مطلع يناير/ كانون الثاني الحالي، زار مدير المخابرات المصرية، اللواء عباس كامل، العاصمة السودانية الخرطوم، واجتمع بقائد القوات المسلحة السودانية، الجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي يحكم البلاد منذ انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
لاحقًا، اتضح أن اللواء عباس كامل كان يحمل خلال زيارته إلى الخرطوم مبادرة مصرية تقوم على طاولة حوار تجمع طرفَين، هما ائتلاف الحرية والتغيير الذي يضمّ أحزابًا ساندت الثورة الشعبية ضد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، والكتلة الديمقراطية التي تتكون من الحركات المسلحة والحزب الاتحادي الديمقراطي جناح جعفر الميرغني إضافة إلى قيادات شرق السودان.
وعلى غير المعتاد، عقد مدير المخابرات المصرية هذه المرّة اجتماعًا آخر مع قيادات من قوى الحرية والتغيير بفندق كورنثيا، شارك فيه كل من بابكر فيصل ومريم الصادق علاوة على عمر الدقير وكمال إسماعيل.
مصر غير راضية عن الاتفاق الإطاري
كان من المستغرَب اجتماع اللواء كامل مع ممثلي الحرية والتغيير، إذ كان يحرص خلال رحلاته المتكررة إلى الخرطوم على الاجتماع مع الجنرال البرهان والقيادات العسكرية فحسب، فاتضح أخيرًا أن القاهرة لم تكن راضية عن الاتفاق الإطاري الذي جرى التوقيع عليه في 5 ديسمبر/ كانون الأول الماضي بين القوى المدنية ممثّلة في قوى الحرية والتغيير “قحت” وحلفائها الاتحادي الديمقراطي وأنصار السنّة من جهة، وقادة انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 من الجهة المقابلة.
بيان قوى الحرية والتغيير: “تشكّل الورشة المزمع عقدها في فبراير/ شباط القادم منبرًا لقوى الثورة المضادة، يأملون أن يحتشدوا فيه لتقويض الجهود الشعبية السودانية لاستعادة المسار المدني الديمقراطي”
يبدو أن القاهرة كانت ترمي إلى توسيع القوى المدنية التي ستشكّل الحكومة القادمة بموجب الاتفاق، بهدف ضمان تحقيق عدد من الأهداف التي يسعى إليها النظام المصري، كأن يكون لديه قوى موالية له في الحكومة المقبلة، فالقاهرة متخوّفة جدًّا من عودة قوى الحرية والتغيير لتصبح من جديد الممثل الوحيد أو المسيطر على الحكومة القادمة، في ظل مخاوف مصر من دعم الآلية الثلاثية (بعثة الأمم المتحدة في السودان، الاتحاد الأفريقي والإيغاد) للاتفاق، وكذلك الدعم والتسهيل اللذين وجدتهما الاتفاقية من قبل الرباعية الدولية المعنية بالملف السوداني، والتي تضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات.
القوى السياسية التي تراهن عليها مصر بقوة تتمثل في فصيل من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وكيانات أخرى صغيرة محسوبة على النظام البائد، وحركات مسلحة مثل حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان جناح مناوي، فضلًا عن قيادات أهلية من شرق السودان مثل الناظر محمد الأمين تِرِك الموالي لقادة الانقلاب.
بيان شديد اللهجة
على غير المعتاد، نشر ائتلاف قوى الحرية والتغيير بيانًا قويًّا على صفحته الرسمية في منصّة التواصل الاجتماعي فيسبوك، ردًّا على التحركات المصرية، بعنوان “قوى الحرية والتغيير ترفض المشاركة في ورشة القاهرة”، برّر فيه الائتلاف رفض المشاركة في الورشة و”ليس الاعتذار”، “لأن الاتفاق الإطاري قد وضع أساسًا جيّدًا لعملية يقودها السودانيون، وقد شكّلت اختراقًا في مسار استرداد التحول المدني الديمقراطي، ما يجعل الورشة متأخرة وقد تجاوزها الزمن فعليًّا”، بحسب البيان.
وجاء في البيان أيضًا: “تشكّل الورشة المزمع عقدها في فبراير/ شباط القادم منبرًا لقوى الثورة المضادة، يأملون أن يحتشدوا فيه لتقويض الجهود الشعبية السودانية لاستعادة المسار المدني الديمقراطي”، أي أن قوى الحرية اتهمت مصر صراحة بأنها تجعل من الورشة “منبرًا لقوى الثورة المضادة”، وهذه لهجة غير مسبوقة من “قحت” تجاه القاهرة.
أما الفقرة الأخرى القوية في البيان فكانت: “نعتقد أن الموقف المصري من التطورات السياسية في السودان في أعقاب ثورة ديسمبر المجيدة يحتاج لمراجعات عميقة تتطلب تفاكرًا حقيقيًّا على المستوى الرسمي والشعبي بين البلدَين”، وهو ما يُعدّ إشارةً إلى الدور الذي لعبه نظام السيسي في تقويض الانتقال الديمقراطي في السودان عقب سقوط نظام البشير.
مبادرة اللواء عباس كامل الأخيرة قائمة بالأساس على إغراق الاتفاق الإطاري -رغم عيوبه- بأطراف موالية لمصر وللعسكر وللنظام البائد
فمنذ البداية توجّس النظام المصري من الإطاحة بالرئيس السوداني المخلوع خوفًا من انتقال رياح الثورة شمالًا، ولذلك يعتقَد أن المخابرات المصرية -وهي التي تتمتع بنفوذ كبير على الجنرال البرهان- هي التي أوحت له بفضّ اعتصام القيادة العامة في يونيو/حزيران 2019 بتلك الصورة الدموية على غرار فضّ اعتصامَي رابعة والنهضة، اعتقادًا منها أن هذه الخطوة الوحشية كفيلة بالقضاء على الحراك المؤيد للديمقراطية.
