ترجمة نون بوست
في الوقت الذي تراجعت فيه قيمة العملة المصرية لأدنى مستوياتها، اختفى مقال صدر هذا الشهر – يتحدث عن التراجع الاقتصادي الحاد – من على الصفحة الأولى لإحدى الصحف الرئيسية، فكما يعلم المحررون، تصبح الرقابة المصرية حساسة بشأن أي حديث عام عن الأزمة، خاصة عندما يقع اللوم على الحكومة.
ومع ذلك، يحتاج المصريون بشدة لقراءته ليعلموا أن البساط سُحب من تحت أرجلهم، فأسعار البقالة ارتفعت بشكل جنوني، والنقود فقدت أكثر من نصف قيمتها عما كانت عليه قبل عام، بالنسبة للكثيرين أصبح البيض رفاهية، واللحم ليس خيارًا مطروحًا من الأساس.
وبالنسبة للآخرين المحملين بثقل الرسوم المدرسية والنفقات الطبية، فإن الطبقة الوسطى التي عملوا بجد للحفاظ عليها أصبحت تتفلت من بين قبضتهم.
تقول مي عبد الغني – 30 عامًا – مسؤولة الاتصالات في مؤسسة غير ربحية بالقاهرة: “حتى الآن، لا شيء يلوح في الأفق، لا شيء مطلقًا”، يعمل زوجها – مهندس تصميم – في 4 وظائف لتغطية احتياجاتهم الأساسية، أما خططهم لشراء سيارة وإنجاب أطفال لم تعد قابلة للنقاش هذا العام.
تقول عبد الغني: “كل ما أفكر فيه كيف سنتمكن بهذه الميزانية من إطعام أنفسنا فقط، ففي كل مرة أذهب فيها للتسوق يغلي الدم في عروقي”.
بدأت الأزمة تلوح في الأفق شهر فبراير/شباط الماضي عندما غزت روسيا أوكرانيا لتزلزل دول الشرق الأوسط، ففي مصر، كشفت الحرب عن العيوب العميقة لطريقة إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي ومساعديه للاقتصاد، مما يعرض قيادتهم الاستبدادية لمستويات خطيرة من غضب العامة وشركائهم في الخارج.
تحت الضغط، اضطرت الحكومة للالتزام بتغييرات طويلة المدى قد تحقق النمو في النهاية عند الالتزام بها، لكنها تسبب معاناة المصريين الآن.
عندما اندلعت الحرب، اختفى السياح الروس والأوكرانيون الذين كانوا يشكلون ثلث زوار مصر، بالإضافة إلى القمح المستورد الذي يطعم السكان، هربت الاستثمارات الأجنبية ومعها نحو 20 مليار دولار.
وفي تلك البلاد التي تعتمد بشدة على البضائع الأجنبية، فقد أدى مزيج من العوامل – ندرة الدولار وارتفاع أسعار الاستيراد والمدفوعات المستحقة نظرًا للديون الحكومية الهائلة – إلى كارثة.
للمرة الرابعة خلال 6 سنوات، تلجأ حكومة السيسي إلى صندوق النقد الدولي للمساعدة، فقد تلقت 3 مليارات دولار خلال 4 سنوات، وهو مبلغ أقل بكثير من قبل وبشروط أكثر صرامة.
استخدمت مصر الدولار منذ فترة طويلة لدعم الجنيه، للحفاظ على قدرة مصر على استيراد البضائع، وقد أجبرها صندوق النقد الدولي على تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار دون تدخل.
وفي مطلب يضرب هيكل السلطة المصرية، طلب صندوق النقد الدولي من مصر بيع بعض الشركات المملوكة للدولة لجمع المال وتجريد الشركات المملوكة للجيش من الإعفاءات الضريبية وغيرها من الامتيازات، والسماح للشركات الخاصة بالمنافسة.
كانت حكومة السيسي – الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري عام 2013 – قد سلمت مساحات ضخمة من موارد مصر للجيش الذي يدير اقتصادًا موازيًا منذ فترة طويلة، هذه الأصول تضمنت مصانع مكرونة وأسمنت مملوكة للجيش وفنادق وإستديوهات سينما، كان الخبراء قد حذروا من أن هذا النمو يخنق البلاد.
