قبل نحو أسبوع، انطلقت منافسات كأس أفريقيا للمحليين، المعروفة اختصارًا بـ”الشان” في الجزائر، حدث ألقت السياسة بظلالها عليه إذ تجدّدت فيه الأزمة الجزائرية-المغربية، بسبب رفض الجزائر الترخيص للرحلة التي تقلّ لاعبي المنتخب المغربي للنزول في مطار مدينة قسنطينة التي ستحتضن المنافسات.
إلى آخر دقيقة قبل انطلاق المنافسات، لم يتأكد حضور حامل لقب النسختَين الماضيتَين للبطولة، المنتخب المغربي، من عدمه، فلاعبو الفريق كانوا في المطار ينتظرون الإذن بالسفر مباشرة عبر الخطوط الملكية المغربية من مدينة الرباط إلى مدينة قسنطينة، الأمر الذي لم يتحقّق.
غادر لاعبو أسود الأطلس المحلي مطار الرباط (سلا الدولي) بعدما تعذّر السفر إلى الجزائر، واضطروا العودة إلى أنديتهم بعدما كانوا يمنّون النفس في المشاركة بالمنافسة القارية، في مجموعة تضمّ منتخبات السودان وغانا ومدغشقر.
وبرّرت الجزائر عدم منح المنتخب المغربي ترخيص السفر مباشرة، بإغلاقها المجال الجوي أمام الطائرات المغربية عام 2021، ويحتاج المنتخب المغربي للوصول إلى الجزائر المرور عبر طرف ثالث، وغالبًا ما يتم الاستنجاد برحلات من دول أوروبية كفرنسا.
حادثة أكدت حجم الأزمة بين البلدَين رغم الحديث عن مبادرات صلح في الفترة الأخيرة رعتها بعض الدول العربية والغربية، لكنها أظهرت في الوقت ذاته اتفاق البلدَين على أمر معيّن للمرة الأولى منذ سنوات، وهو “ترذيل الصحافة وإهانة الصحفيين”، فمع بداية هذه الحادثة اشتغلت “الصحافة الصفراء” في كلا البلدَين، وأعادت واقع الصحافة المرّ هناك إلى الواجهة مجددًا.
خلافات كثيرة
قبل الخوض في واقع الصحافة المغربية الجزائرية، نتحدث قليلًا عن الاختلافات السياسية بين البلدَين، والتي جددتها مسابقة كأس أفريقيا لكرة القدم للاعبين المحليين، إذ كشفت هذه المسابقة الرياضية حجم الخلافات بين البلدَين.
وقبلها، أعاد إلغاء الملك المغربي محمد السادس لمشاركته في القمة العربية التي احتضنتها الجزائر، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ساعات قليلة قبل انطلاق القمة، الخلافات بين البلدَين إلى الواجهة، إذ فوّت محمد السادس “فرصة ذهبية” لإعادة فتح قنوات التواصل مع الرئيس الجزائري، في ظل القطيعة الدبلوماسية والخلافات التي تعيش على وقعها علاقات الرباط والجزائر منذ سنوات.
أرجع المغرب سبب ذلك إلى قيام السلطات الجزائرية بمعاملة غير دبلوماسية لوزير خارجية المملكة، ناصر بوريطة، والوفد المرافق له، وتواصُل الاعتداءات على المملكة في وسائل الإعلام الجزائرية، الأمر الذي نفته الجزائر تمامًا.
الخلافات بين البلدَين سمحت بظهور نوع من الإعلام ظننا لوهلة أنه انتهى مع انتهاء الحرب الباردة، نتحدث عن إعلام البروباغندا والتطبيل.
كانت هناك فرصة سانحة لإعادة المياه إلى مجاريها، أو لنقُل فرصة لبداية صلح بين البلدَين، لكن كلاهما لم يكن متحمّسًا لإنجاح هذه الفرصة لأسباب يعلمها القاصي والداني، فكلاهما يستثمر في الأزمة لتبرير فشل سياساته الداخلية.
في كل مرة تكون هناك فرصة لخفض حالة التوتر بين الدولتَين، أو على الأقل تجميد حالة الاستقطاب الشديد والبحث عن الحلول التي يمكن أن تؤسّس لعلاقات طبيعية بين بلدَين جارَين، إلا وتمَّ تفويت الفرصة وخلق خلافات جديدة.
