، بالإشراف على شركات التشفير.
قال وزير المالية الهندي إن لوائح التشفير ستكون من أولويات رئاسة البلاد لمجموعة العشرين في سنة 2023. وحسب ليونغ من جامعة واشنطن، فإن وجود إطار عالمي لتنظيم العملات المشفرة ضروري بالفعل نظرًا لأن العديد من الشركات في هذا القطاع لها بصمة في جميع أنحاء المناطق الجغرافية. ولكن حتى يساعد أي من هذا في إنعاش الصناعة، فإن الخبراء يشيرون إلى أن شركات العملات المشفرة ستحتاج أولاً إلى استعادة ثقة العملاء.
أزمة الثقة
قال بيايس إن العديد من المتحمسين للعملات المشفرة سيراقبون عن كثب ما الذي ستؤول إليه حالات الاحتيال الكبيرة، مثل قضية منصة “إف تي إكس”، وإذا رأوا العدالة تتحقق، وإذا استعاد أولئك الذين فقدوا الأموال بسبب مثل هذه الحيل أموالهم، فإن ذلك سيساعد في إعادة بناء الثقة – حسب بيايس.
يعتقد بعض الخبراء، مثل ألين من الجامعة الأمريكية، أن العملات المشفرة ليس لديها الكثير لتقدمه إلى عالم المال في المستقبل؛ ذلك أنه “عندما تغض النظر عن الكلام المنمق، فإنه لا يوجد حقًا أي شيء لا يمكنك فعله باستخدام أدوات التمويل التقليدية”.
مع ذلك، لا يزال آخرون مقتنعين بأن التشفير يمثل تقنية تحويلية مع قدرته على تمكين التبادلات المالية اللامركزية من نظير إلى نظير. وقال كاتاليني من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إن “التكنولوجيا موجودة لتبقى، حتى لو تراجع عدد المشاريع الأولية في مجال التشفير”، واصفًا هذه اللحظة بأنها تشبه فقاعة الإنترنت التي انفجرت في أواخر التسعينيات عندما انهارت العديد من شركات الإنترنت المبكرة، ومن نجوا أو ظهروا لاحقًا – مثل أمازون – هم من بين “عمالقة الإنترنت اليوم”.
مع ذلك، يرى ليونغ من جامعة واشنطن أنه من الأفضل توخي الحذر إلى أن يهدأ الوضع وتظهر اللوائح الموثوقة “فأنت لا تريد اتخاذ قرارات بناءً على إعلانات سوبر باول التجارية، فهذه ليست لعبة”.
المصدر: الجزيرة