عُرف بين أقران عصره بـ”المهندس”، شغوفًا بالرياضيات والفلك، موسوعة حَوَت العديد من أشكال وأصناف العلوم، النظرية منها والتطبيقية، قال عنه القاضي أبو القاسم صاعد الأندلسي في كتابه “طبقات الأمم”: “كان متحققًا بعلم العدد والهندسة متقدمًا في علو هيئة الأفلاك وحركات النجوم وكانت له مع ذلك عناية بالطب”.
هو أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهري، المعروف بابن السمح الغرناطي (979-1035م)، الذي وُلد في قرطبة العلم، صاحبة الفضل عليه في نبوغه وتهيئته العلمية، ثم انتقل إلى غرناطة التي احتضنته وفتحت أمامه أبواب الإبداع والتألُّق، فكانت إسهاماته الجليلة التي خلّدت اسمه بأحرف من نور.
كان المهري طبيبًا وعالمًا وأديبًا وفيلسوفًا عربيًّا مسلمًا، أما شهرته التي نالها فجاءت من إنجازاته في علوم الهندسة وحركة النجوم والأفلاك، وهي التي أعطته ميزته النسبية عن نظرائه من علماء غرناطة من البارعين في الطب والفلسفة وعلوم اللغة.
وكغيره من علماء قرطبة والأندلس وغرناطة، فقد تعرّض ابن السمح لظلم تاريخي بيّن، حين تجاهله المؤرّخون والباحثون، فبالكاد نقرأ عن إرثه وحياته، رغم مناشدات الباحثين بضرورة إعطاء تلك الرموز حقها والعمل على مشروع عروبي إسلامي شامل لتسليط الضوء على مثل هؤلاء العظام، وتبيان دورهم في إثراء حركة الحضارات.. فماذا نعرف عن رائد الهندسة في غرناطة؟
من قرطبة إلى غرناطة
كان أبو القاسم بن السمح من عائلة ميسورة الحال، ما ساعده على تلقّي العلم على أيدي كبار مشايخ وعلماء قرطبة، على رأسهم العالم المعروف أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي، عالم الرياضيات والفلك والكيمياء في الأندلس والمغرب العربي، وصاحب الفضل الأول عليه في تأهيله العلمي.
فقد كان ابن السمح تلميذًا في المدرسة التي أقامها المجريطي بعد عودته من بلاد الشرق في رحلته العلمية إلى قرطبة، حيث وجدها تعاني من هجرة علمائها وتجريف علومها، فقرر أن يعيد الأمور إلى نصابها فأنشأ “المدرسة المجريطية” لتعليم علوم الهندسة والفلك والكيمياء، لتكون أول مدرسة متخصّصة في الأندلس، والتي تحولت إلى قبلة الباحثين وطلاب العلم ممّن أردوا التخصُّص في علوم الفلك والهندسة والرياضيات.
كان لمؤلفاته حول الإسطرلاب ومختصره لكتاب “المجسطي” لبطليموس الدور المحوري في تطوير ميدان الفلك
ومن مظاهر نشأة ابن السمح المترفة أنه كان يقيم بين الحين والآخر الندوات والمحاضرات، ويدعوا إليها كبار العلماء لينهل منهم ويتعلم على أيديهم، فجمع بين مختلف العلوم واستطاع تشكيل عقليته النبوغية التي كان لها دورها فيما بعد، لكن يبدو أن قرطبة العلم لم تعُد قادرة على استيعاب طموحات الطالب الشاب المفعم بروح التعلم فقرر الانتقال إلى غرناطة، حيث كانت في ذلك الوقت قلعة علوم متوهّجة يقصدها الطلاب والعلماء والمشايخ.
واختلف الباحثون في تفسيرهم لخروج ابن السمح من قرطبة، فالبعض أشار إلى أنه خروج التنزه والترفيه، بينما الغالبية أجمعت أنها زيارة علم للبلد الذي كان مركز الحركة الفكرية في جميع الأندلس، إذ يأتون إليه العلماء من كل فجّ للنقاش والبحث في شتى أنواع العلوم، لذا وقع الاختيار عليها تحديدًا.
وحين وطأ العالم القرطبي بأقدامه ثرى غرناطة، استقبله حاكمها حينذاك، حبوس بن ماكسن الصنهاجي، الذي أغدق عليه بالمال والجاه والسلطان، وساعده في توفير البيئة المناسبة لتلقّي العلم، فصار ابن السمح من مفاخر أهل الأندلس ونخبتها وصفوتها، كما ساعده هذا المناخ الملائم في أن يكون أحد رواد الهندسة وصناعة الطب وعلم النجوم، ولمَ لا وهو الذي تتلمذ هناك على أيدي أقطاب تلك العلوم.
