لا يبدو أن الرئيس التونسي قيس سعيد قد استمع لأصوات المعارضين والمنظمات الحقوقية في الداخل والخارج ومسؤولي الدول الأجنبية الذين دعوه -أكثر من مرة- إلى وقف الانتهاكات وسياسة القمع والتشفي، والمضي نحو حوار عاجل بين مختلف الأطراف لإنقاذ البلاد من أزمتها الحادة.
عديد المؤشرات تؤكّد ذلك، فسعيد يواصل توجهه بفرض برنامج حكمه الفردي، مستغلًا كلّ مؤسسات الدولة، بطريقة فجة.
أبرز أساليبه، الملاحقات الأمنية والمحاكمات أمام القضاء العسكري، رغم أن القانون التونسي يحضر محاكمة المدنيين أمام قضاء عسكري، لكن عند سعّيد كل شيء مباح، بعد أن انقلب على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية.
محاكمة نواب في البرلمان
أخر فصول الانتهاكات، حصل أمس الجمعة في المحكمة العسكرية بتونس، إذ أصدر القضاء العسكري أحكامًا متفاوتة بالسجن على 5 برلمانيين سابقين متهمين في القضية المعروفة إعلاميًا “بحادثة المطار”، وفق محامي النواب.
تعود التهمة الموجهة إلى عدد من نواب البرلمان عن ائتلاف الكرامة إلى 15 مارس/آذار 2021، عندما شهد مطار “قرطاج” الدولي شجارًا بين عناصر من أمن المطار ومحامين ونواب في “ائتلاف الكرامة”، إثر محاولة الأخيرين الدفاع عن مسافرة مُنعت من مغادرة البلاد لدواعٍ أمنية بموجب ملحوظة “إس 17″، وعلى إثر ذلك، أمرت النيابة العامة بفتح تحقيق حول ما جرى في المطار.
وتقول النقابات الأمنية إن نواب ائتلاف الكرامة اقتحموا مناطق ممنوعة في المطار، واعتدوا على أعوان أمن خلال أدائهم واجبهم، فيما اعتبر النواب أنهم بصدد القيام بدورهم الرقابي، وكذلك المحامي الذي اعتبر أنه يقوم بدوره في إنابة المرأة المظلومة لدى أعوان الأمن.
نفس هذه القضية نظر فيها القضاء المدني في وقت سابق وهو ما يعتبر بدعة في تاريخ القضاء التونسي
تتمثل تفاصيل الأحكام في سنة وشهرين ضد رئيس كتلة ائتلاف الكرامة (18 نائبًا بالبرلمان المنحل من أصل 217) سيف الدين مخلوف، و11 شهرًا على مهدي زقروبة (من الكتلة نفسها) مع الحرمان من ممارسة مهنة المحاماة.
كما قضت المحكمة العسكرية على النواب في كتلة ائتلاف الكرامة: نضال سعودي بالسجن 7 أشهر، وماهر زيد ومحمد العفاس بالسجن 5 أشهر لكليهما، مع عدم سماع الدعوى في حق النائب عن ذات الكتلة عبد اللطيف العلوي.
على إثر صدور هذه الأحكام، ألقت الشرطة التونسية، القبض على النائب والمحامي سيف الدين مخلوف من أمام منزله، وقام مخلوف بتسليم نفسه للشرطة وسط شعارات تطالب بـ”سقوط الانقلاب” وتندد بالأحكام العسكرية.
سبق أن أصدرت المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة في تونس، في مايو/ أيار من العام الماضي، أحكامًا متفاوتة في هذه القضية، تقضي بسجن مخلوف 5 أشهر، وسعودي 5 أشهر، والمحامي زقروبة 6 أشهر، والعفاس 3 أشهر، وزيد 3 أشهر، والمسافر الذي وثّق الأحداث لطفي الماجري 3 أشهر، إلى جانب الحكم بعدم سماع الدعوى في حق عبد اللطيف العلوي.
واستأنف الدفاع هذه الأحكام، غير أن النيابة العسكرية طالبت بنقض الحكم الابتدائي وتسليط أشد العقوبات على المتهمين، وهو ما حصل فعليًا أمس الجمعة، حيث تم تسليط أحكام وعقوبات أشد على النواب والمحامي.
يذكر أنه نفس هذه القضية نظر فيها القضاء المدني في وقت سابق، حيث قضى المجلس الجناحي بمحكمة الناحية في تونس في القضية والوقائع نفسها، بسجن كلّ من النائبين مخلوف وزيد، والمحامي زقروبة، ابتدائيًا، مدّة 3 أشهر بتهم “هضم جانب موظف عمومي في أثناء مباشرته لوظيفته”، مع تبرئة بقية المتهمين.
القضاء العسكري في خدمة سعيد
على إثر هذه الأحكام، قال رئيس جبهة الخلاص الوطني، أحمد نجيب الشابي، إن “أسس العدل في تونس نُسِفت”، وأضاف الشابي في ندوة صحفية نظّمنها الجبهة، اليوم، “أساس العدل في هذا البلد وفي الكون ألا يُحاكم الإنسان لنفس الفعل مرتين وسيف الدين مخلوف ورفاقه الذين صدر ضدّهم أمس حكم بالسجن مع النفاذ العاجل حوكموا للمرة الثانية من أجل نفس الأفعال”.