تحت حكم السيسي، أنفقت مصر المليارات على مشاريع ضخمة لامعة مثل العاصمة الإدارية الجديدة والطرق السريعة والكباري والقصور الرئاسية، بدعوى أنها ضرورية للتنمية، هذه المشاريع ممولة بالديون، ولم تقدم أي إنتاج مفيد من وظائف أو إسكان أو غيرهم من المكاسب، والآن بحسب شروط القرض فإن مصر قد تعهدت بخفض الإنفاق.
يقول تيموثي كالداس، المحلل بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط ومقره واشنطن: “إنهم في أزمة حقيقية، فبسبب تصرفات النظام المتهورة في إدارة الاقتصاد، أصبحت مصر ضعيفة للغاية، هذه الصفقة مع صندوق النقد الدولي تمنعهم من السقوط، لكنها تفرض شروطًا كثيرة لم تفرضها من قبل”.
بعد صفقة القرض الأخيرة، بدأت الاستثمارات الأجنبية تعود ببطء، وعاد الدولار يتدفق إلى البلاد وخرجت البضائع المستوردة من الموانئ، وزادت الآمال بتراجع التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته في الـ5 سنوات الأخيرة بنسبة 21%.
لكن معاناة معظم المصريين مستمرة كما كانت منذ سنوات حيث تضيق الحكومة الإنفاق على الصحة العامة والتعليم والإعانات، ورغم قرض صندوق النقد الدولي في 2016 بقيمة 12 مليار دولار، فإن الاقتصاد لم يتمكن من توفير وظائف ثابتة أو يقلل نسبة الفقر.
فحتى قبل جائحة كورونا التي أضعفت الاقتصاد المصري منذ بدايتها في 2020، قدرّ البنك الدولي أن نحو 60% من المصريين فقراء، والآن انحدر المزيد إلى مستوى الفقر رغم أن مصر مؤخرًا دعمت برامج رعاية اجتماعية وأجلّت خفض الدعم عن الخبز.
في مؤسسة أبواب الخير – التي تدعم 1500 أسرة في مصر – تراجعت التبرعات بينما ارتفعت الأسعار، ويقول مؤسسها هيثم التابعي إنهم توقفوا عن قبول حالات جديدة ورفضوا مناشدات زيادة الدعم النقدي.
في العام الماضي تلقت المؤسسة الكثير من المكالمات لعائلات من الطبقة المتوسطة الذين لم تعد تغطي رواتبهم العلاج ورسوم المدارس، يقول التابعي: “هؤلاء الناس كانوا يستطيعون سد احتياجاتهم برواتبهم، والآن أصبحوا محتاجين”.
تقول عبد الغني إنه عندما ارتفعت الأسعار في مارس/آذار الماضي، قررت هي وخطيبها آنذاك الزواج 6 أشهر مبكرًا عن الموعد المحدد، كان سباقًا ضد التضخم، فقد اعتقدا أن الإسراع بالزواج سيعني دفع إيجار شقة واحدة بدل اثنتين وشراء الأثاث قبل ارتفاع الأسعار بشدة.
قضى الزوجان شهر العسل في صعيد مصر، وعندما عادا بعد أسبوع إلى القاهرة كانت تكلفة شراء مكيفيّ الهواء اللذين خططا لها قد تضاعفت، والآن لا يمكنهم إلا شراء واحد فقط.
هذه الأيام أصبحت تكلفة شراء البيض واللبن والجبن في الشهر 4 أضعاف ما كانوا يدفعونه العام الماضي، بينما تضاعفت أسعار اللحوم والدجاج والسمك 3 أضعاف، أما تكلفة جرعات الإنسولين التي تحتاجها عبد الغني فقد ازداد ثمنها 7 أضعاف.
تقول عبد الغني – التي حصلت مؤخرًا على درجة الماجستير من جامعة بريطانية كانت لتضمن لها مستوى الطبقة المتوسطة – “ترتفع الأسعار بجنون كحمى لا يمكن السيطرة عليها، هذا ليس طبيعيًا، أن أدفع كل هذا المال لمجرد شراء الأساسيات فقط”.