عباس كامل للبرهان: “حمدوك يجب أن يذهب”
حتى بعد أن تراجع البرهان مؤقتًا ووقّع تحت الضغط الداخلي والخارجي على الوثيقة الدستورية للشراكة مع المدنيين في أغسطس/آب من العام ذاته، ظلّت القاهرة توطّد علاقاتها مع القادة العسكريين فقط، وعندما اقترب موعد تسليم السلطة للمدنيين دعمت -إلى جانب أبو ظبي والرياض- الانقلاب الذي قاده الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 على الحكومة المدنية، وفقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
أوضحت الصحيفة الأمريكية في تقريرها أن الجنرال البرهان قام عشيّة الانقلاب بطمأنة المبعوث الأمريكي السابق جيفري فيلتمان، قائلًا إنه لا ينوي الاستيلاء على السلطة، ثم استقلّ طائرة إلى مصر لإجراء محادثات سرّية لضمان حصول خطته على دعم إقليمي.
On the eve of his coup, & hours after meeting a senior US diplomat trying to stabilize #Sudan‘s transition to democracy, Gen. Burhan flew to meet Egypt’s President Sisi, getting reassurances that the military takeover wld have regional support. https://t.co/bGoAgC7QF0
— Gabriele Steinhauser (@gksteinhauser) November 3, 2021
وطمأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي استولى على السلطة في انقلاب عام 2013 بدعم من السعودية والإمارات، زميله الجنرال البرهان، وفقًا لتقرير الصحيفة الذي لم تعلّق عليه مصر على الإطلاق.
وذكرت الصحيفة أن مدير المخابرات المصرية، عباس كامل، سافر إلى الخرطوم قبل الانقلاب للقاء الجنرال البرهان، وتجنّب رئيس الوزراء السابق حمدوك، مشيرةً إلى أن المصريين غير راضين عن قيادة حمدوك للحكومة، لا سيما انفتاحه العلني على السد الإثيوبي فضلًا عن إحجامه عن تعميق العلاقات مع “إسرائيل”، الحليف الرئيسي للقاهرة، وقال اللواء عباس كامل للبرهان، وفق أحد مستشاري الحكومة السودانية: “حمدوك يجب أن يذهب”.
عُرفت قوى الحرية والتغيير بمواقفها الصلبة في بداية الأمر ثم التنصُّل التدريجي منها، كما حدث خلال رفضها التفاوض في البداية مع العسكر بعد مجزرة القيادة عام 2019
لكل هذه المواقف وغيرها عزلت القاهرة نفسها عن السودان، إذ إن مبادرة اللواء عباس كامل الأخيرة قائمة بالأساس على إغراق الاتفاق الإطاري -رغم عيوبه- بأطراف موالية لمصر وللعسكر وللنظام البائد، لذلك وجدت المبادرة رفضًا شديد اللهجة من قوى الحرية والتغيير “قحت”.
كان من الممكن أن تلعب القاهرة دورًا مؤثرًا في المشهد السوداني، فهي قطعًا أقرب للخرطوم من واشنطن، وحتى من الرياض وأبوظبي بفعل العلاقات التاريخية التي تربط البلدَين الجارَين، لكن نتيجةً لهذه المواقف المريرة أصبحت مصر من أكثر الدول غير المرغوب في توسُّطها بين الفرقاء السياسيين في السودان، لشعور السودانيين أن مصر تستخف بهم كشعب، بدليل دعوتها إلى عقد ورشة بعنوان “آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع” في القاهرة، فعلى النقيض من ذلك تلعب الآلية الثلاثية والرباعية الدولية دور المسهِّل وليس الوصي في حلّ الأزمة التي تسبّب فيها انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول.
هل قصد السفير السعودي تحذير القاهرة؟
كان من اللافت أن السفير السعودي في الخرطوم، علي بن حسن جعفر، وبصفته ممثلًا للوساطة الدولية التي تقودها واشنطن، قد قال خلال حديثه في ورشة عمل في وقت سابق من الشهر الحالي: “يُدين أعضاء الرباعية والترويكا أية محاولات لتقويض هذه العملية السياسية بقيادة سودانية أو إثارة مزيد من عدم الاستقرار داخل السودان”، فهل كان السفير السعودي يقصد التدخل المصري بالخصوص أن زيارة اللواء عباس كامل كانت قبل تصريح السفير بأقل من أسبوع؟
أخيرًا، الاتفاق الإطاري ليس مثاليًا بكل تأكيد، ويتضمّن العديد من الثغرات ليس أقلها بقاء قادة الانقلاب في مناصبهم العسكرية وعدم خضوعهم لأي سلطة مدنية، ورغم ذلك فإن بيان قوى الحرية والتغيير الشديد اللهجة يجد الإشادة والتقدير، إذ تمسّكت “قحت” بموقفها ولم تتراجع وتشارك في الورشة.
فقد عُرفت قوى الحرية والتغيير بمواقفها الصلبة في بداية الأمر ثم التنصُّل التدريجي منها، كما حدث خلال رفضها التفاوض في البداية مع العسكر بعد مجزرة القيادة عام 2019، وكذلك رفعها لشعار “لا تفاوض لا شراكة لا مساومة” بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول.
وفي المرّتَين تراجعت قوى الحرية والتغيير عن مواقفها، بينما لا يزال شباب المقاومة السلمية متمسّكين بشعاراتهم يرفضون الاستسلام، رغم خطر الرصاص والمعتقلات والمدرّعات الثقيلة والغازات المسيلة للدموع التي تقابلهم بها القوات الأمنية كلما خرجوا إلى الشوارع.