ويرجع تدهور العلاقات بين البلدَين إلى أغسطس/ آب 2021، بعدما أعلنت الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الرباط، متهمة المملكة بارتكاب “أعمال عدائية” ضدها، وهو ما رفضته الرباط معتبرةً القرار “غير مبرَّر على الإطلاق”.
ودائمًا ما نشهد اتهامات متبادلة بين البلدَين، فالجزائر تتهم المغرب بجلب الكيان الصهيوني إلى حدودها الغربية وقتل عدد من رعاياها، فيما تتهم المملكة المغربية الجارة الشرقية بدعم جبهة البوليساريو واستضافة قادتها على أراضيها، وهو ما يعقّد الوصول إلى حل لمشكلة الصحراء الغربية المتواصلة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
نتيجة ذلك، تنامى سباق التسلُّح بين البلدَين، إذ يحاول كل من المغرب والجزائر تكثيف صفقاتهما العسكرية وتنويع تحالفاتهما في المنطقة، فضلًا عن الحصول على التقنيات المتطورة والبحث عن منافذ استخباراتية جديدة.
رفض المغرب المشاركة في بطولة أفريقيا للمحليين بسبب إصراره على عبور الأجواء الجزائرية (المغلقة)مباشرة من المغرب.
الاتحاد الافريقي طالب المغرب بالسفر إلى الجزائر عبر اسبانيا موريتانيا أو تونس، لكنه أصر على كسر الحظر المفروض على الطيران المغربي والاسرائيلي بقرار سيادي من طرف الجزائر pic.twitter.com/LEWFfaOvLn
— hafid derradji حفيظ دراجي (@derradjihafid) January 12, 2023
عرفت سنة 2022 زيادة وتيرة السباق المحموم نحو التسلُّح، إذ ارتفعت واردات كلا الطرفَين من الأسلحة بشكل ملحوظ خلال السنة، وذلك رغبة من كل جانب في ترجيح كفة ميزان القوى لصالحه، وهو ما ساهم في تنامي التفاوت الطبقي والاجتماعي في كلا البلدَين.
ورغم مرور أكثر من سنة ونصف على قرار قطع العلاقات، رفضت الجزائر أيّ مصالحة مع المغرب، إذ صرّح الرئيس عبد المجيد تبون مؤخرًا، في مقابلة مع جريدة “لوفيغارو” الفرنسية، أن الوساطة غير ممكنة بين بلاده والمغرب، وأن قطع العلاقات “كان بديلًا عن الحرب”.
إعلام البروباغندا والتطبيل
الخلافات بين البلدَين سمحت بظهور نوع من الإعلام ظننا لوهلة أنه انتهى مع انتهاء الحرب الباردة، نتحدث عن إعلام البروباغندا والتطبيل، إذ امتهنت عديد المؤسسات في المغرب والجزائر هذا النوع من الإعلام لتزييف الحقائق وإثارة حماسة الجمهور.
عادة يكون دور الإعلام توجيه الرأي العام وتشكيل الوعي لدى الأفراد والجماعات، لكن مع سيطرة الفاعل السياسي على الإعلام تغيّر دوره، طمعًا في رضا الحاكم وسعيًا للربح المادي على حساب الحقيقة والموضوعية.
يرى العالِم نعوم تشومسكي في كتابه “السيطرة على الإعلام – الإنجازات الهائلة للبروباغندا”، أن لوسائل الإعلام دورًا كبيرًا في تضليل الجماهير وتغييب عقولهم لتحقيق أغراض أيديولوجية وسياسية، وهو ما تأكّد في حالة المغرب والجزائر.
فرّقت السياسة بين المغرب والجزائر، لكن واقع الصحافة المرير وحّد بينهما، ذلك أن حرية الصحافة في كلا البلدَين تشهد تراجعًا في السنوات الأخيرة أثبتته عديد التقارير المحلية والأجنبية.
طيلة سنوات الأزمة، سعت عديد المؤسسات التي تصف نفسها بأنها إعلامية -وهي بعيدة كلّ البُعد عن هذا المجال النبيل- في المغرب والجزائر، في تعاطيها مع مواضيع السياسة والرياضة وغيرهما من المجالات التي تمسُّ البلدَين، إلى التركيز على النقاط التي تؤجِّج الخلاف بحثًا عن الإثارة.