وأشار زعيم جبهة الخلاص المعارضة إلى أن ما وقع أمس يدل على وجود روح وعقلية انتقامية لا غير وهي أبعد ما يكون عن القانون هي عقلية الغاب وفق تعبيره، مؤكدا أن “هذه الأفعال والإجراءات تدلّ بأننا نعيش مرحلة لمحاولة اغتيال الحرية وهدم الديمقراطية”.
إدانة هذه الأحكام لم تتوقف عند الأطراف السياسية المعارضة، فقد تمت إدانتها من قبل المحامين أيضا، حيث يقول المحامي التونسي سلمان الصغير لنون بوست إن “الأحكام الاستئنافية العسكرية الصادرة في حق جملة المتهمين فيما عرف بقضية المطار هي أحكام جائرة وغير قانونية باعتبارها صادرة ضد مدنيين ومن غير العسكريين”.
جدير بالذكر أن في تونس 5 أصناف من القضاء وهي: القضاء العدلي والإداري والمالي إضافة للقضاء الدستوري وكذلك القضاء العسكري وذلك عبر المحاكم العسكرية التي تعد محاكم متخصصة في القضايا العسكرية، وقد تم توسيع اختصاص هذه الأخيرة إلى النظر في جرائم الحق العام المرتكبة ضد العسكريين خلال مباشرتهم للخدمة أو بمناسبتها.
في تونس الآن، الكل مدان وفي انتظار محاكمته وسجنه، ذلك أن سعيد سنّ قوانين وتشريعات تحدّ من الحريات
هذا وأكد الصغير “أن صدور الأحكام في حق المحاميين سيف الدين مخلوف ومهدي رقروبة بالنفاذ العاجل وتنفيذها حينا من خلال التوجه مباشرة إلى منزل مخلوف لتنفيذ الحكم بالسجن مدة سنة وشهرين يبين بما لا يدع مجالا للشك غاية السلطة الحاكمة في التنكيل بمعارضيها وتوجيه رسالة إلى المحامين أولا باعتبارهم جدار الصد الأول ضد التسلط، وأخرى مفادها أن النظام الحالي لن يتراجع في فرض دكتاتورية مطلقة على جميع فئات الشعب حتى رجال القانون منهم.”
وعن ردة فعل المحاماة إزاء ما يحصل في تونس وفي حق المحامين، قال سلمان الصغير لنون بوست، إن “قواعد المحاماة لن تصمت عن هذه التجاوزات الشنيعة خاصة وأنه وقع الحكم بمنع الأستاذين من ممارسة مهنة المحاماة لمدة 5 سنوات وهو تجاوز الغاية منه التنكيل بأصحاب العباءة السوداء”.
وقبل ذلك، وصفت المحامية إيناس الحراث الأحكام “بالقاسية وغير المنصفة خاصة أنها جاءت من محكمة عسكرية”، وتابعت: “سنواصل نضالنا وسندافع عن زملائنا المحامين ونواب كتلة ائتلاف الكرامة الرافضين للانقلاب، ولن يثنينا عن نضالاتنا لا المحاكم العسكرية أو غيرها”.
الحريات في خطر
هذه الأحكام الصادرة في حق نواب في البرلمان، لم تكن الأولى من نوعها، إذ سبق أن حُكم عديد النواب والنشطاء والصحفيين أمام المحكمة العسكرية، من ذلك النائب ياسين العياري والصحفي صالح عطية، وعبد الرزاق الكيلاني، الوزير السابق والعميد الأسبق للمحامين.
وفي محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية انتهاك للحق في المحاكمة العادلة وضمانات الإجراءات القانونية الواجبة، وبموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، يُحظر على الحكومات استخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين عندما يظلّ بإمكان المحاكم المدنية العمل، وفق منظمة هيومن رايتس ووتش.
في تونس الآن، الكل مدان وفي انتظار محاكمته وسجنه، ذلك أن سعيد سنّ قوانين وتشريعات تحدّ من الحريات، ما دفع نقيب الصحفيين التونسيين إلى القول “إننا في حالة سراح مؤقت” أي أن الجميع ينتظر لحظة سجنه.
أثبتت عديد المؤشرات أن الأستاذ المساعد في القانون الدستوري والذي سمح له دستور 2014 في الوصول إلى كرسي قرطاج ورئاسة تونس لا يؤمن بالقانون، إذ يعمل على تأويله وفقا للنهج والرؤية التي تخدمه، رغم أن سبق أن ندّد بذلك قبل توليه الرئاسة.
دائما ما يؤكد سعيد أنه لا خوف على الحريات في تونس، لكن الواقع عكس ذلك، إذ حول البلاد إلى سجن، يلاحق معارضيه وحتى مسانديه، وكل من يقول كلمة حقّ، فالجميع عنده متآمرون عليه وعلى الدولة وعملاء للخارج وجب محاسبتهم.
قتل الديمقراطية وفكّك المؤسسات واحتكر السلطة، وهي المحنة التي تتطلب من السياسيين التونسيين نبذ الخلافات بينهم والوقوف صفّا واحدًا أمام قيس سعيد لمنعه من مواصلة نهجه الذي يشكّل خطرا كبيرا على مستقبل تونس.