مع ارتفاع الأسعار، انخفض الجنيه المصري من قيمة 16 جنيهًا أمام الدولار العام الماضي إلى نحو 30 الآن، أما زوج عبد الغني فقد تم تسريحه من 4 وظائف مختلفة حيث تحاول الشركات خفض النفقات، والآن يعمل في 4 وظائف جديدة، فيعود من مكتبه في الـ6 مساءً ليعمل عن بعد حتى الـ1 صباحًا.
وقد أصبح الآن يستخدم المواصلات العامة بدلًا من “أوبر” وتوقف الزوجان عن تناول اللحوم نصف الأسبوع، ورغم كل ذلك تقدر عبد الغني أنهما ينفقان 4 أضعاف ما كانا ينفقانه على الطعام والمواصلات من قبل.
تقول عبد الغني: “يتحدث الجميع في الأسواق عن ارتفاع الأسعار ولا يصدقون كيف سيستمرون في حياتهم بهذا الشكل”.
نتيجة ازدياد استياء العامة الذي أدى للإطاحة برئيس من قبل في ثورة 2011، تلقي الحكومة باللوم في هذه الأزمة على حرب أوكرانيا والجائحة، بينما تنشر القنوات التليفزيونية التابعة للدولة مقاطع للأوروبيين وهم يشكون من التضخم، لتذكير المصريين بأنه حتى الدول الغنية تعاني أيضًا.
قال السيسي في خطابه الأسبوع الماضي: “هل خضنا مغامرة بددنا فيها أموال مصر؟ لا، فالظروف صعبة على العالم كله، هذه الأزمة ليست أزمتنا، لكن مصر تدفع الثمن مثلما تدفعه جميع دول العالم”، كما وبخ المصريين القلقين على وسائل التواصل الاجتماعي مطالبًا إياهم أن يصمتوا.
ومع ذلك، حتى الأصوات التابعة للحكومة بدأت في الشكوي، فقد قال عمر أديب – مقدم تليفزيوني بارز -: “في كل بيت مصري، غني أو فقير، هناك حالة قلق وخوف من المستقبل”.
يقول المحللون إن وعود مصر بزيادة نمو القطاع الخاص قد يجني ثماره خلال سنوات، إذا لم تخدعهم الحكومة أو تماطل مثلما فعلت من قبل، ونظرًا لهيمنة الجيش فمن غير المرجح أن يتنازل عن امتيازاته وأرباحه بسهولة.
ومع ذلك، فقد نفدت خيارات مصر، يقول كالداس إن صندوق النقد الدولي بنى آليات لمراقبة وتنفيذ الصفقة التي لا تترك لمصر خيارًا إلا الإذعان، ورغم أن قطاعات الجيش قد تقاوم ذلك، فإن انتقاد الشخصيات الموالية للحكومة يشير إلى أن بعض من في السلطة يفهمون حاجة الاقتصاد إلى التغيير.
تقول سارة سميرسياك الباحثة في مبادرة هارفرد للشرق الأوسط إنه حتى لو التزمت مصر، فقد يستمر الجيش في السيطرة على الأصول ببيعها إلى شركات خاصة يرأسها ضباط متقاعدين، فالجيش بالفعل يسيطر على بعض الشركات الخاصة ظاهريًا ويقودها هؤلاء المتقاعدون.
لم تتعهد مصر أيضًا بكبح جماح سيطرة الجيش على الأراضي والموارد الطبيعية التي تعد أكثر قيمة من شركاته التجارية، تقول سميرسياك: “تجريد امتيازات هذه المجموعات ليس واقعيًا من الناحية السياسية”.
وتضيف “فحتى لو خُصصت جميع الشركات التابعة رسميًا للجيش – وهو أمر لن يحدث في المستقبل المنظور – سيظل ذلك مجرد جزء صغير نسبيًا من الموارد الاقتصادية التي يسيطر عليها الجيش”.
المصدر: نيويورك تايمز