خزانة معرفية
لم يكن المهري من هواة التخصص العلمي الدقيق في مسيرته، إذ كان شغوفًا أن يجمع بين أكبر قدر من العلوم في الوقت نفسه، حتى وإن برع فيما بعد في الهندسة والفلك، لكنه استطاع في العقود الثلاثة الأولى من حياته أن يتقن وبشكل كبير علوم الطب والفلسفة واللغة، بجانب العلوم الشرعية التي كانت القاعدة المشترَكة لجميع الباحثين والعلماء في ذلك الوقت.
وكان لدى أبو القاسم عيادة في منزله في غرناطة، إذ كان طبيبًا ماهرًا، إلا أنه قصرها بعد ذلك على علاج أهله وأقاربه وأصدقائه، ليتفرّغ أطول فترة ممكنة في البحث والرصد في مجال حركة النجوم والأفلاك، فأنجز فيها وأبدع، وكان لمؤلفاته حول الإسطرلاب ومختصره لكتاب “المجسطي” لبطليموس الدور المحوري في تطوير ميدان الفلك، بجانب أنها باتت مراجع أساسية للباحثين في هذا العلم.
من أبرز إسهامات ابن السمح في الهندسة مؤلفه الشهير “المدخل إلى الهندسة” الذي يعتبَر شرحًا وتفسيرًا لكتاب أقليدس
ويمتدحه ابن فضل العمري في كتابه “مسالك الأبصار” بقوله: “حكيم ترفع له المبار، وطبيب تدفع به المضار، قيّم بتركيب الأدوية، وتفاضل التفضيل والتسوية، أحيا الله به القوى الحيوانية، وحفظ النفس الإنسانية، سلك بنظره في الأبدان، وملك ما ليس لأحد به يدان، ونظر في تفاريق العضل، وتفاريع ما كفى من الأغذية وفضل، واستدلّ بالنبض على ما وراءه، وعرف دواءه على الحقيقة وداءه، بحدس صحيح حصر حتى ضيّق المجاري واتساعها، وانحطاط الدرجات في الأدوية وارتفاعها، إلى غير ذلك من أسباب في علوم، وحساب، ونجوم، وأمور كان بها يقوم”.
رائد علم الهندسة في غرناطة
من أبرز إسهامات ابن السمح في الهندسة مؤلفه الشهير “المدخل إلى الهندسة” الذي يعتبَر شرحًا وتفسيرًا لكتاب أقليدس، وعدّه البعض واحدًا من أفضل ما كتب في الهندسة، حيث خصّص هذا الكتاب للحديث عن أنواع الخطوط في الرسم الهندسي من خط مستقيم ومتقوّس ومنحنٍ وغير ذلك من العديد من تلك الأجزاء.
وممّا قيل في فضل هذا الكتاب ما ذكره حاجي خليفة في كتاب “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون” في حرف الكاف، حين قال: “كان كتاب الهندسة للعالم أبي القاسم ابن السمح من أكبر وأهم الكتب التي حققت نجاحًا وازدهارًا كبيرًا في القرن الخامس للهجري، كما أنّه اشتهر بشكلٍ كبير وخاص في غرناطة ودامت شهرته إلى حوالي ستة وخمسين سنة ميلادية”.
هناك أيضًا كتاب “المعاملات”، والذي سمّاه بعض الباحثين باسم “ثمار العدد”، إذ يتناول وصفًا توضيحيًّا وشاملًا عن كل أمور الرياضيات والهندسة والعدد، ومن مؤلفاته التي أثرت الخارطة العلمية العربية والإسلامية، بجانب استمرار تأثيرها وحضورها حتى اليوم، كتاب كبیر في الهندسة، تحدث فیه عن خواص المستقیم والمقوّس والمنحني، وكتابان عن الأسطرلاب، أحدهما التعریف بصورة صنعة الأسطرلاب في مقالتَین، والآخر كتاب العمل بالأسطرلاب في 130 بابًا (وتوجد نسخة من الكتاب الثاني في صورة مخطوطة في المتحف البريطاني).
ومن كتاباته التي أثرت العلوم الرياضية “الزيج” الذي استمدَّ مادته وفكرته من كتاب “السند هند”، وكتاب في النجوم تناول فيه شرحًا مفصّلًا عن الكواكب وحركة الأفلاك، وهناك “الكافي في الحساب الهوائي”، وهو أقرب إلى رسالة في الحساب الذهني للأرقام الكبیرة في 10 أبواب، إضافة إلى ذلك هناك عدة مؤلفات في الطب والحفاظ على الصحة، وبعض الرسائل التي لم تصل بعد لكنها حاضرة وموثّقة بشهادة المؤرخين.
وبعد رحلة ممتدة أثرى فيها علوم الهندسة والرياضيات، وأبلى بلاء حسنًا في مجال حركة النجوم والأفلاك، بخلاف إسهاماته الجليلة في علوم الطب والصحة العامة، تلك الإسهامات التي بقيت خالدة حتى اليوم وشاهدة على هذا التأثير الفذّ الذي قدّمه العالم الأندلسي، توفي أصبغ المهري في غرناطة عام 1035 عن 56 عامًا قضى جُلّها في خدمة العلم.