وصل الأمر في بعض الأحيان إلى تجزيء خطاب أو تصريح لأحد الفاعلين السياسيين بشكل يحوِّر المعنى من أجل خلق نوع من البلبلة، ضاربين عرض الحائط مبادئ الموضوعية والمصداقية التي بُني عليها الإعلام النزيه.
أعطت السلطات في المغرب الضوء الأخضر لهذه المؤسسات للنيل من الجارة الجزائر، والشيء نفسه حصل في الجزائر، فكل شيء مباح عندهما، فالمهم هو إرضاء تسلُّط القادة، ما أثّر على الشعوب في عديد المرات ودفعهم إلى تبادل الاتهامات، وساهم في مزيد تأجيج الخلافات.
واقع صحفي “مرير”
فرّقت السياسة بين المغرب والجزائر، لكن واقع الصحافة المرير وحّد بينهما، ذلك أن حرية الصحافة في كلا البلدَين تشهد تراجعًا في السنوات الأخيرة أثبتته عديد التقارير المحلية والأجنبية، ففي تصويت غير ملزم، تبنّى البرلمان الأوروبي نصًّا يطالب السلطات المغربية بـ”احترام حرية التعبير وحرية الإعلام” و”ضمان محاكمات عادلة للصحفيين المعتقلين”.
وانتقد البرلمانيون الأوروبيون، أمس الخميس، بشدة “تدهور حرية الصحافة” في المغرب، وركز النواب الأوروبيون خصوصًا على قضية الصحفي عمر الراضي، المعروف بمواقفه المعارضة للسلطات، المعتقل منذ سنة 2020 والمدان بالسجن 6 أعوام في قضيتَي “اعتداء جنسي” و”تجسُّس”، وهما تهمتان ظلَّ ينكرهما.
كما سبق أن نشرت منظمات حقوقية، من بينها هيومن رايتس ووتش، تقارير تحدثت فيها عن استهداف صحفيين ومعارضين في المغرب “بتقنيات قمعية” من قبل السلطات لم يسلم منها حتى ذويهم، أبرزها إدانتهم في قضايا حق عام وحملات تشهير بهدف إسكات المعارضة.
#هام
البرلمان الأوروبي يعتمد بالإجماع قرارا بشأن #حرية_الصحافة و #حقوق_الإنسان في #المغرب
البرلمان الأوروبي يدين #السلطات_المغربية لقمعها حرية الصحافة وحقوق الإنسان واحتجاز الصحفيين. pic.twitter.com/0vxtKpC9TV
— AL24news – قناة الجزائر الدولية (@AL24newschannel) January 19, 2023
إلى الآن يقبع عديد الصحفيين في السجون المغربية، من بينهم توفيق بوعشرين المعتقل منذ عام 2018، بعد الحكم عليه بالسجن 15 عامًا إثر إدانته بارتكاب “اعتداءات جنسية”، وسليمان الريسوني المعتقل منذ عام 2020 بعد أن حُكم عليه بالسجن 6 أعوام للتهمة نفسها.
الشيء نفسه بالنسبة إلى الجارة الشرقية، إذ تستمر السلطات الجزائرية في اعتقال العديد من الصحفيين من بينهم الصحفي إحسان القاضي، ما يؤكد استمرار القمع الذي تمارسه السلطات ضد الأصوات الناقدة والمطالبة بإصلاحات شاملة في البلاد، رغم الوعود المتكررة من تبون باحترام حرية التعبير والصحافة.
?#منظمة_العفو_الدولية تدين تجديد حبس الصحفي #إحسان_القاضي وتنتقد ممارسات السلطة الجزائرية بالتضييق على #حرية_الصحافة في #الجزائر.
?الخبر كاملا ??https://t.co/0lUo9QOUmo
— شعاع لحقوق الإنسان (@shoaa_org) January 19, 2023
واضطر العديد من الصحفيين الجزائريين إلى طلب اللجوء في بلدان أوروبية للهرب من بطش النظام، فبعد الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لاحقت السلطات كل الأصوات الحرة وكل وسائل الإعلام الحرة، فتمَّ القبض على عشرات الصحفيين كما تمَّ إغلاق العديد من وسائل الإعلام التي رفضت الخضوع للسلطة.
بسبب هذا القمع المتزايد والتعسف في حق الصحفيين في كل من المغرب والجزائر، صنّفت منظمة “صحفيون بلا حدود” الجزائر في المركز 134 من أصل 180 دولة على مقياس حرية الصحافة، خلف المغرب التي صُنّفت في المرتبة 135.